عناصر الخطبة
1/ زهد النبي الكريم وأصحابه 2/ قيمة الدنيا والتزهيد فيها 3/ تصحيح مفهوم الزهد 4/ أدوية لداء الغفلةاقتباس
دعونا نعيشُ هذه الساعة بين صفوة الأمة وقادتها، وأئمتها وخلاصتها، بين النبي الكريم وتلاميذه النجباء. يا ترى كيف كانت حياتهم؟ وأي عيشة كانت عيشتهم؟ هل سكنوا القصور؟ أم تطاولوا في الدور؟ أم تنافسوا في صفوف المراكب والحُلل؟ كل هذا سيحدثنا عنه مَن رآهم وصحِبهم وسار على نهجهم ..
أما بعد:
أيها المسلمون: دعونا نعيشُ هذه الساعة بين صفوة الأمة وقادتها، وأئمتها وخلاصتها، بين النبي الكريم وتلاميذه النجباء. يا ترى كيف كانت حياتهم؟ وأي عيشة كانت عيشتهم؟ هل سكنوا القصور؟ أم تطاولوا في الدور؟ أم تنافسوا في صفوف المراكب والحُلل؟ كل هذا سيحدثنا عنه مَن رآهم وصحِبهم وسار على نهجهم.
لنصغ بأسماعنا إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- وهو يحدثنا بهذه القصة العجيبة فيقول: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فقال: "ما أخرجكما من بيوتكم هذه الساعة؟" قالا: الجوع، يا رسول الله. قال: "وأنا، والذي نفسي بيده! لَأَخرجَني الذي أخرجكما".
ثم قال: "قوما". فقام أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- معه فأتوا رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً! فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أين فلان؟" قالت: ذهب يستعذب لنا الماء. فجاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه ثم قال: الحمد لله، ما أحدٌ اليوم أكرمُ أضيافاً منى، فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا.
وأخذ المدية، فقال لـه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إياك والحلوبَ!" فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا وروُوا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-: "والذي نفسي بيده! لتُسألنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة؛ أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم"! رواه مسلم.
وهذا جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- يحدثنا بحادثة أخرى، قال جابر: إنا كنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال: "أنا نازل".
ثم قام وبطنُه معصوبٌ بحجَر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- المعول فضرب، فعاد كثيباً أهيَل أو أهيَم، فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت، فأتيت البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً ما في ذلك صبر، فهل عندك شيء؟ فقالت عندي شعير وعناق.
فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البُرمة، ثم جئتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت تنضج، فقلت: يا رسول الله! طُعيِّم لي، فقم أنت يا رسول الله، ورجل أو رجلان. قال: "كم هو"؟ فذكرتُ لـه، فقال: "كثير طيب، قل لامرأتك لا تنزع البرمة، ولا الخبز من التنور، حتى آتي".
فقال لمن حول الخندق: "قوموا" فقام المهاجرون والأنصار، فدخلتُ عليها فقلت: ويحَكِ! جاء النبي-صلى الله عليه وسلم- والمهاجرون والأنصار! قالت: هل سألك؟ قلت: نعم.
فأتوا البيت، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: "ادخلوا ولا تضاغطوا"، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمّر البرمة والتنور، يأخذ من الطعام ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر ويغرف حتى شبعوا وبقي منه، فقال: " كُلي وأهدي؛ فإن الناس أصابتهم مجاعة" متفق عليه.
ولننتقل إلى بيته -صلى الله عليه وسلم-، ففي الصحيحين، عن عروة بن الزبير، عن خالته عائشة -رضي الله عنها- قالت: والله يا ابن أختي! إن كنّا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار. قلت: يا خالة! فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء!.
يا لها من عيشة ما عرفت الترف، وما دنستها آفات البطر والسرَف! رسول الأمة -صلى الله عليه وسلم- ووزيراه يخرجون من بيوتهم لأنهم لم يجدوا فيها طعاماً! ضاقت بهم بيوتهم إذ لم يجدوا فيها ما يقوتهم!.
يدخل عمر -رضي الله عنه- ذات يوم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو على حصير، قال عمر: فجلست، فإذا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع في ناحية الغرفة، وإذا إهاب معلق.
فابتدرَتْ عيناي، فقال: "ما يبكيك يا ابن الخطاب؟" فقال يا نبي الله! ومالي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك؟ قال: "يا ابن الخطاب! أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟".
لقد عرف أولئك مقدار الدنيا، وأنها عرض زائل، وأيام قلائل، فآثروا عليها الباقية، والسعيد مَن اختار باقيةً يدوم نعيمها على باليةٍ لا ينفد عذابها.
إنَّ لله عباداً فُطَنا *** طلَّقوا الدُّنيا وخافوا الفِتنا
نظروا فيها فلَمـَّا عَلِمُوا *** أَنَّها ليسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا
حَسِبُوها لُجَّةً واتَّخَذوا *** صالِحَ الأَعْمالِ فيها سُفُنا
يا مَن عمَّر دنياه ودمَّر أخراه، قِف قليلاً وتساءل: أرضِيت بستين أو سبعين سنة تعيشها في سعادة تظنها، يعقبها العذاب الأبدي؟!.
اِعلَم -أرشَدَكَ الله وسدَّدَك- أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة. جناح بعوضة! لم يقل إنها لا تساوي بعوضة كاملة؛ لأنها أحقر من تقارَن ببعوضة كاملة!.
وفي صحيح مسلم عن المستورد بين شراء مرفوعاً، "والله! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بما يرجع".
انظر إلى الدور، انظر إلى القصور، انظر إلى السيارات وإلى التجارات، بل وإلى الدنيا بأسرها، فما هي في الآخرة إلى متاع.
عجباً لك يا ابن آدم! علمت أنها دنيا فانيةٌ مليئةٌ بالنكد والكبَد، ومع ذلك أفنيت عمرك في جمعها، وأصبحَتْ شغلك الشاغل! ويا ليتها أبقت منك للآخرة نصيباً! بل امتلكَتْ عليك قلبك، وشغلت أوقاتك، ولم تبال في سبيل التمتع بها أحلال هي أم حرام؟!.
لكنَّ ذا الإيمانِ يعلَمُ أنَّها *** مثلُ الضَّلالِ وكُلُّ هذا فانِ
وإِذا أرَدْتَ ترى حقيقتَها فخُذْ *** منهُ مثالاً واحداً ذا شان
أدْخِلْ بجَهْدِكَ أصْبعاً في اليمِّ وانـْ *** ـظُرْ ما تعلُّقه إذاً بعيانِ
هذا هو الدُّنْيا كذا قال الرَّسُو *** لُ ممَثِّلاً والحقُّ ذو تبيانِ
فكن يا هذا على حذر، وتقلل من الدنيا، واستعدَّ للآخرة؛ فإنما أنت سائر في طريق ذي شُعَب، فاجهد في سلوكِ أقربِها إلى النجاة، "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
ثم لنستمع لنداء ربنا تبارك وتقدس: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:20-21].
الخطبة الثانية:
أما بعد: قد يقول قائلٌ إِنني أحب أن ألحق بركب الصالحين، وأسأل الله مجاورتهم في الجنة، لا بد أن أسلك مسالكهم، وأن أسير على منهاجهم. يا ترى ما العمل ؟ كيف اللحوق بهم؟ وكيف الوصول إليهم؟.
قال قائل: سأبيع سيارتي وأشتري بغلة، وسأطلِّق زوجتي وأتفرغ للعبادة، وسأتصدق ببيتي وأسكن خيمة في الصحراء! قف يا هذا! ليس الزهد هكذا، وما كان دين الله ليشق على أحد قط، وأهل العلم لما وعظوا قارون قالوا لـه: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:77].
لا حرج في طيب المأكل والمشرب واللباس، بل وفي جمع المال إذا جمعته من حلال، وأنفقته في حلال، وأديت حق الله فيه؛ ولا حرج في التمتع بالطيبات إذا حفظت حدود الله، وأديت فرائضه، واجتنبت ما يغضبه.
فإذا آمنت بالله، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، فافعل بعد ذلك ما شئت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون:9].
أيها المسلمون: إننا نرى كثيراً من الناس وهم عن الآخرة غافلون، وفي الدنيا لاهون لاعبون، وإن الغفلة عن الله والدار الآخرة لَداءٌ تفشى بين الناس، حتى لم يسلم منه إلا القليل، وها أنا أسوق إليك شيئاً من الأدوية لهذا الداء، علَّ دواءً أن يكون نافعاً، وعلاجاً أن يكون ناجعاً.
فمن ذلك: ما أرشدنا إليه حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الشيخان: "إذا نظر أحدكم إلي من فُضّل عليه في المال والخَلْق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه". وفي رواية: "انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى مَن فوقَكُم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".
قال عوف بن عبد الله: صحبتُ الأغنياء ،لم أر أحداً أكبر هماً مني، أرى دابة خيراً من دابتي، وثوباً خيراً من ثوبي؛ وصحبت الفقراء، فاسترحت!.
ومن ذلك استدامة تذكُّرِ آلاءِ الله على العبد، ومحاولة شكرها بكل مستطاع.
ومن ذلك الإكثار من تلاوة كتاب الله، وإنه والله لخير تذكرة لمن أراد التذكرة! (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
ومن ذلك تذكُّر الموت، فمن تذكر أنه عما قليل سيموت فلن يغفل عن طاعة ربه، ولن يجترئ على معصيته.
ومنها قاصمة الظهر، والداعية إلى شدة الفرَق، إنها تذكُّر بأس الله، تذكر أن بأس الله شديد، إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.) [هود:102].
وإن أعرضت عن ذكر الله -يا عبد الله- فانتظر العاقبة، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124].
واعلم أنك إن غفلت عن الله فليس الله بغافل عنك، (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) [إبراهيم:42]، (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة:6].
فالإنابةَ إلى الله الإنابةَ! والأوبةَ الأوبةَ قبل مفاجأة الأجل! اللهم ارزقنا قلوباً خاشعة، ونفوساً لك خاضعة، وعيوناً من خشيتك دامعة؛ اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم