عناصر الخطبة
1/تقلبات أحوال الزمان بين أفراح وأحزان 2/الألم الشديد لما أصاب أهل غزة من نكبة واعتداء 3/الله أقوى من الغاشمين المعتدين 4/بعض الحِكم من الإنعام على الكافر المعتدي 5/وجوب اللجوء إلى الله تعالى بصدق ويقين لكشف الكروباقتباس
إنَّ الظالِمَ الجائر سيظلُّ مُحاطًا بكل مشاعر الكراهية والعداء، والحقد والبغضاء، لا يعيش في أمان، ولا يَنعَم بسلام، حياتُه في قلق، وعيشُه في أخطار وأرق، مَهمَا تدرَّع بالأكاذيب، وتلبَّس بالمكر، وتظاهَر بأنَّه المظلوم المهضوم المعتدى عليه؛ لأن الظلم جالبُ الإحنِ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ العظيمِ في قدَرِه، العزيزِ في قَهرِه، العليمِ بحالِ العبدِ في سرِّه وجَهرِه، يسمع أنينَ المظلومِ عندَ ضَعْفِ صدرِه، ويجود عليه بإعانته ونصره، أحمده على القدر خيره وشره، وأشكره على القضاء حلوه ومره، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الآيات الباهرة؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ)[الرُّومِ: 25]، وأشهد أن نبينا وسدينا محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده، طول عمره وسائر دهره، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ما جاد السحاب بقطره، وطل الربيع بزهره، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله في الصباح والمساء، ولا تكونوا ممَّن فرَّط وأساء، وتشبَّه بالأشقياء البعداء التعساء؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
أيها المسلمون: الزمان صروفٌ تَجُولٌ، ومصائبُ تصولُ، سِلْمٌ وحربٌ، وأُجاجٌ وعذبٌ، ورخاءٌ وجدبٌ، والمؤمن مهما تفاقمتِ الشرورُ والبلايا، وحلَّت المحنُ والرزايا فإنَّه يعلم أنَّه لا رادَّ للقضاء المسطور، ولا مانعَ للقَدَرِ المقدور، ما قُضي كائنٌ، وما قُدِّرَ واجبٌ، وما سُطِّرَ مُنتَظَرٌ، ومهما يشأ الله يكن، وما يَحكُمْ به الله يَحِقّ، لا رافعَ لِمَا وضَع، ولا واضِعَ لِمَا رَفَعَ، ولا مانعَ لِمَا أعطى، ولا مُعطِيَ لِمَا منَع، وما شاء ربُّنا صنَع، فلا جزعَ ولا هلعَ، وإنَّما صبر ومصابَرة، وتفاؤُل بأن النصر والظفر لأهل الإسلام والإيمان، والذل والصَّغار والخسار، لأهل الظلم والعدوان والطغيان؛ (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[يُوسُفَ: 21].
أيها المسلمون: إنَّ القلب لَيعتَصِرُ أَلَمًا وحسرةً لِمَا حلَّ بأهلِنا في غزة من كُربَةٍ ونكبةٍ، لقد بلَغ السيلُ زُباه، والكيدُ مَداهُ، والظلمُ منتهاه، والظلمُ لا يدومُ ولا يطولُ، وسيضمحلُّ ويزولُ، والدهرُ ذو صرفٍ يدور، وسيعلم الظالمون عاقبةَ الغرور؛ فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هُودٍ: 102]" مُتفَق عليه.
أيها المسلمون: كم شحَن الظالمون المعتدون من الشوكة الرادعة، والشِّكَّة القاطعة، والقوة الجامعة، لكنهم غفلوا عمَّا أجراه اللهُ لعباده المظلومين مِنْ مِنَح الصبر وعوائد النصر، ومَهمَا بلغت قوةُ الظلوم، وضَعف المظلوم فإن الظالم مقهور مخذول، مصفَّد مغلول، وأقربُ الأشياء صرعةُ الظلومِ، وأنفذُ السهامِ دعوةُ المظلومِ، يرفعها الحيُّ القيومُ فوقَ الغيومِ؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم: الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ، والإمامُ العادلُ، ودعوةُ المظلومِ يرفعُها اللهُ فوق الغمامِ، وتُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ، ويقولُ الرَّبُّ: وعزَّتي لأنصُرنَّك ولو بعدَ حينٍ" أخرجه أحمد والترمذي، وصححه ابن خزيمة وحسنه ابن حجر، فسبحان مَنْ سَمِعَ أنينَ المضطهَدِ المهمومِ، وسَمِعَ نداءَ المكروبِ المغمومِ، فرفَع للمظلومِ مكانًا، ودمَغ الظالمَ فعاد بعدَ العزِّ مُهانًا.
ولا تَعْجَلْ على أحدٍ بِظُلمٍ *** فإنَّ الظلمَ مَرتعُه وخيمُ
أيها المسلمون: إن الظالم الجائر سيظل محاطًا بكل مشاعر الكراهية والعداء، والحقد والبغضاء، لا يعيش في أمان، ولا ينعم بسلام، حياتُه في قلق، وعيشُه في أخطار وأرق، مَهمَا تدرَّع بالأكاذيب، وتلبَّس بالمكر، وتظاهَر بأنَّه المظلوم المهضوم المعتدى عليه؛ لأن الظلم جالبُ الإحنِ، ومسبِّبُ المحنِ، والجورُ مسلبةٌ للنعم، مجلبةٌ للنقم.
أيها المسلمون: قد يُنعِم اللهُ على الكافرِ نعمَ نفعٍ أو نعمَ دفعٍ، أو نِعَمَ رفعٍ، ولكنه استدراجٌ وإملاءٌ، في صورة إنعام وإعطاء، قال جل وعز: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)[آلِ عِمْرَانَ: 178]؛ وقال جل وعز: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)[الْأَعْرَافِ: 183]؛ وقال جل وعلا: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 55-56].
إنه إغناءٌ مشوبٌ بالمصائب والأرزاء، منغَّصٌ بالأمراضِ واللأواءِ، مكدَّرٌ بالخوف والرعب وعدم الهناء، قال سبحانه: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)[الرَّعْدِ: 31]، وقال جل وعز: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ)[آلِ عِمْرَانَ: 196]، لا يغرنَّكَ ما هم فيه من الاستعدادِ والإمدادِ، لا يغرنَّكَ ما هم فيه من التعالي والاستبداد، لا يغرنَّكَ ما يملكون من القوة والعدة والعتاد؛ (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[آلِ عِمْرَانَ: 197]، وقال -جل في علاه-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)[الْأَنْفَالِ: 36].
أقول ما تسمعون وأستغفِر الله فاستغفِروه، ويا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، آوى مَنْ إلى لُطفه أوى، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، داوى بإنعامه مَنْ يئس من أسقامه الدوا، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، مَنِ اتّبَعَه كان على الْهُدَى، ومَنْ عصاه كان في الغواية والرَّدَى، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وأصحابه، صلاةً تبقى، وسلامًا يَترَى.
أما بعدُ، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله فإن تقواه أقوى ظهير، وأوفى نصير، كل أمر عليه يسير، وكل شيء إليه فقير، والأمور إليه تصير، وهو السميع البصير، لا يخفى عليه ما وقع على أهل الإسلام من الظلم الكثير، والجور الكبير، وإن الله على نصرهم لقدير؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119].
أيها المسلمون: للدهر طعمان حلو ومر، وللأيام صرفان عسر ويسر، وكل شدة فإلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء، وإن بعد الكدر صفوا، وبعد المطر صحوًا، والشمس تغيب ثم تشرق، والروض يذبل ثم يُورِق، ولله أيام تنتصر من الباغي، وتنتقم من العاتي.
اللهُ يُفرِج بعدَ ضيقٍ كَرْبَها *** ولعلَّها أن تَنْجَلِي ولعلَّها
إنَّ الأمورَ إذا الْتَوَتْ وتعقَّدَتْ *** نَزَلَ القضاءُ مِنَ السماءِ فحَلَّها
فتحلَّوْا بالطاعة، والتزِموا الجماعةَ، وإيَّاكم والتشاحنَ والتطاحنَ، واحذروا الجدلَ والمراءَ، واعلموا أن مَنْ فعَل ما شاء لقي ما ساء، ومن أصلح فاسده، أهلك حاسده، وأحصن الجُنَّة لزوم الكتاب والسُّنَّة، على نهج سلف الأمة.
أيها المسلمون: لا يُبرِد اللوعةَ، ولا يُسكِن الروعةَ إلا اللَّجَأُ إلى الله وحدَه، ومَنْ لاذ بالله -تعالى- هدى توجُّعَه، وسكَن تفجُّعُه، والجزع لا يرد مقضيًّا، ولا ينشر مطويًّا، وإذا أحاطت الحتوف، ونزل الأمر المخوف، فالجؤوا إلى مولاكم، وبثوا إليه همكم وشكواكم، واسألوه رفع البلاء، واستدفعوا البلاء بالتضرع والدعاء، فليس شيء أكرم على الله -عز وجل- من الدعاء، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، ولا يرد القدر إلا الدعاء، والمتعلق بغير الله مقطوع، والمتجه إلى غيره محروم وممنوع.
وصلُّوا وسلِّموا على أحمد الهادي شفيع الورى طُرًّا، فمَنْ صلى عليه صلاةً واحدةً، صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، بشيرِ الرحمةِ والثوابِ، ونذيرِ السطوةِ والعقابِ، الشافعِ المشفَّعِ يومَ الحسابِ، اللهمَّ صلِّ عليه وعلى جميعِ الآلِ والأصحابِ، وارضَ عنَّا معهم يا كريم يا وهاب.
اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، ودمِّر أعداءَ الدينِ، واحفظ بلادنا، المملكة العربيَّة السعوديَّة، من كيد الكائدين، ومكر الماكرينَ، وحقدِ الحاقدينَ، وحسدِ الحاسدينَ، وجميع بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرَنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهمَّ وفقه وولي عهده لِمَا فيه عزُّ الإسلام وصلاح المسلمين يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ احفظ جنودنا، واحمِ حدودَنا وثغورنا، اللهُمَّ واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا يا كريم يا عظيم.
اللهمَّ اجعل لأهلنا في غزة من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلاء عافية، اللهمَّ أنت إلهنا، وأنت ملاذنا، وعليك اتكالنا، اكشف عنهم كل بلاء وبأساء وضراء، اللهُمَّ واحفظ منهم الأعراض والدماء، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا سميع الدعاء، اللهُمَّ طهر المسجد الأقصى من رجز اليهود الغاصبين المحتلين، اللهمَّ اجعل دعاءنا مسموعًا، ونداءنا مرفوعًا، يا كريم يا عظيم يا رحيم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم