زهرة الدنيا.. والناس إزاءها

محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ أحوال الناس إزاء اكتساب المال 2/ مضارُّ الشَّرَه 3/ فوائد الاقتصاد 4/ شكر الغنيّ 5/ صبر الفقير

اقتباس

فالمقتصِد من الدنيا يأخذ من حلالها -وهو قليل بالنسبة إلى حرامها- قدر بُلْغته وحاجته، ويجتزي من متاعها بأدناه وأخشنه، ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلا إذا نفد ما عنده وخرجت فضلاته، فلا يوجب له هذا الأخذ ضررًا ولا مرضًا ولا هلاكًا، بل يكون ذلك بلاغًا له مدة حياته، ويعينه على التزود لآخرته، وهذا إشارة إلى مدح من أخذ من حلال الدنيا بقدر بلغته، وقنع بذلك..

 

 

 

 

الحمد لله الذي كتب الآثار والأعمال، وقسم المعايش والأموال، خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً وهو على كل شيء قدير. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [التّغَابُن:2].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والنظير، وتعالى عن الشريك والظهير.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أعرف الخلق بربه، وأقومهم بأمره، وأنصحهم لخلقه؛ لم يتركهم حتى أوقفهم على الجادة البيضاء، وحذَّرهم من المتاهة في البيداء، وضرب لهم الأمثال، وقسم الناس بالنسبة إلى الأموال، وكان مع الفقر أصبر الفقراء، ومع الغني أشكر الأغنياء. صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أعلم الناس بسنة نبيهم وأتبعهم لها، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخطب الناس، فقال: "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من برَكات الأرض". قيل: ما برَكات الأرض؟ قال: "زهرة الدنيا". فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمَت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ظننت أنه سيُنزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه، قال: "أين السائل؟" قال: أنا. ثم قال: "كيف قلت؟" قال: يا رسول الله، أوَيأتي الخير بالشر؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الخير لا يأتي إلا بالخير، إنَّ مما ينبت الربيع ما يقتل حبَطًا أو يُلِمُّ، إلا آكلةَ الخَضِر، أكلَتْ، حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فاجترَّتْ وثلَطَت وبالت، ثم عادت فأكملت. وإن هذا المال خضِرةٌ حلوة، مَن أخذه بحقِّه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو! وإنْ أخَذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع".

عباد الله! هذا الحديث هو الحَكَمُ فيما يختلف فيه الناس من أمر المال، فالناس منهم من يمدح المال والثراء ويتمناه، ويسعى إليه جهده بالطرق الحلال؛ ومنهم من يتجاوز ذلك ويطلبه حتى بالطرق الحرام، ويستوعب عمره ووقته، ويصده عن طاعة مولاه، والسعي لرضاه؛ ومن الناس من يذم الثراء، ولا يهتم به، ويزهد فيه؛ ومن الناس من رضي بما قسم الله له من فقر أو غنى، وتخوَّف من زهرة الدنيا.

فهذا الحديث الشريف فيه تخوف النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته من فتح الدنيا عليهم، خاف عليهم الافتتان بها، وفسر "بركات الأرض" بزهرة الدنيا، ومراده ما يفتح على أمته منها مِن ملك فارس والروم وغيرهم من الكفارِ الذين ورثت هذه الأمة ديارهم وأموالهم، وأراضيهم وزروعهم وثمارهم وأنهارهم ومعادنهم وغير ذلك مما خرج ويخرج من بركات الأرض وكنوزها، وهذا من أعظم معجزات نبينا -صلى الله عليه وسلم- الدالة على أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقًا- فقد وقع ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من فتح زهرة الدنيا على أمته؛ وشبَّهها بالزهر في طيب رائحته، وحسن منظره، وقلة بقائه، وأن وراءه ثمرًا هو خير منه وأبقى منه.

وقوله: "إنَّ ما يُنبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم" من أحسن التمثيل المتضمن للتحذير من الدنيا، والانهماك عليها، والمسرة فيها، وذلك أن الدابة يروقها نبت الربيع فتأكله بأعينها، فربما هلكت حبَطًا. والحبَطُ: انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء. و"أو يلم" أي: يقارب القتل، وهو المرض.

وقوله: "إلا آكلة الخضر" تمثيل بالإبل والبقر الآكلة من العشب بقدر حاجتها، فهي لما أخذت حاجتها من المرعى تركته، وأعرضت عما يضرها من الشرَه في المرعى، وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها انضاج ما أكلته وإخراجه. ثم إنها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى في بطنها، فاستراحت بإخراجه، ولو بقي فيها لقتلها.

وفي رواية لمسلم فقال: "أخير هو؟" وفيها دليل على أن المال ليس بخير على الإطلاق؛ بل منه خير، ومنه شر. فالمال في حق الأول خير، وفي حق الثاني شر.

فأولُ الحديث مثَلٌ للشَّرِهِ في جمع الدنيا، الحريص على تحصيلها يجمع الدنيا من غير حلها، ويحبسها أو يصرفها في غير حقها، فإما أن يقتله ذلك فيموت به قلبه ودينه إذا مات من غير توبة منه وإصلاح حال، وإما أن يقارب موته ثم يعافى، وهو من أفاق من هذه السكرة وتاب قبل موته.

فالمقتصِد من الدنيا يأخذ من حلالها -وهو قليل بالنسبة إلى حرامها- قدر بُلْغته وحاجته، ويجتزي من متاعها بأدناه وأخشنه، ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلا إذا نفد ما عنده وخرجت فضلاته، فلا يوجب له هذا الأخذ ضررًا ولا مرضًا ولا هلاكًا، بل يكون ذلك بلاغًا له مدة حياته، ويعينه على التزود لآخرته، وهذا إشارة إلى مدح من أخذ من حلال الدنيا بقدر بلغته، وقنع بذلك.

قال -صلى الله عليه وسلم-: "قد أفلح من هداه الله إلى الإسلام، وكان عيشه كفافًا، وقنع بذلك" وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتَتْه الدنيا وهي راغمة؛ ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له" رواه الترمذي.

وروى أيضًا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله تعالى: ابن آدم! تفرَّغْ لعبادتي أملأ صدرك غِنَىً، وأسُدُّ فقرك، وإن لا تفعل ملأت يدك شغلاً، ولم أسُدَّ فقرك".

وقال الحسن -رحمه الله-: إن قومًا أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب، فأهينوها، فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها.

وقال المسيح -عليه السلام-: "لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم عبيدًا، واعبُروها ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا، ورُبَّ شهوة أورثت أهلها حزنًا طويلاً، ما سكنت قلب عبد في الدنيا إلا التاط قلبه منها بثلاثة: شغل لا ينفك عناؤه، وفقر لا يدرك غناؤه، وأمل لا يُدرك منتهاه. الدنيا طالبة مطلوبة؛ فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه. يا معشر الحواريين! ارضوا بدنيء الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بدنيء الدين مع سلامة الدنيا".

فأوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى، والتقوى امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، والاعتبار بما ضرب الرسول من الأمثال لزهرة الحياة الدنيا، واصحَبوا الغنى بالشكر، والشكر هو الاعتراف بالنعم باطنًا، والتحدث بها ظاهرًا، وصرفها في طاعة مسديها؛ وأعظم الشكر أداء فرائض الإسلام، وبعد ذلك نوافل الإسلام لمن قدَر عليها أو بعضها.

واعلموا أن الثروة أخطر من الفقر، ولذلك خافها النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته ولم يخف عليهم من الفقر، واستعاذ من فتنتهما جميعًا. قال بعض السلف: ابتُلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر. واعتبِروا بالبهيمة التي ضربها الرسول مثلاً في حسن تصرفها في معيشتها، ونفعها لنفسها، ودفعها الضرر عنها. هذا، وهي ممن يسبح الله ويحمده (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسرَاء:44].

اللهم اجعلنا جميعًا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ) [آل عِمرَان:14].

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله يزيد الشاكرين، ويثيب الصابرين. أحمده سبحانه وحمدي له من نِعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أشرف الخلق أجمعين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا عباد الله! مِن السَّلف الصالح مَن اختار المال، للجهاد به، وصرْفه في وجوه البر، كعبدالرحمن بن عوف، وغيره من مياسير الصحابة؛ وكان قيس بن سعد يقول: اللهم إني من عبادك الذين لا يُصلحهم إلا الغنى.

ومنهم من اختار الفقر والتقلُّل، كأبي ذَرٍّ وجماعة من الصحابة معه، وهؤلاء نظروا إلى آفات الدنيا، وخشُوا الفتنة بها.

والفرقة الثالثة لم تختر شيئًا، بل كان اختيارها ما اختاره الله لها.

ولمَّا خُيِّر نبينا -صلى الله عليه وسلم- بين أن يكون مَلِكًا نبيًّا وبين أن يكون عبدًا رسولاً، وعلم أن ربه يختار له أن يكون عبدًا رسولاً، اختار ما اختاره الله، فكان اختياره في جميع أموره تابعًا لاختيار الله له.

وكان -صلى الله عليه وسلم- يأخذ الشهر والشهرين لا يوقد في بيته نار، وإنما طعامهم الأسودان: التمر والماء؛ وكان صابرًا، ولم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، حتى فارق الدنيا.

ثم لما فتح الله عليه الفتوح كان يمسك له ولأهله قوت سنة واحدة، وينفق ما عدا ذلك في سبيل الله؛ وكان يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر.

وكُلُّ خصلة من خصال الفضل قد أحل اللهُ رسوله -صلى الله عليه وسلم- في أعلاها، وخصه بذروة سنامها، وليس الفقراء الصابرون بأحقَّ به -صلى الله عليه وسلم- من الأغنياء الشاكرين؛ بل أحقُّ الناس به منهم أعلمهم بسنته، وأتبعهم لها.

فارْضَوا -عباد الله- بما قسم الله لكم، واشكروا نعمة الله عليكم. ومن ابتلي بفقر فعليه أن يصبر، قال عمر -رضي الله عنه-: "وجدنا خير عيشنا بالصبر". وروى الأعمش عن خيثمة، عن عبد الله: "إن العبد ليهم بالأمر من التجارة حتى إذا استيسرت له نظر الله إليه من فوق سبع سموات فيقول للملَك: اصرفه عنه، فيصرفه عنه" فطريق الفقر والتقليل طريق سلامة مع الصبر، وطريق الغنى والسَّعة طريق عطب في الغالب.

 

 

 

 

 

المرفقات

الدنيا.. والناس إزاءها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات