اقتباس
وقول جبريل -عليه السلام-: "وأحبب من شئت فإنك مفارقه)؛ أي: أحبب من شئت من والدين وزوجة وأولاد وإخوة وأخوات وأرحام وخِلان، ومال ومنصب وجاه وغير ذلك من متاع الحياة الدنيا وما وهبك الله -تعالى- فيها فإنك عما قريب ستفارقه ولا بُد...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنه من أعظم التوفيق والخير والفلاح أن يُوفق العبد لتدبر ما في الكتاب العزيز من عبر وعظات ودلائل على وحدانية الله -تعالى- واستحقاقه جل وعلا العبادة وحده دون سواه، وبيان الخير كله وسبيله والصراط المستقيم الموصل له لُيسلكه، وبيان عاقبة الإيمان والتقوى، وبيان الشر وسُبله ليحذرها ويسأله -جل وعلا- السلامة منها، وكذا ما ورد في السنة المطهرة من أحاديث فيها الخير العظيم وبيان الحق من الضلال، والهداية للصراط المستقيم، ومما ورد في السنة داعٍ لتأمله وتدبره والوقوف معه والاهتداء به وكلها كذلك ما رواه الصحابي الجليل جابر بن عبدالله بن حرام -رضي الله عنهما- قال: جاء جبريل -عليه السلام- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: "يا محمد: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس"(رواه الحاكم والطبراني وصححه الألباني).
فهذا الحديث الشريف اشتمل على وصايا عظيمة وجُمل نافعة من هذا الملك الكريم جبريل -عليه السلام– فيها الهدى والخير والفلاح لمن عمل بها وسلك سبيلها.
فقول جبريل ــــعليه السلامـــــ: "عش ما شئت فإنك ميت"، أي: مهما طال عمرك يا ابن آدم في هذه الحياة وتقلبت في أصناف النعم والعطايا فإن الموت نهايتك وهو ملاقيك، ذلك أنه مصير كل حي ومنتهاه في هذه الحياة الدنيا، كما قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)؛ فلا نجاة ولا مهرب منه.
فيجب اليقين بالموت وأنه يأتي بغتة وقد يكون العبد في غفلة عنه، فهنيئاً لمن استعد لفجأة الموت ولقاء الله -تعالى- وتزود قبل الرحيل بالأعمال الصالحة، وأبرأ ذمته من حقوق الله -تعالى- وحقوق عباده، ولم يغتر بالحياة الدنيا ويركن إليها عملاً بأمر الله -تعالى-القائل: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)؛ فهذا سبيل الموفقين.
وقول جبريل ــــعليه السلامـــــ: "وأحبب من شئت فإنك مفارقه)؛ أي: أحبب من شئت من والدين وزوجة وأولاد وإخوة وأخوات وأرحام وخِلان، ومال ومنصب وجاه وغير ذلك من متاع الحياة الدنيا وما وهبك الله -تعالى- فيها فإنك عما قريب ستفارقه ولا بُد، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله"(رواه البخاري).
فالاستعداد لفراق كل محبوب وعدم التعلق به التعلق المذموم واستحضار الفُرقة يوماً ما أمر مطلوب، حتى إذا وقع ذلك ولا بد منه يكون العبد قد تأهب لذلك مستحضراً له فيخف وقعه عليه؛ فالفِراق واقع لا محالة إذ هو طبيعة الحياة الدنيا، فمن العقل والتوفيق: أن يهتم العبد بالرفيق الذي لا يفارقه في الدنيا والآخرة وهو عمله الصالح فيُحسن صناعته في دُنياه ليسعد به في قبره ويوم لقاء ربه.
وقول جبريل ــــعليه السلام ــــ: "واعمل ما شئت فإنك مجزي به"؛ أي : أن كل عمل لك في حياتك مدون إما في صحيفة حسناتك أو صحفية سيئاتك فُمجازى بالحسنات إحساناً وبالسيئات عقوبة ما لم يغفر الله -تعالى- لك، فما عملت في الدنيا من خير أو شر دق أو عظًم فإنك لاقيه ومجزي به يا ابن آدم، يقول الله -تعالى-: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)؛ فإذا أيقن العبد بذلك دعاه لترك كل عمل قبيح يسوؤه أن يلقاه في صحيفته يوم الدين، وحمله على حُسن العمل ليلقى حُسن الجزاء يوم الدين.
وقول جبريل -عليه السلام-: "واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل"، فيه إشارة إلى أن تعويض المؤمن عما يفوته من شرف الدنيا المنهي عن الحرص عليه ومصيره الزوال بقيام الليل فذاك الذي به رفع الذكر وشرف القدر، وهو دأب النبي -صلى الله عليه وسلم- والصالحين من هذه الأمة بعده الذين جاء وصفهم في قوله تعالى: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم"(رواه الترمذي)؛ فهنيئاً لأصحاب قيام الليل الذين خالفوا شهوة النوم وقاموا لله -تعالى- ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً شرف الدنيا وشرف الآخرة بالدرجات العالية.
وقول جبريل -عليه السلام-: "وعزه استغناؤه عن الناس"، العزة مطلب لكل نفس أبية، وإن من أعظم أسباب نيل العزة: التعلق بمن العزة بيده -سبحانه-، وترك التعلق بمن دونه ممن لا يزيد التعلق بهم إلا ذلًا وهوانًا، قال عمر -رضي الله عنه-: "إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، إنه من ييأس عما في أيدي الناس يستغنى عنهم".
اللهم وفقنا لحُسن الاستعداد للقائك، وحُسن العمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، والله -تعالى-أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم