زهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلقه من علامات نبوته

فهد بن سعد أبا حسين

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/عظمة أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- 2/صبر النبي -صلى الله عليه وسلم- على أذى الكفار 3/حلم النبي -صلى الله عليه وسلم- ورفقه 4/بعض أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة 5/بعض مظاهر زهد النبي -صلى الله عليه وسلم- 6/فراشه صلى الله عليه وسلم 7/شظف عيشه صلى الله عليه وسلم 8/منة الله ببعثة نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم-

اقتباس

لقد كانت أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- عظيمة، يحار منها الإنسان؛ يتعجب الإنسان من تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصبره وحلمه، يتعجب من حرصه على إصلاح الناس مع كثرة أذاهم له. ومن تأمل في دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصبره علم أنه نبي، فصبره على المشاق، ومقابلته للمشركين بالمجادلة بالتي هي أحسن، وصبره على أذاهم واستهزائهم، مع ...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

لقد كانت أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- عظيمة، يحار منها الإنسان؛ يتعجب الإنسان من تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصبره وحلمه، يتعجب من حرصه على إصلاح الناس مع كثرة أذاهم له.

 

ومن تأمل في دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصبره علم أنه نبي، فصبره على المشاق، ومقابلته للمشركين بالمجادلة بالتي هي أحسن، وصبره على أذاهم واستهزائهم، مع عيبه لدينهم وآلهتهم، وتسفيه أحلامهم، وإظهار عداوته لهم، وقتاله إياهم، كل ذلك مما ينبهر منه الإنسان [انظر للفائدة: الجواب الصحيح (1/395)].

 

ففي صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها-: أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: "لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على بن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا"[رواه البخاري برقم 3231ومسلم برقم 1795].

 

ولما سُئلت أم المؤمنين عائشة عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: "لم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح"[رواه الترمذي برقم 2016 وقال: "هذا حديث حسن صحيح"].

 

وهذه الصفة من صفاته صلى الله عليه وسلم مذكورة في الكتب قبل الإسلام؛ ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه قال: "والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفاته في القرآن: ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: "لا إله إلا الله" ويفتح بها أعينا عميا، وآذنا صما، وقلوبا غلفا"[رواه البخاري برقم 2125].

 

وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-:"أنه قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ادع الله على المشركين، فقال: "إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة"[رواه مسلم برقم 2599].

 

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- سبابا ولا فحاشا ولا لعانا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: "ما له؟ ترب جبينه"[رواه البخاري برقم 6031].

 

ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتقم لنفسه؛ ففي صحيح الإمام مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها" [رواه مسلم برقم 2328].

 

ومن حلمه صلى الله عليه وسلم: أن أعرابيا بال في طرف المسجد، فانتهره الصحابة -رضي الله عنهم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزرموه دعوه" ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله -عز وجل- والصلاة وقراءة القرآن" ثم أمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه -يعني فصبه- عليه" [رواه البخاري برقم 225 ومسلم برقم 285].

 

واستدان النبي -صلى الله عليه وسلم- من رجل، فجاء الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب دينه، فأغلظ القول في طلبه، فهم به أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال عليه الصلاة والسلام معتذرا لسوء مقال الرجل وغلظته: "إن لصاحب الحق مقالا"[رواه البخاري في صحيحه برقم 2306].

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فقد كان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس تربية ونشأة، ولم يزل معروفا بالصدق والبر والعدل، ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم، وهذا يشهد به من آمن ومن كفر.

 

ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس، وكذبه أهل الرياسة وعادوه وسعوا في هلاكه بكل طريق.

 

والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يعطهم، ولا جهات يوليهم إياها، ولا كان له سيف، بل كان السيف والجاه مع أعدائه، وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى، وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة.

 

وكانت مكة يحجها العرب، فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابرا محتسبا على ما يلقاه من تكذيب المكذب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض،  إلى أن اجتمع بأهل يثرب.

 

ولم يزل قائما بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها، من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة، ولا ظلم لأحد، ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد، مع اختلاف الأحوال عليه، من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة وظهور على العدو تارة، وظهور العدو عليه تارة، وهو على ذلك لازم لأكمل الطرق وأتمها، حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب، التي كانت مملؤة من عبادة الاوثان. أ. هـ باختصار وتصرف الجواب الصحيح (5/438)].

 

وبعد ظهور دعوته صلى الله عليه وسلم وقبل ظهورها كان أزهد الناس.

 

فهو صلى الله عليه وسلم مع ظهور أمره، وطاعة الخلق له، وتقديمهم له على الأنفس والأموال مات صلى الله عليه وسلم ولم يخلف درهما ولا دينارا، ولا شاة ولا بعيرا، إلا بغلته وسلاحه ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير [انظر: الجواب الصحيح 5/437].

 

خيّره ربه بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا رسولا؟ فاختار أن يكون عبدا رسولا[مسند الإمام أحمد برقم 7160].

 

ولو أراد الملك في الدنيا لحصل له بإذن الله، ولكنه كما قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- من طعام ثلاثة أيام حتى قبض"[رواه البخاري برقم 5374].

 

ويقول عمر -رضي الله عنه-: "لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يظل اليوم يلتوي، ما يجد دقلا يملأ به بطنه"[رواه مسلم برقم 2978].

 

والدقل هو: التمر الرديء.

 

ويأتي ضيف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يجد صلى الله عليه وسلم ما يضيفه، فيرسل إلى بيوته يسأل نساءه، فلا يجد عندهن شيئا سوى الماء، فإذا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب من أصحابه -رضي الله عنهم- أن يضيفوه. [رواه البخاري برقم 3798 ومسلم برقم 2054].

 

وكان فراشه صلى الله عليه وسلم حصيرا يترك أثرا في جنبه صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن مسعود -رضي الله عنه-، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وِطَاءً -فراشا- فقال: "ما لي ومال الدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"[رواه الترمذي برقم 2377 وقال: "هذا حديث حسن صحيح"].

 

وكانت وسادته التي يتكأ عليها من أَدم -جلد مدبوغ- حشوها ليف؛ كما قالت عائشة -رضي الله عنها-[صحيح البخاري برقم 6456] [وصحيح مسلم برقم 2082].

 

دخل عليه عمر -رضي الله عنه- فرآه مضطجعا على حصير قد أثر في جنبه، وألقى ببصره في خزانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا فيها قبضة من شعير نحو الصاع، وقبضة أخرى من ورق الشجر في ناحية الغرفة، قال عمر: فابتدرت عيناي بالبكاء، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا بن الخطاب؟" قلت: "يا نبي الله، وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى! وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله وصفوته وهذه خزانتك" فقال: "يا بن الخطاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟" قلت: "بلى"[رواه البخاري برقم 4913 ومسلم برقم 1479].

 

ولما بدأ الصحابة -رضي الله عنهم- في حفر الخندق لم يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- العمل معهم، وإنما كان كما قال البراء بن مالك: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينقل معنا التراب يوم الأحزاب، ولقد رأيته وارى التراب بياض بطنه، يقول:

 

والله لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الأعداء قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنة أبينا

 

[رواه البخاري برقم 3034 ومسلم برقم 1803].

 

وكان صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة الداعي، يقول صلى الله عليه وسلم: "لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت" [رواه البخاري برقم 5178].

 

ومع هذه الدعوة العظيمة المباركة من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع فقره الشديد صلى الله عليه وسلم، ومع صبره على الناس وتواضعه، مع ذلك كله لم يكن يسأل الناس أجرا: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص: 86].

 

فهل تجتمع هذه الأخلاق وهذا الزهد وهذه الشخصية العظيمة إلا في نبي؟!

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وهو في كل وقت -يعني  صلى الله عليه وسلم- يظهر على يديه من عجائب الآيات، وفنون الكرامات، ما يطول وصفه، ويخبرهم بخبر ما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويَشرع الشريعة شيئا بعد شيء، حتى أكمل الله دينه الذي بعث به، وجاءت شريعته أكمل شريعة، لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه، لم يأمر بشيء فقيل: ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقيل: ليته لم ينه عنه، وأحل الطيبات لم يحرم شيئا منها كما حُرِّم في شرع غيره، وحرم الخبائث لم يحل منها شيئا كما استحله غيره، وجمع محاسن ما عليه الأمم، فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه، وأخبر بأشياء ليست في الكتب" أ. هـ [الجواب الصحيح 5/441].

 

فالحمد لله الذي أنعم علينا ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

فانتقل الناس من عبادة الأصنام إلى عبادة رب الأرض والسماء!.

 

وانتقل الناس من فساد العقول بالخمر وغيره إلى المحافظة عليها!.

 

وانتقل الناس من حياة القتل وسفك الدماء إلى حياة تصان فيها نفوس المسلمين!.

 

وانتقل الناس من التلاعب بالأموال في الربا والميسر إلى منهج اقتصادي إسلامي رصين!.

 

وحفظت الأسرة بأحكام الزواج وشروطه وأركانه وبالمنع من الزنا والفواحش!.

 

إلى غير ذلك من الأحكام العظيمة التي هي رحمة للناس، وصدق الله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].

 

 

 

 

المرفقات

النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلقه من علامات نبوته

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات