اقتباس
وقال شيخ الإسلام: ويكره للأمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة، وهو أصح الوجهين لأصحابنا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يشير بإصبعه إذا دعا. وأما في الاستسقاء فرفع يديه لما استسقى على المنبر.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلة وصحبه أجمعين.
الأصل في الدعاء أنه خضوع وتذلل وتضرع من العبد إلى ربه -سبحانه وتعالى-، ورفع اليدين في الدعاء عمومًا سنة مستحبة يدلّ عليها أحاديث صحيحة كثيرة، إلا في المواضع التي لم يرفع فيها النبي –صلى الله عليه وسلم- فلا نرفع فيها؛ لأن فعله حجة وتركه حجة، أما المواضع التي رفع -صلى الله عليه وسلم- فيها يديه؛ فالسنة فيها رفع اليدين تأسيًا به -صلى الله عليه وسلم-، ولأن ذلك من أسباب الإجابة وأبلغ في الخضوع والتذللِ، وهكذا المواضع التي يدعو فيها المسلم ربه ولم يرد فيها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- رفع ولا ترك فإنا نرفع فيها للأحاديث الدالة على أن الرفع من أسباب الإجابة.
وقد أخبر النبي -صلَّى الله عليه وسلم- أن الله يستحي من العبدِ إذا رفع يديه داعيًا أن يرده دون إجابة طلبه([1]).
وقد اختلف أهل العلم في رفع الخطيب اليدين للدعاء في الخطبة يوم الجمعة على قولين :
القول الأول :
ذهب أصحاب هذا القول إلى جواز رفع اليدين للدعاء حال الخطبة، وهو قول بعض السلف وبعض المالكية كما ذكر ذلك القاضي عياض([2]).
وقد بوَّب البخاري لذلك بابًا وأطلق فقال: باب رفع اليدين في الخطبة([3]).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
ما جاء عن أنس -رضي الله عنه- قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال يا رسول الله هلك الكراع وهلك الشاء فادع الله أن يسقينا فمد يديه ودعا([4]).
القول الثاني :
ذهب أصحاب هذا القول إلى أن رفع اليدين في الجمعة غير مشروع إلا في الاستسقاء، وهو قول مالك([5])، والشافعية([6])، ونقل شيخ الإسلام أنه أصح الوجهين عند الحنابلة([7]).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
ما جاء من حديث حصين بن عبد الرحمن قال: "رأى عمارة بن رويبة بشر بن مروان وهو يدعو في يوم جمعة، فقال عمارة: قبح الله هاتين اليدين. قال زائدة قال حصين: حدثني عمارة قال: لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه و سلم- وهو على المنبر ما يزيد على هذه- يعني السبابة التي تلي الإبهام([8]).
قال العظيم آبادي: قال في المرقاة: " قوله رافعا يديه أي عند التكلم كما هو دأب الوعاظ إذا جموا يشهد له قوله الآتي وأشار بإصبعه المسبحة. قاله الطيبي: وقال النووي: فيه أن السنة أن لا يرفع اليد في الخطبة وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم.
قال رحمه الله: وهل المراد في حديث عمارة بالرفع المذكور رفع اليدين عند الدعاء على المنبر أو المراد رفع اليدين لا وقت الدعاء بل عند التكلم كما هو دأب الوعاظ والقصاص أنهم يحركون أيديهم يمينا وشمالا ينبهون السامعين على الاستماع.
قال: وعندي للمعنى الثاني ترجيح من وجهين:
الأول: أن أبا عوانة الوضاح وسفيان الثوري وعبد الله بن إدريس أوثق وأثبت من هشيم بن بشير ومحمد بن فضيل وإن كان زائدة بن قدامة مثل هؤلاء الثلاثة في الحفظ فتعارض رواية هؤلاء الثلاثة الحفاظ برواية زائدة بن قدامة والعدد الكثير أولى بالحف.
والثاني أن قوله الآتي لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه و سلم- وهو على المنبر ما يزيد على هذه يعني السبابة التي تلي الإبهام يؤيد هذا المعنى الأخير لأن رفع اليدين في الدعاء ليس مأثورًا بهذه الصفة؛ بل أراد الراوي أن رفع اليدين كلتيهما لتخاطب السامعين ليس من دأب النبي -صلى الله عليه و سلم- بل إنما يشير النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصبعه السبابة([9]).
قال الزهري: "رفع الأيدي يوم الجمعة محدث"([10]).
وقال طاووس: "كان يكره دعاءهم الذي يدعونه يوم الجمعة، وكان لا يرفع يديه"([11]).
عن إبراهيم قال: "رفع اليدين والقنوت في الجمعة بدعة"([12]).
وقال شيخ الإسلام: ويكره للأمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة، وهو أصح الوجهين لأصحابنا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يشير بإصبعه إذا دعا. وأما في الاستسقاء فرفع يديه لما استسقى على المنبر([13]).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان يشير بأصبعه السبابة في خطبته عند ذكر الله -تعالى- ودعائه"([14]).
وذهب الشوكاني إلى كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء، وأنه بدعة([15]).
وقال الشافعي: وإن لم يعتمد على عصا أحببت أن يسكن جسده ويديه، إما بأن يضع اليمنى على اليسرى، وإما أن يقرهما في موضعهما ساكنتين([16]).
وقال ابن قدامة:- بعد أن استحب الاعتماد على قوس أو سيف أو عصا، وذكر دليلًا على ذلك- ولأن ذلك أعون له، فإن لم يفعل فيستحب أن يسكن أطرافه، إما أن يضع يمينه على شماله، أو يرسلها ساكنتين مع جنبيه([17]).
وقال النووي في المجموع بعد ذكر العصا أو السيف: قال أصحابنا: ويستحب أن يشغل يده الأخرى بأن يضعها على حرف المنبر. قالوا : فإن لم يجد سيفاً أو عصا ونحوه سكن يديه بأن يضع اليمنى على اليسرى أو يرسلهما ولا يحركهما، ولا يعبث بواحدة منهما، والمقصود: الخشوع والمنع من العبث([18]).
وقال أبو شامة: "وأما رفع أيديهم عند الدعاء فبدعة قديمة قال أحمد بن حنبل عن غضيف بن الحرث التمالي قال: "بعث إلي عبدالملك بن مروان فقال: "يا أبا أسماء، إنا قد جمعنا الناس على أمرين قال: فقلت وما هما: قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة, والقصص بعد الصبح والعصر" فقال: "إنهما أمثل بدعكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منها" قال: لم؟ قال: "لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة"([19])،([20]).
وقال ابن باز –رحمه الله-: "رفع الأيدي في الدعاء من أسباب الإجابة في أي مكان، يقول صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم حييّ ستّير يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا" ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا"([21]). وقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ" ([22]). ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟ (رواه مسلم في صحيحه).
فجعل من أسباب الإجابة رفع اليدين.
ومن أسباب المنع وعدم الإجابة أكل الحرام والتغذي بالحرام. فدل على أن رفع اليدين من أسباب الإجابة، سواء في الطائرة أو في القطار أو في السيارة أو في المراكب الفضائية، أو في غير ذلك، إذا دعا ورفع يديه فهذا من أسباب الإجابة إلا في المواضع التي لم يرفع فيها النبي –صلى الله عليه وسلم- فلا نرفع فيها، مثل خطبة الجمعة، فلم يرفع فيها صلى الله عليه وسلم، إلا إذا استسقى فهو يرفع يديه فيها، كذلك بين السجدتين وقبل السلام في آخر التشهد لم يكن يرفع يديه صلى الله عليه وسلم فلا نرفع أيدينا في هذه المواطن التي لم يرفع فيها صلى الله عليه وسلم؛ لأن فعله حجة وتركه حجة، وهكذا بعد السلام من الصلوات الخمس، كان صلى الله عليه وسلم يأتي بالأذكار الشرعية ولا يرفع يديه، فلا نرفع في ذلك أيدينا اقتداء به صلى الله عليه وسلم.
أما المواضع التي رفع صلى الله عليه وسلم فيها يديه فالسنة فيها رفع اليدين تأسيا به صلى الله عليه وسلم، ولأن ذلك من أسباب الإجابة، وهكذا المواضع التي يدعو فيها المسلم ربه ولم يرد فيها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- رفع ولا ترك فإنا نرفع فيها للأحاديث الدالة على أن الرفع من أسباب الإجابة كما تقدم([23]).
وقال ابن عثيمين –رحمه الله- "وهل من السنة أن يحرك يديه عند الانفعال؟
الجواب: ليس من السنة أن يحرك يديه، وإن كان بعض الخطباء بلغني أنهم يفعلون ذلك, لكن يشير في الخطبة بأصبعه عند الدعاء.
أما الخطبة التي هي غير خطبة الجمعة فقد نقول: إنه من المستحسن أن الإنسان يتحرك بحركات تناسب الجمل التي يتكلم بها، أما خطبة الجمعة فإن المغلب فيها التعبد، ولهذا أنكر الصحابة على بشر بن مروان حين رفع يديه في الدعاء، مع أن الأصل في الدعاء رفع اليدين، فلا يشرع فيها إلا ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-([24]).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) رواه أبو داود في سننه من حديث سلمان (1/468) رقم: (1488) وقال الشيخ الألباني: صحيح.
[2]) ) إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للقاضي عياض (3/153).
(3) صحيح البخاري كتاب الجمعة (2/15) باب: ( 33 ).
(([4] صحيح البخاري كتاب الجمعة باب رفع اليدين في الخطبة (2/15) رقم: (932).
(5) إكمال المعلم (3/277).
(([6] شرح مسلم للنووي (3/428).
(([7] الفتاوى الكبرى (5/354).
([8]) سنن أبي داود (1/357) رقم: (1104) وقال الألباني: صحيح. وقال العظيم آبادي: " ولفظ مسلم وبن أبي شيبة من طريق عبد الله بن إدريس وأبي عوانة عن حصين عن عمارة بن رويبة قال: رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يدي. وكذا أخرجه النسائي من طريق سفيان عن حصين بلفظ رفع يديه يوم الجمعة على المنبر، ولفظ الترمذي من طريق هشيم أخبرنا حصين قال سمعت عمارة وبشر بن مروان يخطب فرفع يديه في الدعاء, ولفظ أحمد في مسنده حدثنا حصين عن عمارة بن رويبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه يشير بأصبعيه يدعو وهو يشير بإصبع. انظر عون المعبود (3/318).
(9) عون المعبود (93/318, 319) باختصار يسير
(10) مصنف ابن أبي شيبة (2/55).
(11) مصنف ابن أبي شيبة (2/55).
([12]) مصنف عبدالرزاق (3/194).
(13) الفتاوى الكبرى (5/354).
(14) زاد المعاد (1/411).
(15) نيل الأوطار (3/333).
(16) الأم (1/230).
([17]) المغني (2/154).
([18]) المجموع (4/528).
([19] ) الباعث على إنكار البدع (1/88).
([20] ) قال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف أبي بكر بن عبد الله وهو ابن أبي مريم الغساني الشامي بقية بن الوليد - وإن كان مدلسا - وقد عنعن - توبع وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح غير غضيف بن الحارث انظر مسند احمد (4/105).
(21) المؤمنون:51.
(22) البقرة:172.
([23] ) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (6/158).
([24]) الشرح الممتع (5/64، 65).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم