سعد بن أبي وقاص ثلث الإسلام

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ فضائل سعد بن أبي وقاص 2/ قصة إسلام سعد 3/ مناقب سعد وجهاده 4/ اعتزاله الفتن ووفاته 5/ دروس تربوية من سيرة سعد بن أبي وقاص.

اقتباس

ذكر الذَّهبي في "سِيَرِه": "إنَّه لما احتضرَ، قال ابنه مصعب بن سعد: كان رأسه في حِجْري، فبكيتُ، فرفع رأسه إليَّ، فقال: أيْ بُنيَّ، ما يُبكيكَ؟، قلت: لمكانِكَ، وما أرى بكَ، قال: لا تبكِ؛ فإن الله لا يُعَذِّبُني أبدًا، وإني من أهل الجنة؛ قال الذهبي: صَدَقَ والله؛ فهنيئًا له". وكانت وفاته -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سنة خمسٍ وخمسين من الهجرة، في قصره بالعقيق، وأوصى أن يُدْفَنَ في جُبَّة صوفٍ، وقال: "لقيتُ المشركين فيها يوم بدرٍ، وإنَّما خبأتُها لهذا اليوم"...

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله..

 

قال الله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ* وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان:14،15].

 

أحبتي: لهذه الآيات الكريمات قصة فذةٌ رائعة، اصطرعت فيها طائفة من العواطف المتناقضة، في نفس فتًى طري العود، فكان النصر للخير على الشر، وللإيمان على الكفر.. فمن يا ترى بطلُ هذه القصة.؟ بطلها فتى من أكرم فتيان مكة نسباً، وأعزهم أماً وأباً.. إنه الفتى سعد بن أبي وقاص واسم أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي. الأمير أبو إسحاق القرشي الزهري المكي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.

 

أحد العشرة المبشرين بالجنة وآخرهم موتًا، وأحد السابقين الأولين، وأحد من شهد بدراً والحديبية، وبايع تحت الشجرة، من المهاجرين الأولين الذين صلوا القبلتين، وأول من رمى بسهم في سبيل الله وأحد الستة أهل الشورى. وقد وصفته ابنته عائشة بنت سعد فقالت: "كان أبي قصيرًا، دَحْداحًا، غليظًا، ذا هامَةٍ"، وجاء في بعض الروايات: أنه كان يميل إلى السُّمْرة.

 

كان سعدٌ حين أشرق نور النبوةِ في مكة شاباً ريان الشباب، غضَّ الإيهاب رقيق العاطفة كثير البر بوالديه شديد الحب لأمه خاصة.. حمنة بنت سفيان بن أبي أمية بن عبد شمس.

 

ولقد قصَّ قصة إسلامه على ابنته عائشةَ بنتِ سعد فقال: "رأيتُ في المنامِ قبلَ أن أسلم بثلاثِ ليالٍ كأني في ظلمة لا أبصر شيئاً وبينما كنت أتخبط في لُجَجِها إذ أضاء لي قمرٌ فاتبعتُهُ، فرأيتُ نفراً أمامي قد سبقوني إلى ذلك القمر.. فنظرت من سبقني إلى ذلك القمر فأنظر إلى زيد بن حارثة وإلى علي بن أبي طالب وإلى أبي بكر، فقلت لهم: منذُ متى وأنتم ها هنا؟! فقالوا: الساعة.. ثم لما طلع عليَّ النهار بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو للإسلام مستخفياً، فعلمت أن الله أراد بي خيراً وشاء أن يخرجني بسببه من الظلمات إلى النور.. فمضيت إليه مسرعاً حتى لقيته في شعب أجياد قد صلى العصر، فأسلمت".

وبإسلامه صار ثلث الإسلام كما قال، ولعله أراد أنه ثالث الرجال والله أعلم.

 

أحبتي: ولم تنته قصة إسلام سعد -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بهذا الإنجاز بأن كان من السابقين، وتبع هذا السبق عَنَت عظيم أضاف لسيرته -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إنجازاً تحدث عنه القرآن وأصبح آيات تتلى إلى يوم القيامة قال -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: وما أن سمعت أمي بخبر إسلامي حتى ثارت ثائرتُها وكنت فتى براً بها محباً لها فأقبلت عليَّ تقول: "ما هذا الدين الذي اعتنقته فصرفك عن دين أمك وأبيك؟!"، ثم حَلَفَتْ أن لا تكلِّمه أبدًا حتى يَكْفُرَ بدِينه، ولا تأكل ولا تشرب حتى تموت، فيتفطر قلبه حزناً عليها ويأكله الندم على فعلته التي فعل وتعيره الناس بقاتل أمه أبد الدهر.

 

قال -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: ومَكَثَتْ ثلاثًا، وهزل جسمها ووهن عظمها وخارت قواها حتى غُشِيَ عليها من الجَهْد، فجعلت آتيها ساعة بعد ساعة أسألها أن تبلغ بشيء من الطعام أو قليل من شراب فتأبي ذلك أشد الإباء وتعيد قسمها أن لا تأكل ولا تشرب حتى تموت أو يدع دينه!!

 

عند ذلك حسم -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الموقف فقال: "يا أُمَّاهُ، إني على شديد حبي لك لأشد حباً لله ورسوله، وواللهِ لو كانت لك مِائةُ نَفْسٍ، فخرجتْ نَفْسًا نَفْسًا؛ ما تركتُ ديني هذا؛ فإن شئتِ فَكُلي، وإن شئتِ لا تأكلي"، فلما رأت الجد مني أذعنت للأمر وأكلت وشربت على كره منها فأنزل الله فينا: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) [لقمان: 15].

 

هذه قصة إسلام فتى يافعاً لم يكمل السابعة عشر من عمره، وله من المكانة الاجتماعية بحكم رفيع نَسَبه ما يغري كثيراً من فتيان قريش بالإسلام.. وكانت هذه البداية القوية من هذا الشاب اليافع علامة فألٍ بأن يكون له دورٌ بارزٌ في هذه الدعوة الفتية وقد كان كذلك -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-..

 

أيها الإخوة: مكانة سعد مكانة عظيمة لقربه من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد كان يفتخر بها فقد كَانَتْ أُمُّ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: أَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ" (رواه الترمذي وصححه الألباني).

 

وقد شهِد -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- المشاهد كلَّها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشهد بدرًا وأُحُدًا والخندق، وغيرها من معارك المسلمين الفاصلة.. وقد فداه النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بأبوَيْه يوم أُحُدٍ، عندما رأى شجاعته واستبساله في الدِّفاع عنه -صلى الله عليه وسلم- وكان من أمهر رُماةِ العرب فَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: يَا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي" (رواه البخاري).

 

 وَعن سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ قال: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: نَثَلَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: "ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي" (رواه البخاري) أي: استخرج لي ما فيها من سهام لأرمي بها المشركين.

 

وعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ لَهُ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ. [أي: أثخن فيهم وعمل فيهم عمل النار] فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي.. قَالَ: فَنَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَصْلٌ فَأَصَبْتُ جَنْبَهُ فَسَقَطَ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى نَوَاجِذِهِ. (رواه مسلم) [أي: فرحًا بقتله عدوه لا لانكشافه].

 

وكان في موقعة أُحُد من أشدَّ الناس قتالاً عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- هو وطلحة بن عبيد الله -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-.

 

وقد كانت لسعدٍ مواقفُ عظيمةٌ، تدلُّ على شجاعته ونُصْرَته لهذا الدِّين وحبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- فَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَهِرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ، لَيْلَةً، فَقَالَ: «لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ» قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلَاحٍ، فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَا جَاءَ بِكَ؟» قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ نَامَ. وفي رواية فَنَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ. [هو صوت النائم المرتفع] (رواه مسلم).

 

وكان قائدًا لجيش المسلمين في معركة القادسية الشهيرة، وعلى يديه فُتِحَتْ مدائنُ كِسْرى، وكَوَّفَ الكُوفة. وللقادسية حديث خاص..

 

أيها الإخوة: ومن المواقف التي تدلُّ على ورعه وتقواه: أنه اعتزل الفتنة التي حدثت بين الصحابة، وجاء إليه أصحابه، وقالوا: "يا سعد، ألا تشارك معنا في القتال.؟"، قال: "لا، حتى تأتوني بسيفٍ له عينان ولسان، يقول: هذا مؤمنٌ، وهذا كافرٌ، وأنشد يقول:

لاَ تَخْلِطَنَّ خَبِيثَاتٍ بِطَيِّبَةٍ *** وَاخْلَعْ ثِيَابَكَ مِنْهَا وَانْجُ عُرْيَانَا

 

قال ابنه عامر بن سعد: "كان سعد بن أبي وقاص في إبِلِهِ، فجاء ابنه عُمر، فلما رآه سعد قال: "أعوذ بالله من شَرِّ هذا الرَّاكب"، فنزل فقال له: "أَنَزَلْتَ في إِبِلِكَ وغَنَمِكَ، وتركتَ الناس يتنازعون المُلْكَ بينهم؟"، فضرب سعدٌ في صدره فقال: "اسكتْ، سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله يُحِبُّ العبدَ التَّقِيَّ الغَنِيَّ الخَفِيَّ" (رواه مسلم).

والمراد بالغني: غني النفس، والخفي: المنقطع إلى العبادة، والاشتغال بأمور نفسه، لا يبغي منصبًا ولا شهرة.

 

وذكر الذَّهبي في "سِيَرِه": "إنَّه لما احتضرَ، قال ابنه مصعب بن سعد: كان رأسه في حِجْري، فبكيتُ، فرفع رأسه إليَّ، فقال: أيْ بُنيَّ، ما يُبكيكَ؟، قلت: لمكانِكَ، وما أرى بكَ، قال: لا تبكِ؛ فإن الله لا يُعَذِّبُني أبدًا، وإني من أهل الجنة؛ قال الذهبي: صَدَقَ والله؛ فهنيئًا له".

 

وكانت وفاته -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سنة خمسٍ وخمسين من الهجرة، في قصره بالعقيق، وأوصى أن يُدْفَنَ في جُبَّة صوفٍ، وقال: "لقيتُ المشركين فيها يوم بدرٍ، وإنَّما خبأتُها لهذا اليوم"، وعمره آنذاك ثمانٌ وسبعون سنةً، ودُفِنَ بالبقيع، رضي الله عن سعد وأرضاه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة: وبعد هذا الذكر المختصر لسيرة علمٍ من أعلام الإسلام أحبُ أن أقف معكم ومع نفسي موقين:

 

الأول: ما نصيب هذه السير العطرة من مجالسنا مع أسرنا مع أصحابنا.. في استراحاتنا في مخيماتنا.. ما نصيبها فيما نسمع من قصص وننظر إليه من مقاطع إن لم نقع ببعضها بالحرم لم نسلم من مشاهدتها من ضياع الوقت..

 

ومتى ما طرقت أسماعنا هذه السير ووصلت إلى قلوبنا فلنبشر بالخير فسيورثنا السماع اقتداءً وحباً، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ [أي: في العمل والفضيلة أي لم يعمل مثل عملهم]، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:"الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ". [مصاحب لمن أحبه في الدنيا بمنزلته في الآخرة] (رواه البخاري ومسلم).

 

الثانية: لأبنائي الشباب هكذا كان شباب الصحابة حباً للدين وعملاً له، ثم بعداً عن الفتن ومواطنها ولو شاء سعد لتولى إمارة المؤمنين ولكنه آثر السلامة والبعد عن مواقع الزلل لذى فإني أحذر وأؤكد على شبابنا البعد عن مواقع الريب والفكر الضال الذي يورث المهالك..

 

وصلوا وسلموا..

 

 

المرفقات

بن أبي وقاص ثلث الإسلام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات