اقتباس
لقد اصطفى الله –تعالى- لحمل العلم وتبوء منزلة العلماء التي هي من أرفع المنازل، من كلّ خلفٍ عدولَه، وخصهم بالفهم وكل أدوات الاستنباط السليم، فسخروا ما آتاهم الله من فضله في إقامة الحجة وبيان المحجة، و استشعروا عظم واجب التبليغ و التوقيع عن رب العالمين، كما قال ابن القيم -رحمه الله-، فقاموا به خير قيام، تحملاً و أداءً، و كان حقاً على من عرف فضلهم، و خبر سبقهم؛ أن يتقرّب إلى الله بحبهم والذب عن أعراضهم، كيف و هم أهل الذكر الذين أمرنا بسؤالهم و طاعتهم، كما في قوله تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [ النحل : 43 ].
وما ابتلي عالم ببلاء مثل بلائه بجاهل لا يعرف قدره، وطاعن لا يتورع عن طعنه في دينه أو علمه، لذلك كان من كرامة الله -عز وجل- لأوليائه وأصفيائه، أن قيض لهم من ينافح عنهم ويذب عن عرضهم، وإن فرط في القيام بواجب الذبّ عن العلماء أقوام، فقد أفرط آخرون في هذا الباب، فجانبوا الصواب، وصاروا إلى الممنوع؛ بمجاوزة المشروع، حيث غلوا في علمائهم، وتعصبوا لآرائهم وأقوالهم، ونصّبوا أنفسهم للتبرير والدفاع عن زلاتهم، وهذا من أشنع أنواع التعصب، وهي الطاعة العمياء، وليست الطاعة الراشدة.
وصار أهل الحق الموصفون بالعدل والحيادية والنزاهة إلى إعمال الدليل، والتماس العذر للعالم في زلته، والتأدب في رد مقالته، وعدم المبالغة في تعظيم العالم والمستفتى بأخذ كل ما يصدر عنه، أو اعتقاده إصابته الحق في كلّ ما يُفتي فيه أو يُخبِر به؛ لأنَّه من بني البَشر، "وكلُّ بني آدَم خطّاء، وخير الخطائين التوّابون" كما جاء في الأثر، أخبر صلى الله عليه وسلم، والعالم في هذا كغيره، معرض للخطأ، والوهم، والنسيان. ولخطورة زلات العلماء عليهم وعلى الأتباع، كان لابد من بيان الموقف الشرعي تجاه هذه الزلات من العلماء والدعاة، وواجبنا تجاه ذلك في ضوء الكتاب والسنّة.
أولا: تعريف زلة العالم:
أصل الزلّة والزَّلَل في اللغة من زلَّ يزِلُّ، إذا انحَرفَ عن مساره، أو نَزَل عن مستواه، قال الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة:
لو يقومُ الفِيلُ أو فَيَّالُهُ***زَلَّ عن مِثْلِ مَقَامي وزَحَلْ
أي: لم يبلغ مكانتي بل انحطَّ عنها.
أما في الاصطلاح فزلّة العالم: خطؤه ومجانبته الصواب باجتهاد في آحاد المسائل، مع سلامة أصوله في الاستدلال والتقعيد. وكأنَّ المسألة التي زلَّ فيها لا تناسب مكانته في العلم والتحقيق والوَرَع، بل هي دونها، أو مائلة عن السبيل التي ينتهجها عادةً.
شبه العلماء زلة العالم بانكسار السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير، وقيل: زلة العالم مضروب بها الطبل. وللسلف -رضوان الله عليهم- آثار كثيرة في التحذير من زلات العلماء منها: قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: " ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون ". وقال سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: "كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة العالم: فإن اهتدى؛ فلا تقلدوه دينكم، تقولون نصنع مثل ما يصنع فلان، وننتهي عما ينتهي عنه فلان، وإن أخطأ؛ فلا تقطعوا إياسكم منه، فتعينوا عليه الشيطان". وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئاً برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه؛ فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع ". وكان معاذ بن جبل -رضي الله عنه- يقول في خطبته كثيراً: "وإياكم وزيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وقد يقول المنافق الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به؛ فإن على الحق نوراً، قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟، قال: هي كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟ فاحذروا زيغته، ولا تصدنكم عنه؛ فإنه يوشك أن يفيء، وأن يراجع الحق"
وقال الحسين بن فضل: "لكل عالم هفوة ". وقال علي بن الحسين -رحمه الله، ورضي عن أبيه- عن زلة العالم: "ليس ما لا يعرف من العلم، إنما العلم ما عرف، وتواطأت عليه الألسن". وحكى الزركشي أن القاضي المالكي إسماعيل بن إسحاق الأزدي -رحمه الله-قال: "دخلت على المعتضد، فَدَفَع إليَّ كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: إن مصنف هذا زنديق. فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رُوِيَت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلّة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمَر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب". وقد أحسن مَن قال:
أيُّها العالِم إيّاك الزَلَل *** واحذَرِ الهفوةَ فالخَطبُ جَلَلْ
هفوةُ العالِمِ مُستَعظَمَةٌ *** إن هَفَا يوماً أصبَحَ في الخَلْقِ مَثَلْ
إن تكُن عندَكَ مُستَحقَرةٌ *** فهيَ عِندَ اللهِ والناسِ جَبَلْ
أنتَ مِلحُ الأرضِ ما يُصلحُهُ *** إن بَدا فيهِ فَسادٌ أو خَلَلْ
ثانيا: أقسام الناس أمام زلات العلماء:
1-صنف لا يرى أن عند هذا العالم أي خطأ، فهو يعظمه ويجله ويصوبه لدرجة أن يجعل سيئاته حسنات.
2-وصنف يسقط ذلك العالم لمجرد تلك الزلة أو الزلات فلا يرى له حسنة إطلاقاً.
3-وصنف وفقه الله وسدده فاتبع الحق وهو العدل، فتراه يعظم من يستحق التعظيم من أهل العلم والدعاة والصالحين مع إقرارهم بأنه وإن عظم شأن الرجل فإنه تكون له الحسنات والسيئات فيمدح ويوالى ويذم ويعادى بحسب ما فيه من الحسنات والسيئات.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن ونوع من الهوى الخفي فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه. وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه. بل في بره وكونه من أهل الجنة بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان وكلا هذين الطرفين فاسد. والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا. ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه. فيعظم الحق ويرحم الخلق ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه، ويبغض من وجه. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم ". وقال في موطن آخر: " والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم كحال أهل البدع. فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة تريد أن تجعل أحدهم معصوماً من الذنوب والخطايا. والآخر مأثوماً فاسقاً أو كافراً فيظهر جهلهم وتناقضهم كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوة موسى أو عيسى مع قدحه في نبوة محمد -عليه الصلاة والسلام- فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه ".
ثالثاً: أسباب زلل العلماء؟
إذا استقرأنا جملة من المسائل المعدودة من قبيل زلاّت العلماء سنجد أنّ السبب المفضي إلى وقوع العالم فيها غالباً ما يكون أحَدَ أمرين، هما:
أولاً: مغالطة المستفتين للعلماء، واستدراجهم إلى ما يريد المستفتي الوصول إليه، بالتلبيس تارةً والتدليس عليهم تارةً أخرى، حيث ترى المستفتي يضمِّن سؤاله الفتوى التي يريد الوصول إليها، ولا يفتأ يراوغ حتى ينتزعَها من العالم انتزاعاً، ثم يطير بها فرِحاً يبثُّها هنا وهناك. وقد رزئت هذه الأمة منذ القدم بأمثال هؤلاء المستَفْتين، والموفّق من العلماء من عصمه الله من الوقوع في حبائلهم، ووفَّقَه للإعراض عن ضلالاتهم، وعدم الركون إليهم. ألا ترى أن من عظيم منن الله –تعالى- على خاتم أنبيائه ورسله؛ أن ثبّته في وجه من أرادوا ليزلقوه بألسنتهم، قال تعالى: (ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [ الإسراء : 74 ]. يقول العلاّمة ابن القيم -رحمه الله- في سفره الحافل إعلام الموقعين : " حرم عليه ـ أي على المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب، أو تحليل محرم، أو مكر، أو خداع، أن يعين المستفتي فيها، و يرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده، بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، و لا ينبغي له أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، و إن لم يكن كذلك زاغ و أزاع، و كم من مسألة ظاهرها جميل، و باطنها مكر و خداع و ظلم! فالغِرُّ ينظر إلى ظاهرها، ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينفُذُ إلى مقصدها وباطنها. فالأول يَرُوج عليه زَغَلُ المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زَغَلُ الدراهم، والثاني يُخرِج زيفَها كما يخرج الناقد زيف النقود، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك ". ومن منطلق الخبرة بأحوال الناس، والوقوف على مكرهم وتحايلهم على الشرع وحَمَلَتِه، كان الأئمة الأثبات -ولا يزالون- يحتاطون في الفتيا، ويردون مسائل المغالطين ". قال إمام دار الهجرة -رحمه الله-: " قال رجل للشعبي: إني خبأت لك مسائل فقال: خبئها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها ".
ثانياً: مسايرة العلماء لمن يستفتيهم، وهذا من أعظم البلاء الذي حلّ بالأمّة في العصر الحاضر، إذ نبَغَت فيها نابغة من الملفّقة الذين لا يألون جهداً في تطويع الشريعة لظروف العصر، بدلاً من تحكيم الشريعة في أمور العباد الدينيّة والدنيويّة، وكوّنت هذه الدعوة أرضاً خصبة للعصرانيين، ودعاة التلفيق، والترخيص. ويتذرّع هؤلاء بمراعاة مصالح العباد، وتيسير أمور معاشهم، تحت وطأة الضغوط الاجتماعيّة. وإذ يراعي هؤلاء بعض مقاصد الشريعة في فتاواهم، يضربون صفحاً عن أحد أهم تلك المقاصد، وهو تحقيق العبوديّة الحقّة من العباد لبارئهم. يقول الشاطبي -رحمه الله-: " المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ".
ومن زلَلِ بعض العلماء المعاصرين؛ اتّخاذ التيسير منهجاً في الفتوى، إلى حدٍّ انتهى بأصحابه إلى تحليل بعض المحرمات، وإضعاف الوازع في نفوس المسلمين، حتى أشربت قلوب الكثيرين منهم الفتن، وقصرت هممهم عن القيام بما افتُرضَ عليهم، وحُلَّت كثيرٌ من عرى الإسلام استناداً إلى فتاوى ميسِّرة (أو مسايِرة) للواقع.
ثالثاً: ممالأة الحكام والطواغيت، ومن أشنع صور المسايرة في العصر الحديث؛ ممالأة الحكام والتغاضي عن مخالفاتهم، وتبرير تعطيلهم لأحكام الشريعة الربّانيّة، واستبدالها بزبالات الأذهان، وشرائع الوضّاعين، بدعوى الالتقاء مع المخالفين من المبتدعة والعصرانيين والملاحدة على أرضيّة وطنيّة أو قوميّة جامعة، تذيب الفوارق، والخلافات العقديّة، والطائفية، وتقرّب بين الفِرَق والأديان، تحت مسمى التعايش تارةً، والتقريب بين المذاهب، وحوار الحضارات تارات أُخَر.
و لا ريب في أنّ من دعا إلى شيء من ذلك فهو من أئمّة الضلال، و ينبغي أن لا يغترّ بظهوره في لبوس العلماء، في زمنٍ تكاثر، و ظَهرَ -في بعض البلدان- فيه علماء السوء، واستطار شرّهم. ومن المغالطة اعتبار هذه الدعوات من قبيل زلات العلماء، بل هي عين الباطل والضلال، وإن كان دعاتها يتذرّعون إلى الوصول إليها وترويجها بمقولات بعض العلماء، فهي في أصلها زلّة، ولكنها ضلالٌ مبين بالنظر إلى ما آلت إليه.
يتبع
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم