الشيخ عادل يوسف العزازي
دليل وجوبها:
أولاً: من القرآن: قال اللَّه -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 267]، وقال -تعالى-: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام: 141].
ثانيًا: من السنَّة:
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فيما سقَتِ السماء والعيون أو كان عَثَريًّا: العُشْرُ، وفيما سُقِي بالنَّضح: نصف العُشر))[1].
(العَثَري): النخيل الذي يشرب بعروقه من التربة بدون سقْيٍ.
ثالثًا: الإجماع:
أجمعت الأمَّة على وجوب العُشر، أو نصف العُشر فيما أخرجته الأرض، واختلفوا في التفاصيل لهذه الأصناف.
(1) الأصناف التي يجب فيها زكاة الزروع:
الأصناف التي وردت بها النصوص في وجوب الزكاة، منها أربعة، وهي: الحِنطة والشعير والتمر والزبيب؛ لِما رواه الحاكم وصحَّحه ووافقه الذهبي عن أبي موسى ومعاذ - رضي الله عنهما - أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- بعثهما إلى اليمن يعلِّمان الناس أمْرَ دينهم، ((فأمرَهم ألا يأخذوا إلا من هذه الأربعة: الحِنطة والشعير والتمر والزبيب))[2].
وهذا ما رجَّحه الشوكاني في "السيل الجرار"، ورجَّحه ابن حزم في "المحلَّى"، ورجَّحه الشيخ الألباني، واستدلالهم: عدم نهوض دليل يدلُّ على وجوب الزَّكاة في غير هذه الأصناف الأربعة.
واعلم أنه قد تنازع الفقهاء فيما عدا هذه الأربعة على أقوال كثيرة مختلفة؛ مستدلِّين على ذلك بقياس غير هذه الأربعة عليها، وبعموم بعض الأدلة.
فقد ذهب الشافعي إلى وجوب الزكاة في كلِّ "ما يُقتات ويدَّخر"، وهو مذهب الإمام مالك أيضًا.
وذهب الحنابلة إلى وجوبها في كلِّ ما "يُكال ويدَّخر"، وأما أبو حنيفة، فيرى الزكاة في كل ما أخرجتْه الأرض عدا القصب الفارسي والحشيش الذي ينبت بنفسه، وخالفه في ذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد، ووافقا قول الشافعية والمالكية.
وفي "سبل السلام" قال الصنعاني: "وحديث معاذٍ وأَبي موسى واردٌ على الجميع، والظاهر مع من قال به - أيْ: حصر الزكاة على الأصناف الأربعة - قال: لأنَّه حصرٌ لا يقاوَم بعموم ولا قياس؛ فالأوضح دليلاً مع الحاصرين للوجوب في الأربعة" [3].
قلت: ولعلَّ أرجحَ الأقوال في ذلك قولُ الشافعية والمالكية: إنَّ الزكاة واجبة فيما يُقتات ويدَّخر؛ لأن المذكور في الحديث هي أقواتُهم وقتَها، والله أعلم.
ما لا يؤخذ منه الزكاة:
وعلى هذا؛ فلا زكاة في الخَضْراوات ولا الزيتون، وقد روى الأثْرم في "سننه" عن عطاء بن السائب قال: أراد عبداللَّه بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخَضْراوات صدقةً، فقال له موسى بن طلحة: ليس لك ذلك؛ إنَّ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((ليس في ذلك صدقةٌ)).
وهذا الأثر وإن كان مرسلاً، فإن له شواهدَ تقوِّيه؛ كما في "التَّلخيص الحَبير" و"نصب الراية"[4].
قال ابن القيِّم: "ولم يكن من هديِه -صلى الله عليه وسلم- أخذُ الزكاة من الخيل والرَّقيق، ولا البغال ولا الحمير، ولا الخضراوات، ولا المباطخ والمَقَاثِي، والفواكه التي لا تُكال ولا تدَّخر إلا العنب والرُّطَب فإنه يأخذ الزكاة منه جملةً، ولم يفرِّق بين ما يبِس منه وما لم ييْبس"[5].
نصاب زكاة الزروع والثمار:
تقدَّم فيما سبق الأصناف التي تجب فيها الزكاة من الزروع والثمار، وتحقَّق القول فيها أنها أربعة أصناف، أو يقال: كلُّ ما يُقتات ويدَّخر، لكن ما النصاب الذي يجب أن يخرج منه الزكاة؟
الصحيح من ذلك أن نصاب الزُّروع والثمار خمسة أوسقٍ، وهو قول جمهور أهل العلم؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ليس فيما دون خمسةِ أَوْسقٍ صدقةٌ، ولا فيما دون خَمس أواقٍ صدقةٌ، ولا فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقةٌ))[6].
و (الوسْق): ستُّون صاعًا، و(الصاع): قدَح وثلُث، فيكون النصاب خمسين كِيلة، ويلاحظ أن النصاب يقدَّر بعد تصفية الحبوب من قشورها، وجفاف الثمار.
قال ابن قُدامة: "وتعتبر الخمسةُ أوْسق بعد التصفية في الحبوب، والجفاف في الثمار، فلو كان له عشَرة أوسقٍ عنبًا لا يجيء منها خمسةُ أوسقٍ زبيبًا، لم يجب عليه شيء" [7].
لكن إن أراد ادَّخاره بقشره؛ فالأرجح أن يقدِّر الثقات من أهل الخبرة ما يخرج منه بعد تصفيته[8].
قيمة زكاة الزروع:
يجب "العُشر" فيما سُقي بغير مُؤنة؛ كالنبات الذي يشرب من السماء والأنهار، وما يشرب بعروقه فيستغني عن سقْيٍ.
ويجب "نصف العُشر" فيما سُقي بالمُؤَن؛ كالدوالي والنواضح، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، ولم يخالفْ في ذلك أحد.
والدليل: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَريًّا[9] العُشر، وما سُقي بالنَّضح نصف العشر))[10].
وفي رواية في صحيح مسلم: ((فيما سُقي بالسَّانِية نصف العُشر))، و"السواني": هي النواضح يستقى بها لشرب الأرض.
متى تجب زكاة الزروع والثمار؟
الصحيح أن الزكاة تجب إذا بدا الصلاح بأن يشتدَّ الحَبُّ، ويحمرَّ الثمر؛ فهذا هو وقت الوجوب، وأما وقت إخراجه، فبعد تصفية الحَبِّ ودرسه، وبعد جفاف الثمر.
وعلى هذا إذا باع الثمَرة بعد بُدُوِّ صلاحها، فالصحيح أن الزكاة على البائع؛ لأنه انعقد الواجب وهو في ملكه.
وأما إذا تلِف بغير إتلافه أو تفريط منه، فلا زكاة عليه.
قال ابن المنذر: "أجمع من يُحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحةٌ قبل الجَذاذ، فلا ضمان" [11].
وأما إن أتلفها بعد الوجوب بتفريطِه أو عُدوانه، لم تسقط عنه الزكاة، ويجب عليه أداؤها.
وإذا ادَّعى تلفَها من غير تفريطه، قُبل قوله من غير يمين.
قال أحمد: لا يُستحلفُ الناس على صدقاتهم، وأما عند الشافعية فيرون استحلافه، لكنهم يختلفون: هل هذا الاستحلاف على الوجوب أو على الاستحباب؟
مسائل متعلقة بزكاة الزروع والثمار:
(1) الزكاة واجبة على صاحب الزرع، سواءٌ كان هو مالكَ الأرض، أو زرَعها بمعاملة جائزة؛ كالإيجار والهبة، أو معاملة غير جائزة؛ كأن يكون غاصبًا للأرض، وأما إذا كان بين صاحب الأرض وصاحب الزرع مُزارعة؛ أخذ كل واحد منهما نصيبَه، ثم أخرجت زكاة كلٍّ منهما، فإذا لم يبلغ نصيبُ الواحد نصابَ الزكاة، فلا زكاة عليهما[12].
(2) تجب زكاة الزروع والثمار لكل صِنف من الأصناف الواجب فيها الزكاة مستقلاًّ إذا كمَّل خمسة أوسُقٍ، فلا يُضم التمر إلى الزبيب، ولا الحِنطة إلى الشَّعير، ولكن إذا كان الجنس الواحد منه أنواع ضمَّ بعضها إلى بعض، مثل بلح السمان والزغلول والأمهات، يضم بعضُه إلى بعض في تقدير النصاب.
(3) تجب الزكاة إذا كمَّل الصنف الواحد خمسة أوسقٍ، سواءٌ زرعت في مكان واحد، أو في مكانين متباعدين، مهما كان تباعدُهما، طالما أنَّ مجموع الصنف الواحد بلغ نصابًا لنفس الشخص.
وكذلك يضم زرعُ العام الواحد بعضه إلى بعض في تكميل النصاب، سواءٌ اتَّفق وقت زرعه أو اختلف، فما كان منه بالصيف ضم إلى ما كان منه بالرَّبيع وهكذا.
(4) ما أنفقه الزارع للحرث والحصاد والجمع والدرس ونحو ذلك، هل يسقط من الزكاة أم لا؟
الذي ثبت عند البيهقي وابن أبي شيبة عن جابر بن زيد، عن ابن عباس وابن عمر في الرجُل يستقرض فينفق على ثمرته وعلى أهله، قال: قال ابن عمر: يبدأ بما استقرض فيقضيه، ويزكي ما بقي، قال: وقال ابن عباس: يقضي ما أنفق على الثمرة ثم يزكِّي ما بقي[13].
ومعنى هذا أن ابن عباس يرى أن يقضيَ ما أنفقه على زرعِه فقط، ولا يحتسب ما أنفق على أهله.
وأما ابنُ عمر، فيرى أنه يقضي ما أنفق على زرعه وأهله.
هذا إذا كان عليه دَيْن، وأما إذا أنفق من ماله، ولم يكن عليه دَيْن، فالظاهر أنه لا يسقط منه شيء، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة.
(5) لا يُعَدُّ على صاحب الزرع في الزكاة ما أكَله هو وأهله، أو سقط، فيأكله الطير أو الماشية، أو يأخذه الضعفاء أو تصدَّق به حين الحصاد.
(6) قال ابن تيمية: "لا يتعيَّن على صاحب المال الإخراجُ من عين المال، بل من كان معه ذهب أو فضَّة أو عرَض تجارة، أو له حَبٌّ أو ثمر يجب فيه العُشر، أو ماشية فيها الزكاة، وأخرج مقدار الواجب المنصوص من غير ذلك المال أجزأه"[14].
(7) قال ابن قدامةَ: "فإذا سقى نصف السنة بكلفة ونصفَها بغير كلفة، ففيه ثلاثة أرباع العُشر.. لا نعلم فيه مخالِفًا"[15].
(8) فإن كان لرجل حائطان - أي: بستانان - سقى أحدَهما بمُؤنة والآخرَ بغير مؤنة، ضم غلَّة أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب، وأخرج من الذي سُقِي بغير مُؤنة عُشْره، ومن الآخر نصفَ عشره.
(9) لا وَقْص[16] في نصاب الحبوب والثمار، بل مهما زاد على النِّصاب أخرج منه بالحساب، فيخرج عُشر جميع ما عنده[17].
بخلاف الماشية؛ فإنه كلما زاد المواشي لا يحسب حتى يكتمل عنده العددُ الذي بعده؛ راجع ما تقدَّم من زكاة الماشية.
(10) وإذا وجب عليه عُشرٌ مرَّة، لم يجب عليه عشرٌ آخرُ في نفس الثمار، وإن حال عليه الحول، فإذا بقي الحَبُّ عنده أكثرَ من الحول ولم ينقص عن النصاب، فلا يجب عليه إخراج الزكاة مرة أخرى... فإن اشترى شيئًا من ذلك للتجارة، صار عَرَضًا تجب فيه زكاة التجارة إذا حال عليها الحَوْل[18].
(11) إذا حفر نهرًا أو قنواتٍ، فقد أفاد ابن قدامة في "المغني" والرافعي في "الشرح الكبير": أن حفر الأنهار والقنوات لا يؤثِّر في نقصان الزكاة.
وقال الخطَّابي: "إن كان لا مُؤنة فيه أكثر من مُؤنة الحفر الأول، وكسَحها في بعض الأوقات، فسبيلُها سبيل النهر، والسيح في وجوب العُشر، وإن كان تكثُر مُؤنتها بأن لا تزال تتداعى وتنهار ويكثر نُضوب الماء فيها فيحتاج إلى استحداث حفرٍ، فسبيلها سبيل ماء الآبار التي ينزع منها بالسَّواني" [19]، أي: إنه في الحالة الأخيرة يجب نصف العشر.
(12) قال ابن قدامة: "يصحُّ تصرُّف المالك في النصاب قبل الخَرْص وبعده بالبيع والهبة وغيرهما، فإن باعه أو وهبه بعد بدوِّ صلاحه، فصدقتُه على البائع والواهب، وبهذا قال الحسن، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وبه قال اللَّيث، إلا أن يشترطَها على المبتاع" [20].
ولو اشترى الثمرة قبل بدوِّ صلاحها، ثم بدا صلاحُها في يد المشتري على وجهٍ صحيح، مثل أن يشتري نخلة مثمرة، أو وهبت له ثمرة قبل بدوِّ صلاحها، فبدا صلاحُها في يد المشتري أو المتَّهب... فالصدقةُ عليه؛ لأن سبب الوجوب وجد في مِلْكه.
(13) قال ابن عُثيمين: "إذا قيل لرجل: احصد هذا الزرع بثُلثه، فحصده بثلثه، فلا زكاة عليه في الثلث؛ لأنه لم يملكْه حين وجوب الزكاة، وإنما ملَكه بعد ذلك"[21]، والمقصود حتى لو بلغ هذا الثُّلث خمسة أوسقٍ.
زكاة الأرض الخراجية:
يقسِّم العلماءُ الأرض إلى قسمين: عُشرية وخراجية:
فالأرض العُشرية: هي إحدى هذه الأنواع الآتية:
(أ) كلُّ أرض أسلم عليها أهلُها، فهم مالكون لها.
(ب) كلُّ أرض أُخذت عَنوة - أي: بالقوة - فلم يجعلها الإمام فَيْئًا (أي: لم يجعلها مِلكًا للدولة)، بل جعلها غنيمة بأنْ قسمها بين الفاتحين لتصير الأرض ملكًا لهم.
(جـ) كلُّ أرض لا مالك لها أقطعها الإمامُ لبعض الرَّعية.
(د) كل أرض "مَوَات" أحياها رجل من المسلمين بالماء والنبات.
والأرض الخَراجية: هي إحدى نوعين من الأرض:
(أ) أرض فُتحت صلحًا، فبقيت في ملك أصحابها.
(ب) أرض فُتحت عَنوة، وجعلها الإمام فَيْئًا، أي: مِلكًا للدولة، مع إبقاء يد أصحابها عليها دون أن يملِكوا عين الأرض.
فهذه الأرض يُفرض على أصحابها "الخراج" حسْب ما يراه الإمام، وهذا الخراج مقابل إيجار نظير انتفاع أصحاب هذه الأراضي بها.
ولا خلاف بين العلماء أن القسم الأول "الأرض العشرية" تجب الزكاة في زرعها حسب ما بيَّناه في الفصول السابقة، وإنما الخلاف في الأرض الخراجية؛ هل يجب إخراج العشر أيضًا مع الخراج؟
فالذي ذهب إليه الجمهور هو وجوب العُشر في الأرض الخراجية مع الخراج؛ لعموم الأدلَّة في وجوب زكاة الزرع؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((فيما سقت السماء العُشر...))، ولم يفرِّق بين أرض وأرض.
وأيضًا فسبب الخراج غير سبب العُشر، فالعشر عِبادة، والخراج اجتهاد يراه الحاكم مصلحة، فهو نظير تأجير الأرض وانتفاع الزارع بها، كما أنَّ مخرج الزكاة في الأصناف الثمانية يختلف عن مخرج الخراج؛ فالخراج للمصالح العامة للدولة، وإعطاء الرواتب للقائمين على شؤونها، والإنفاق على الجند، ونحو ذلك.
وأمَّا الزكاة فهي تُصرف للمصارف الثمانية المذكورة في سورة (التوبة)[22].
واستدلَّ الحنفية بأدلَّة لا تنهض لرأي الجمهور، ولا يكفي هذا المختصَر لذِكْر أدلتهم، فيمكن مراجعته في الكتب المطولة.
والراجح ما ذهب إليه الجمهور من وجوب العُشر مع الخراج في الأرض الخراجية.
تقدير النصاب في النخيل والأعناب بالخرص:
عن أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: غزَوْنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- غزوة تبوكَ، فلما جاء وادي القرى إذا امرأة في حديقة لها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اخرُصوا))، وخرَص رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عشَرة أوسقٍ، فقال لها: ((أحصي ما يخرج منها))[23].
وعن عائشة - رضي الله عنها - وهي تذكر شأنَ خيبرَ: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث عبدالله بن رواحة إلى يهودَ، فيَخْرُص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يُؤكل منه"[24].
(والخَرْص) هو التقدير باجتهاد الساعي الأمين، بحيث يقدِّر ما على النخل والشجر من الثمار والعنب، ثم يقدِّره تمرًا أو زبيبًا ليعرف مقدار الزكاة منه، ويكون هذا الخرص بعد بدوِّ صلاحه، والثمار ما زالت على النخيل والأعناب.
والحكمة من ذلك: إحصاءُ الزكاة، ومعرفة قدرها قبل أن تؤكل الثمار؛ فإن العادة جرت بأكل الثمار رُطبًا.
وعلى هذا فيلاحظ ما يأتي:
أولاً: يكون الخَرص إذا بدا الصلاح، وبدوُّ صلاحه بأن يحمرَّ التمر أو يصفرَّ، وبأن يبدأ جريان الحلاوة في العنب.
ثانيًا: يجزئ أن يكون الخارص واحدًا، ويعتبر أن يكون أمينًا غير متهم، عارفًا بما يمكن أن يقدر به الثمار.
ثالثًا: على الخارص أن يدَعَ في تقديره قدْر ما يأكلون، ويقدره بعضهم بالثلث، فإن لم يفعل فليدَعْ لهم الربع توسعةً على أرباب الأموال؛ لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم، ويُطعمون جيرانهم وأهليهم وأصدقاءهم، واستدلُّوا على ذلك بحديث سهل بن أبي حَثْمة أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((إذا خَرَصتم فخذوا ودَعُوا الثلث، فإن لم تدَعُوا الثلث، فدعوا الربع))[25]، لكنَّه حديث ضعيف فيه رجُل مجهول.
رابعًا: قال ابن قدامة: "إذا ادعى ربُّ المال غلط الخارص، وكان ما ادَّعاه محتملاً، قُبِلَ قوله بغير يمين، وإن لم يكن محتملاً مثل أن يدعيَ غلط النِّصف ونحوه، لم يقبل منه، وإن قال: لم يحصل في يدي غيرُ هذا، قُبِلَ منه بغير يمين؛ لأنه قد يتلف بعضها بآفة لا نعلمها" [26].
خامسًا: إن لم يُخرجِ الإمامُ خارصًا كما هو الحال في زماننا، فقد أفاد ابن قدامة في المغني[27] أنه يخرج هو خارصًا يقدر ذلك، وإن خرص هو بنفسه جاز، ويحتاط في ألاَّ يأخذ أكثر مما له أخذُه.
سادسًا: الخَرْص إنما يكون في النخيل، ويلحق به الأعناب فقط، وأما الحبوب فلا خرص فيها.
سابعًا: صفة الخرص: أن يطوف بالشجرة، ويرى جميع ثمرتها، ويقول: خرْصُها كذا وكذا رُطبًا، ويجيء منه كذا وكذا يابسًا.
زكاة العسل:
الصحيح الذي عليه الجمهور فيما حكاه ابن عبد البرِّ عنهم أنه لا زكاة في العسل.
قال ابن المنذر: ليس في وجوب الصدقة في العسل خبرٌ يثبت ولا إجماع؛ فلا زكاة فيه، وهو قول الجمهور.
قال البخاري: ليس في زكاة العسل شيء يصحُّ.
وقال الشافعي: واختياري ألاَّ يؤخذ منه؛ لأن السنن والآثار ثابتةٌ فيما يؤخذ منه، وليست ثابتة فيه، فكان عفوًا.
وذهب أحمد وأبو حنيفة إلى أنَّ في العسل زكاة؛ مستدلِّين على ذلك بما رواه أبو داود: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: جاء هلالٌ - أحدُ بني مُتعان - إلى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- بعُشور نحل له، وكان سأله أن يحميَ واديًا يقال له: "سلَبةُ"، فحمى له رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- ذلك الوادي، فلما ولِي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إليه سفيان بن وهب يسأله عن ذلك، فكتب عمر: إنْ أدَّى إليك ما كان يؤدي إلى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- من عشور نحله، فاحمِ له سلبةَ، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء[28].
وأفاد الشَّوكاني في الرد على دليل من أوجب زكاة العسل بأنَّ الحديث لا يدل على وجوب الزكاة؛ لأنه تطوَّع به وحمى له بدل ما أخذ، وعقَل عمر العلَّة فأمر بمثل ذلك، ولو كان سبيله سبيل الصدقات، لم يخيّر في ذلك[29].
فالراجح في ذلك هو قول الجمهور أنه لا زكاة في العسل.
قال الخطابي: "وقوله: "حمى له الوادي"، معناه: أن النحل إنما ترعى من البقل والنبات أنوارَها...، فإذا حُميت مراعيها أقامت فيها، وأقبلت تعمل في الخلايا فكثُرت منافع أصحابها، وإذا شوركت في تلك المراعي نفَرت من تلك المواضع، وأمعنت في طلب المرعى فيكون رِيعها حيث أقلَّ؛ أي: أقامَ.
وقد يحتمل ذلك وجهًا آخر، وهو أن يكون ذلك بأن يحمي لهم الوادي الذي يُعسَّل فيه، فلا يُترك أحد أن يتعرض للعسل فيشتاره؛ وذلك أنَّ سبيل العسل سبيل المياه والمعادن، وليس لأحد عليها مِلك، وإنما تملك باليد لمن سبق إليها، فإذا حمى له الوادي ومنع الناس منه حتى يجتازه هؤلاء القوم، وجب عليهم بحق الحماية إخراجُ العُشر منه، ويدلُّ على صحة هذا التأويل قوله: (فإنما هو ذباب غيثٍ يأكله من يشاء)"[30].
[1] البخاري (1483)، وأبو داود (1596)، والترمذي (640)، وابن ماجه (1817)، والنسائي (5/41).
[2] الحاكم (1/401)، والبيهقي (4/128)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وانظر الإرواء (3/278).
[3] سبل السلام (2/611).
[4] انظر نصب الراية (2/386)، والتلخيص (2/166)، والإرواء (3/279).
[5] زاد المعاد (2/11).
[6] البخاري (1405)، ومسلم (979)، وأبو داود (1558)، والنسائي (5/17).
[7] المغني (2/696).
[8] راجع تفاصيل هذه المسألة في المغني (2/696)، وانظر المجموع (5/458).
[9] العَثَرِيُّ: ما تسقيه السماء، وتسمِّيه العامة: العدي، وقيل: ما يشرب بعروقِه من الأرض، ويسمى: (بعلا) وقد ورد هكذا في بعض الروايات.
[10] البخاري (1483)، وأبو داود (1596)، والترمذي (640)، والنسائي (5/41)، وابن ماجه (7/18).
[11] انظر: سبل السلام (2/613).
[12] إذ لا تأثير للخلطة؛ انظر كلام الشيخ ابن عثيمين.
[13] البيهقي (4/148)، وابن أبي شيبة (2/377).
[14] الفتاوى (25/56).
[15] المغني (2/699).
[16] المقصود بالوقص: المقدار الذي بين مقدارين، كما في الماشية، فإنه لا يحسب عليه زكاة حتى يصل إلى المقدار الذي بعده.
[17] المغني (2/700).
[18] المغني (2/702).
[19] انظر: معالم السنن (2/702)، والمغني (2/700)، وانظر الشرح الممتع (6/82).
[20] المغني (2/704).
[21] الشرح الممتع (6/79).
[22] وسيأتي تفاصيل هذه الأصناف.
[23] البخاري (1481)، ومسلم (1392)، وأبو داود (3079).
[24] رواه أبو داود (1606)، وأحمد (6/163)، ورجاله ثقات، لكنه منقطع، وله شواهد، منها عن جابر: رواه أحمد (3/296)، وابن أبي شيبة (3/194)، وسنده صحيح، وعن ابن عمر عند أحمد (2/24)، وسنده حسن، وعن عتاب بن أسيد؛ رواه أبو داود (1604)، وفي سنده انقطاع.
[25] رواه أبو داود (1605)، والنسائي (5/42)، والترمذي (643).
[26] المغني (2/708).
[27] المغني (2/709).
[28] حسن: أبو داود (1600)، وابن ماجه (1823).
[29] نيل الأوطار (4/208).
[30] معالم السنن (2/255 - هامش سنن أبي داود).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم