اقتباس
وإن إصرار المخطئ على خطئه بعد قيام الحجة عليه، ووضوح المحجّة بين يديه، إلا ضرب من ضروب المكابرة، لا يصير إليها؛ إلا مخذول أخذته العزّة بالإثم، فآثر العاجل على الآجل، وهذا حال علماء السوء الذين ابتليت بهم الأمّة قديماً وحديثاً، ولهؤلاء خطر داهمٌ تتعيّن مقابلته بالنكير والتحذير. روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس".
إنّ مكمن الخطورة في زلّة العالم، ليس في كونها خطأ من مجتهد، ولكن فيما يترتب عليها من عمل الأتباع والمقلدين من بعده، وممّا يستفاد من قول ابن عبّاس في التحذير من زلّة العالِم: (فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع)، بيان أنّ خطر الزلّة في كون شرّها متعدياً إلى من قلّد صاحبها فيها، وكفى بهذا محرّضاً على النكير على من صار إليها، أو تترّس بها في تحليل ما حرّم الله، وقد يلحق صاحبها إثم من استنّ به فيها، شأنه في ذلك شأن من سنّ سنّةً سيّئة.
وقد روى ابن ماجة وأبو داود وابن حبّان وغيرهم بإسناد حسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"من أُفتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه". قال المباركفوري: ( من أُفتِيَ بغير علم ): على بناء المفعول أي من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم وهذا إذا لم يكن الخطأ في محل الاجتهاد أوكان، إلا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقه. وقال الملا علي القاري: على صيغة المجهول، وقيل: من المعلوم يعني كل جاهل سأل عالماً عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل المسائل بها ولم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده، (يعلم): المراد بالعلم ما يشمل الظن (فقد خانه) : أي خان المُستشارُ المُستشيرَ، إذ ورد أن المستشار مؤتمن، ومن غشنا فليس منا.
وقال الشاطبي بعد أن سرد جملة من الآثار في التحذير من زلة العالم في سفره الحافل " الموافقات ": ( وهذا كله، وما أشبهه، دليل على طلب الحذر من زلة العالم، و أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه، والوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها، وهو وإن كان قَصَد و لا تعمد وصاحبه معذور ومأجور، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم، وقد قال الغزالي: "إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرةً وهي في نفسها صغيرةٌ، و ذَكر منها أمثلةً، ثم قال: فهذه ذنوب يتبع العالم عليها، فيموت العالم، ويبقى شرُّه مستطيراً في العالَم أياماً متطاولةً، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه، وهكذا الحكم مستمرٌ في زلته في الفتيا من باب أولى، فإنه ربما خفي على العالِم بعض السنة أو بعضُ المقاصد العامة في خصوص مسألته فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعاً يُتَقَلَّد، وقولاً يُعتبر في مسائل الخلاف، فربما رجع عنه، و تبين له الحق فيفوته تدارُك ما سار في البلاد عنه، و يضل عنه تلافيه فمن هنا قالوا: زلة العالم مضروب بها الطبل. وقال في هذا المعنى أيضاً: "تستعظم –شرعاً- زلة العالم وتصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء فإذا زل حملت زلته عنه قولاً كانت أو فعلاً؛ لأنه موضع منارٍ يُهتدى به فإن علم كون زلته زلة صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيًا به وتوهموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينًا للظن به وإن جهل كونها زلة فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع وذلك كله راجع عليه". وقال ابن القيّم -رحمه الله- في إعلام الموقعين: "ومن المعلوم أن المَخُوفَ في زلة العالم تقليده فيها إذ لولا التقليد لم يُخَف من زلة العالم على غيره فإذا عَرَف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين فإنه اتباع للخطأ على عمد ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه وكلاهما مفرط فيما أمر به ".
أولاً: واجب المسلمين تجاه زلات الدعاة والعلماء:
1 ـ اعتقاد عدم عصمة العالم:
فالخطأ من مقتضى الطبيعة البشرية لا يسلم منه إلا المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، وإن الخطأ لا يستلزم الإثم؛ بل المجتهد المخطئ مأجور، كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة ذات الروايات المتواترة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحضة، وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون، وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ. وأهل العلم والإيمان: لا يعصمون، ولا يؤثمون ". وقال أيضاً -رحمه الله-: "وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل، فإن الله –تعالى- عفا للمؤمنين عما أخطئوا، كما قال تعالى: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [ البقرة: 286]. قال الله: (قد فعلت).
ولكن مع ذلك، فقد أُمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا ألا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فنقول: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) [الحشر: 10]. وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور.
ولا يشترط في العالم ألا يخطئ، فعلماء الحديث والأثر وأهل الفقه والنظر ربما حصل منهم أغلاط؛ لأنَّهُم غير معصومين، وهذه الأغلاط التي قد تحصل منهم، حُصُولها من نِعَمِ الله عز وجل ولمَّا سُئِلَ بعض الأئمة عن غلط العالم، كيف يغلط العالم، كيف يخالف السنة، كيف يكون في سلوكه مُقَصِّرْ، كيف يغيب عن ذهنه في مسألة التدقيق ويتساهل؟ فقال: (لئلا يُشَابِهْ العلماء الأنبياء)؛ لأنَّ النبي هو الذي لا ينطق عن الهوى، هو الذي يصيب في كل شيء، وهو الذي يتبع في كل شيء، فإذا كان العالم على صوابٍ كثير وربما وقع في اجتهاد هو عليه مأجور ولكنه أخطأ في ذلك، لم يكن عند الناس رفع لعالم في منزلة النبي فيتبع على كل شيء، فيحصل في النفوس التوحيد والبحث عن الحق من الكتاب والسنة والنظر فيما يُبَرِّئ الذمة في ذلك.
2-إثبات الأجر وترك المتابعة في الخطأ:
لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر"، وهذا الحديث يدل على أن العالم – إذا كان مستوفياً لشروط الاجتهاد – إذا اجتهد في مسألة ما واستفرغ جهده للوصول إلى الحق أجر على ذلك أجران إن أصاب الحق، أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الحق. وإذا لم يصب الحق أجر أجراً واحداً وذلك على اجتهاده ورفع عنه الإثم والحرج على عدم إصابته للحق؛ لقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286]. لكن الأمر الذي يجب أن يتنبه له هو أن هذا الخطأ الذي أخطأ فيه العالم لا يجوز متابعته عليه بل يجب أن يحذر العامة كي لا يغتروا به، إلا أن المتتبعين للرخص يحتجون بتقليد العالم في هذه الزلة فيقال لهم: طالما وأنتم مقلدون فما هو الحامل لكم على تقليد هذا العالم ومخالفة الكثيرين من العلماء من أفتى بخلافه.
ولقد حذر سلفنا الصالح من زلات العلماء وذلك لأن العالم إذا زل تابعه على ذلك كثير من الناس ولذلك قيل: (زلة العالِم – بكسر اللام – زلة العالَم – بفتح اللام-). وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كما روى ذلك عنه بإسناد صحيح قال: "ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون".
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ويل للأتباع من زلة العالم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يقول العالم الشيء برأيه فيلقى من هو أعلم برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- منه فيخبره ويرجع ويقضي الأتباع بما حكم ".
والأثر المروي عن ابن المبارك يوضح هذه القاعدة بصورة أكبر، فقد روي عن ابن المبارك أنه قال: "كنا في الكوفة فناظروني في ذلك –يعني في النبيذ المختلف فيه- فقلت لهم: "تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرخصة. فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه. فاحتجوا، فما جاؤوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة فما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه ". قال ابن المبارك: " فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمق: عدَّ أن ابن مسعود لو كان ههنا جالساً فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى". فقال قائلهم: " يا أبا عبد الرحمن: فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام؟ فقلت لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال، فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاووس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خياراً. قال فقلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يداً بيد؟ فقالوا: حرام. فقال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالاً فماتوا وهم يأكلون الحرام، فبقوا وانقطعت حجتهم هذا ما حكى". وقد قال ابن عبد البر: "لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً".
وقد روى الإمام الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول" خبراً في هذا السياق فقال: "حكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فرفع إلي كتاباً؛ لأنظر فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم. فقلت: مصنف هذا زنديق. فقال: لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر. وما من عالم إلا وله زلة ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب".
3-قبول العذر، وحسن الظن، وإقالة العثرة:
فالعالم إذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله. قال ابن القيم: "والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويريد بها الآخر: محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه، ويناظر عنه ". وأخرج البخاري قصة الحديبية ومسير النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها، وفيها: "وسار النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فقه الحديث: "جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها، لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله؛ لأن خلاء القصواء لولا خارق العادة؛ لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً، ولم يعاتبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك لعذرهم في ظنهم". وقال الشيخ بكر أبو زيد –رحمه الله-: " فقد أعذر النبي -صلى الله عليه وسلم- غير المكلف من الدواب باستصحاب الأصل، ومن قياس الأولى إذا رأينا عالماً عاملاً، ثم وقعت منه هنة أو هفوة، فهو أولى بالإعذار، وعدم نسبته إليها والتشنيع عليه بها – استصحاباً للأصل – وغمر ما بدر منه في بحر علمه وفضله، وإلا كان المعنف قاطعاً للطريق ردءاً للنفس اللوامة، وسبباً في حرمان العالم من علمه، وقد نهينا أن يكون أحدنا عوناً للشيطان على أخيه". قال الإمام الصنعاني -رحمه الله تعالى-: " وليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: "من أقال مسلماً أقال الله عثرته". وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود".
فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله، موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصاً الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يهدى بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد -صلى الله عليه وسلم- علماؤها شرارها، إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم-. ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له في تركه من عذر.
4-إسداء النصح له:
إن العالم كغيره من الناس له حق النصح إذا أخطأ وهو مندرج تحت قوله -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث تميم بن أوس الداري: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله. قال: لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" رواه مسلم وأبو داود والترمذي، وعند الترمذي أنه قال: "الدين النصيحة ثلاث مرات". فالعلماء يعتبرون من أئمة المسلمين. ولكن لابد من مراعاة آداب نصح العلماء ومنها:
الرأفة واللين، فإنما تؤدى النصيحة للعلماء من أولئك الناس الطيبين الذين عرفوا الحق ورحموا الخلق، فكلماتهم بلسم على الجراح، يأتون بالعبارة التي يفوح منها الحنان والشفقة بالمنصوح لا يشعرونه بأنهم مترفعون عليه ولا شامتين به، إنهم العلماء الربانيون الذين لا يشهرون بالمنصوح بحجة النصح ولا يحرجونه بحجة التقويم ويضعون نصب أعينهم الإخلاص لله –تعالى- في هذه النصيحة، فإنها من جملة العبادات التي كلفنا بها ولا تقبل إلا إذا كانت خالصة لوجه الله –تعالى-، عملاً بقوله -عز وجل-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء ) [ البينة:5].
وأن يكون القصد منها الإصلاح، كما قال –تعالى-: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88]. ومنها أن يكون القصد إظهار الحق حتى قال الإمام الشافعي: "قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"، وقوله "ما ناظرت أحداً إلا سألت الله أن يظهر الحق على لساني أو على لسانه". ومن آداب النصح للعلماء أن يكون مبتعداً عن كل ما يجعل المنصوح معانداً متمادياً على الباطل متأسياً بذلك بسيد ولد آدم -عليه الصلاة والسلام- حيث كان إذا أراد النصح قال: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا"، "ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله".
ومن الآداب أيضا، أن يكون التركيز على الرأي أو المسألة لا على قائلها لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله". مع معرفته -عليه الصلاة والسلام- بالذين اشترطوا تلك الشروط في قضية عتق بريرة، وفي الثلاثة النفر الذين سألوا عن أعماله فكأنهم تقالّوها، والسنة مليئة بمثل هذا.
ثانياً: واجب العلماء تجاه أخطائهم:
البشر هم البشر، لا عصمة لأحدٍ منهم بعدَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل كلّهم خطاء، وخير الخطّائين التوابون. وقد نُدبنا إلى الرجوع عن الخطأ، والتوبة من المعصية، ولا فَرق في ذلك بين عامي وعالم، أو أمير ومأمور، أو كبير وصغير.
ومِن جملة الأخطاء التي يجب الرجوع عنها ما يقع فيه العالم من زلات في الفتيا والتأليف أو غير ذلك، وحريٌّ به إن بان له الحق أن يرجع إليه، ويعضَّ عليه بالنواجذ، لينجو بنفسه، وينجو بنجاته الأتباع من بعده.
وله في ذلك أسوة حسنةٌ في نبيِّ الرحمة -صلى الله عليه وسلم- الذي ما ترك خيراً إلا وأرشدنا إليه، ولا شراً إلا أخذ بحُجَزِنا فصرفنا عنه، وحذَّرَنا منه، وقد كان مدرسةً في اتباع الحقّ والرجوع عمّا يخالفه.
فقد قعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبوبكر يبكيان بعد أن تبيّن لهما الحق في مسألة أسارى بدر، خلافاً لما ذهبا إليه. فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عمَر بن الخطّاب -رضي الله عنه- في قصّة أسارى بدر ـ وكانوا سبعين رجلاً من المشركين ـ أنّهم : " لما أسروا الأسارى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر، و عمر: " ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فديةً، فتكون لنا قوةً على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تُمكننا فنضرب أعناقهم. فهَوِيَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلتُ، فلما كان من الغد جئتُ، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر قاعِدَين يبكيان، قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي، أنت و صاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيتُ، وإن لم أجد بكاءً تباكيتُ لبكائكما. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أبكي للذي عَرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة". شجرة قريبة من نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل الله -عز وجل-: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ واللهُ عَزيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 67].
وهكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم من بعده، يتلمسون سبل الهدى، وينصاعون إلى الحق، ويعرضون عمّا يخالفه، ولا يجد الواحد منهم غضاضةً في الرجوع عن رأيه، وقبول الحقّ ممّن جاء به، كائناً من كان.
كيف، وهم المتواصون بالحقّ، المتواصون بالصبر! وما أجمل قول فاروق هذه الأمة -رضي الله عنه- في كتابه لمعاوية بن أبي سفيان عامله على الشام : "لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ". قال السرخسي -رحمه الله- معقباً على كلام الفاروق هذا: "وليس هذا في القاضي خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئاً من أمور الدين الواعظ والمفتي والقاضي في ذلك سواء إذا تبين له أنه زل فليُظهر رجوعه عن ذلك، فزلة العالم سبب لفتنة الناس، و قوله: الحق قديم؛ يعنى هو الأصل المطلوب، ولأنه لا تنكتم زلة من زل، بل تظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهر على نفسه كان أحسن حالاً، ثم العقلاء، من أن تظهر ذلك عليه مع إصراره على الباطل ".
وإن إصرار المخطئ على خطئه بعد قيام الحجة عليه، ووضوح المحجّة بين يديه، إلا ضرب من ضروب المكابرة، لا يصير إليها؛ إلا مخذول أخذته العزّة بالإثم، فآثر العاجل على الآجل، وهذا حال علماء السوء الذين ابتليت بهم الأمّة قديماً وحديثاً، ولهؤلاء خطر داهمٌ تتعيّن مقابلته بالنكير والتحذير. روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس".
وروى أحمد و غيره بإسناد حسن عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال لكعب: "إني أسألك عن أمر فلا تكتمني قال: و الله لا أكتمك شيئاً أعلم . قال: ما أخوف شيءٍ تخافه على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: أئمة مضلون". قال عمر: "صدقت، قد أسر ذلك إليَّ وأعلمنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم