رمضان أفراح الأرواح

خميس سعد النقيب

2025-03-08 - 1446/09/08 2025-03-10 - 1446/09/10
عناصر الخطبة
1/ التوكل على الله والسعي للرزق الحلال. 2/ التحذير من المكاسب المحرمة. 3/ خطورة التسوّل وطلب المال دون حاجة حقيقية. 4/ الدعاء بالتوفيق والرزق الحلال.

اقتباس

هذه هي أفراح الأرواح في رمضان؛ لكن لمن إذن هذه الأفراح؟! هل هي للمجاهرين والظالمين والمحتكرين؟! هل الذين جاءهم رمضان فوجدهم يسرقون وينهبون؟!، أو يرتشون ويستغلون؟! هل الذين ينافقون ويكذبون؟!...

الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

 

الحمد لله فرض الصيام طُهْرًا للأنام، وصلةً للأرحام، وبرًّا للأيتام، ونَشْرًا للمحبَّة والسلام، وبرًّا بالفقراء والمساكين، وقربًا من الله ربِّ العالمين.

 

الحمد لله جعل النصر بيده (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: ١٢٦]، واختص به المؤمنين (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: ٤٧] لكنه علق هذا النصر وشرطه بعمل المؤمنين أنفسهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: ٧].

 

الحمد لله قامت بربها الأشياء، وسبحت بحمده الأرض والسماء، ولا زال الكون محكوما بأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ فما من شيء الا هو خالقه ولا من رزق الا هو رازقه، ولا من خير إلا هو سائقه، ولا من أمر إلا هو مدبره (يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)[الرعد:٢].

 

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ونشهد ان سيدنا محمد عبد الله ورسوله اعتز بالله فاعزه، وانتصر بالله فنصره، وتوكل على الله فكفاه، وتواضع لله فشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ويسر له امره، ورفع له ذكره، وذلل له رقاب عدوه.. اللهم صل وسلم وبارك عليك يا رسول الله وعلى أهلك وصحبك ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أيها المسلمون عباد الله: الفرح في رمضان من علامات الإيمان، والصوم ليس قمعا للغرائز، أو قصفا للشهوات، أو كبتا للملذات، وإنما ترويضها، وتهذيبها، وضبط حصولها، وتعويد النفس والجسم عليها، وعدم الاسترسال فيها؛ لماذا؟! لأنها أصل البلاء على الروح، ومنبع الخراب على البدن، ومصدر الدمار على النفس.

 

عباد الله: الصوم إذن جوع البدن لكنه شبع الروح، وسمو النفس، وصحة البدن، ووقاية القلب، قال -صلى الله عليه وسلم-: “صوموا تصحوا” رواه الطبراني وقال النسائي لا بأس به، وقال “من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء” البخاري ومسلم، وجاء يعني وقاية، والصوم يعود الصبر، ويقوي الإرادة، ويعلم ضبط النفس. عن أبي هريرة “الصيام نصف الصبر” السيوطي في الجامع الكبير

 

فرح الروح هو نوع من الراحة والطمأنينة، ومجرد الشعور بهذا الفرح ينعش النفس والروح، فيحصل الجمال الروحي ويبقى لون من ألوان الفرح البراق.

 

ولن يبقى معك في النهاية إلا من رأى جمال روحك، أما المنبهرون بالمظاهر فيرحلون تباعًا ولن يبقى منهم أحد.

 

وجمال الرّوح لا يُشترى، انما ينبت في الطاعات، ويروي من العبادات، ويترعرع في القربات، إنه منحة الله لمن يستحقها، ولا ينطفئ بريق الرّوح إلاّ إذا انطفأ نور النّقاء والصفاء من قلب صاحبها.

 

أيها المسلمون: أن أصحاب الأرواح الطاهرة هم لُطف ساقه الله إلي الناس، يبعثون الأمان للنفوس، والاطمئنان للقلوب، والفرحة للوجوه.

 

الفرح هنا ليس من الرفاهيات التي يمكن أن تتظاهر بها، الفرح ليس باستطاعتك أن تتجمّل به؛ لماذا؟! لأنه باختصار حالة الروح، والروح لا تكذب، وقد تخلو الأماكن أحياناً من أولئك الأحباب الرائعون بأرواحهم القريبون من ربهم؛ لكنهم يتربّعون على شرفات القلب دائماً وأبدا.

 

إن الرّوح السامية لا يعتريها اليأس ولا تلوح أمامها الضبابية، ولا تعرف طريق الالتواء أو الاعوجاج، هي مشرقة بحضورها ومتنعّمه بجمالها وممزوجة ببهجتها.

 

وإن كان غذاء الجسد هو الشراب والطعام، غذاء الروح هو القرآن والصيام، “والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف” رواه ابن حبان عن أبي هريرة، ورمضان شهر الاصطفاف والائتلاف.

 

عباد الله: في رمضان المؤمن يسمو فوق الماديات، ويعلو على الشهوات، في رمضان ينشط الذهن ويتألق، وتصفو الروح وتحلق، وتشرق النفس وبربها تتعلق؛ كيف؟!

 

في رمضان المؤمن يزهد فيما عند الناس ويرغب فيما عند الله، انه يخفف من أثقال الدنيا وجواذب الأرض، وينطلق صوب الآخرة في سعادة غامرة، لسان حاله يهتف: وافرحتاه غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه...!!

 

 في رمضان المؤمن يعمل لمعاده كما يعمل لمعاشه، ويعمل لغده كما يعمل ليومه، ويعمل لآخرته كما يعمل لدنياه (فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: ١٤٨].

 

يعلم أن متاع الدنيا مهما طال فإنه قصير، ومهما كثر فإنه قليل (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء: ٧٧]. يعلم أن الآخرة هي الخالدة.. هي الباقية (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: ١٦-١٧]

 

لذلك يتحرك في الأرض بهذا الفهم، ويعيش في الدنيا بهذا الفقه، تبقي الدنيا في يديه لا في قلبه، فيجعلها مزرعة لآخرته، ومرضاة لربه لقد، المؤمنون في رمضان عرفوا ذلك جيدا فلم يعملوا من أجل مصلحة شخصية ولا منفعة مادية، ولا شهوة حسية، وإنما يعملون، من أجل إعمار الحياة؛ حبا لذات الله، واتباعا لرسول الله (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران: 31].

 

أيها المسلمون: في رمضان يستمتع عباد الرحمن بالعبادة، ويفرح المؤمنون بالطاعة والريادة؛ كيف؟

 

رمضان يجمعنا، يقرب البعيد، ويصالح المتخاصم، ويجمع الصائمون وقت الإفطار على موائده، يفطرون في وقت واحد كما يمسكون كذلك في وقت واحد.

 

رمضان يفرحنا بنفحاته، بصيامه وقيامه وتلاوة القرآن.

 

رمضان يمتعنا بصلة الأرحام وإفشاء السلام وبر الأيتام.

 

رمضان يطهرنا من الذنوب والمعاصي، هذه أحاديث شريفة وردت في هذا المعنى “ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما” رواه مسلم، “رغم أنف امرئ أدرك رمضان ولم يغفر له” رواه الترمذي وصححه الألباني، “أوسطه مغفرة” رواه ابن خزيمة والطبراني والبيهقي، ثم العفو ليلة القدر والعفو.

 

عباد الله: إن من أفضل الدعاء ليلة القدر: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا” رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة.

 

عباد الله: المؤمنون الصائمون يفرحون في رمضان بقرانه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: ١٨٥]

 

يفرحون بصيامه: “للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه” رواه ابن ماجه.

 

يفرحون بقيامه، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة ثم يقول من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. رواه أبو داود.

 

يفرحون بشفاعته، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يقول الصيام أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان”. صحيح رواه البيهقي في شعب الإيمان.

 

يفرحون بصفقاته وصداقاته ونفقاته، كان -صلى الله عليه وسلم- جوادا كريما وكان أجود ما يكون في رمضان عندما كان يدارسه جبريل القرآن. وقد سن صدقة الفطر على الصغير والكبير، والغني والفقير؛ أليست هذه كلها أفراح الأرواح؟!

 

أيها المسلمون: هذه هي أفراح الأرواح في رمضان؛ لكن لمن إذن هذه الأفراح؟! هل هي للمجاهرين والظالمين والمحتكرين؟! هل الذين جاءهم رمضان فوجدهم يسرقون وينهبون؟!، أو يرتشون ويستغلون؟! هل الذين ينافقون ويكذبون؟! أو يغشون؟! هل الذين يظلمون ويستبدون؟! أو يأكلون أموال اليتامى ظلما؟! أو يتعدون حدود الله بغيا؟! أو يرفضون قوانين السماء عنادا وكفرا؟! هل الذين يقضون ليلهم في مشاهدة المسلسلات الهابطة، والأفلام الخليعة، هل الذين يقطعون نهارهم في غفلة ساهون، وفي غيهم سادرون؟! ثم لا يتوبون..! كلا ثم كلا..!!

 

فليفرح هؤلاء فرحا زائلا، فرحا زائفا، فرحا غير مشروع؛ لأنه فرح بغير الحق (ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ).

 

فرحهم زائف كفرح الملعون قارون (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّا للَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص: ٧٦].

 

فرحهم زائل كفرح المخلفون (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة: ٨١].

 

فرحهم مغشوش كفرح هؤلاء (لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [ال عمران: ١٨٨].

 

فرحهم مؤقت كفرح هؤلاء (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام: ٤٤].

 

فرحهم مكذوب غير صحيح، ومنقوص غير كامل؛ لأنه فقط مرتبط بالدنيا وشهواتها ونزواتها ومتاعها (وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ) [الرعد: ٢٦].

 

وهؤلاء إذا تابوا، واقلعوا، وندموا، ولم يصروا على العودة إلى المعاصي، وحققوا شروط التوبة؛ فإن الله يقبلهم ويسامحهم، ويعفو عنهم، مهما كانت ذنوبهم عظيمة فالله أعظم، ومهما كانت سيئاتهم كبيرة؛ فالله أكبر؛ ومهما كانت آثامهم كثيرة فعفو الله أكثر (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:٥٣].

 

عباد الله: لكن أفراح رمضان الحقيقية خاصة بالمؤمنين الصالحين المصلحين.. للذي فرح بقدوم رمضان فعلق الزينات واعد الأماكن للمصلين والمصليات.

 

الذي جاءه رمضان فوجده قد أكرم ضيافته، وأحسن وفادته، فراح يقدر منزلته، ويستشعر مكانته، ويحصل أجره!

 

الذي جاءه رمضان فوجده قد جعل يديه ممرا لعطاء الله، راح ينفق بالليل والنهار سرا وعلانية، بكرة وعشية.

 

الذي جاءه رمضان فوجده قد صام إيمانا واحتسابا، وقام إيمانا واحتسابا، وتحري ليلة القدر وقامها أيضا إيمانا واحتسابا. “يفرح الصائم يوم القيامة بإعطاء الرب إياه ثواب صومه بلا حساب” صحيح رواه ابن خزيمة.

 

الذي جاءه رمضان فوجده جوادا كريما أطعم أفواها، وكسى أجسادا، ورحم أيتاما، ووصل أرحامه.

 

الذي جاءه رمضان فوجده يهتم بأمر المسلمين، يصلح بين المتخاصمين، ويضع عن كاهل المستضعفين، ويدعوا للمحاصرين.

 

الذي جاءه رمضان فوجده وقافا عند حدود الله لا يتعداها، ولا ينساها، إنما يحفظها ويرعاها.

 

الذي جاءه رمضان فوجده لينا في طاعة الله، مطواعا لأمر الله، محبا لرسول الله، عاملا بمنهج الله، إذا قرئ عليه القران سمع وأنصت، وإذا نودي بالإيمان، أمن ولبي (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) [آل عمران: ١٩٣].

 

هذه أفراح الأرواح، الأفراح الحقيقية التي اشارت اليها الآية الكريمة (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: ٥٨].

 

اللهم فرحنا بنفحات رمضان، وأعتق رقابنا من النيران، وشفع فينا الصيام والقرآن.

المرفقات

رمضان أفراح الأرواح.doc

رمضان أفراح الأرواح.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات