اقتباس
والأخذ بالمصلحة والاعتداد بها واعتبارها من مصادر التشريع لا يكون خلواً من كل قيد، مطلقاً من كل ضابط. فالواقع أن العلماء وضعوا ضوابط للمصلحة المعتبرة التي تكون أساسا للاستنباط، فاشترطوا لها أن تكون ملائمة لمقاصد الشارع فلا تخالف أصلاً من أصوله، ولا نصاً من نصوصه، بل يجب أن تكون من جنس المصالح التي قصد الشارع تحصيلها أو قريبة منها ليست غريبة عنها. كما اشترطوا لها أن تكون معقولة بذاتها بحيث لو عرضت على أصحاب العقول السليمة؛ لتلقتها بالقبول، وفضلاً عن ذلك، اشترطوا أن تكون المصلحة مؤدية إلى حفظ ما هو ضروري وهو حفظ الدين أو النفس أو العقل أو العرض أو المال، أو تحقيق رفع الحرج عن الناس.
1-من خصائص الشريعة الإسلامية:
أنها عامة في المكان والزمان، بمعنى أنها عامة لجميع البشر في كل مكان وزمان، وبهذا نطق القران الكريم: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)[سبأ:28]، وقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)[الأعراف:158].
وعموم الشريعة الإسلامية غير مقصورة على عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-بل هو يمتد إلى يوم القيامة لأن الرسول النبي -صلى الله عليه وسلم-خاتم النبيين والمرسلين، قال تعالى: (ولكن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [الأحزاب:40]، وبختم الرسالة والنبوة انقطع الوحي، وبانقطاع الوحي امتنع نسخ الشريعة؛ لأن الشريعة الإسلامية وهي وحي الله لا ينسخها إلا وحي إلهي، وحيث لا وحي بعد رسول الله فلا يتصور نسخها ولا تبديلها.
وإذا كان ما قدمت يعتبر من الأمور الواضحات، فإن من لوازم ذلك أن تكون الشريعة الإسلامية ذات قابلية للبقاء والعموم، محققة مصالح الناس في كل زمان ومكان، إذ لا يجوز في العقل أن تكون الشريعة كما وصفنا وهي عاجزة عن مصالح العباد.
2–ابتناء الشريعة على رعاية مصالح العباد:
يقول الفقيه الشجاع العز بن عبد السلام: "إن الشريعة كلها مصالح إما درء مفاسد أو جلب مصالح"، ويقول الإمام الكبير ناصر السنة النبوية شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومعلوم أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الأماكن"، ويقول أيضاً: "فإن الله –تعالى- بعث رسوله -صلى الله عليه وسلم- بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها". ويقول الفقيه المحقق ابن قيم الجوزية: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد"، ويقول الإمام الشاطبي: "والشريعة ما وضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل ودرء المفاسد عنهم".
فهذا المنقول من هؤلاء الأئمة الأعلام، صريحة في أن الشريعة بنيت على أساس رعاية مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وسواءً اكانت هذه المصالح جلب منافع، أم درء مفاسد؛ لأن درء المفاسد وجه من وجوه المصلحة.
3–أدلة ابتناء الشريعة على رعاية المصالح:
وما ذهب إليه هؤلاء العلماء هو الحق، وعليه يدل استقراء النصوص ونهج المشرع في تشريعه الأحكام، وتشهد له أصول الشريعة المقطوع بصحتها ونذكر من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر ما يلي:
أ–جاء في القرآن الكريم قي تعليل رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، ومن الواضح أن الرحمة هذه تتضمن رعاية مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم.
ب–تعليل الأحكام بجلب المصلحة ودرء المفسدة إعلام للمكلفين بأن تحصيل المصالح هو مقصود الشارع الحكيم، وإن الأحكام ما شُرعت إلا لهذا الغرض فمن ذلك قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:179]، فتشريع القصاص مصلحة مؤكدة للناس؛ لأن فيه زجراً وردعاً لمن تسول نفسه الاعتداء على أرواح الناس، فتحفظ حياتهم بذلك، وقول الله -تعالى- في تعليل النهي عن الخمر والميسر: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)[المائدة:91]، فالنهي عن الخمر والميسر يحقق مصلحة مؤكدة هي دفع ما يريد الشيطان إيقاعه بين المسلمين من عداوة وبغضاء وصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
ج–من أصول الشريعة المقطوع بصحتها رفع الحرج عن الناس وإرادة اليسر بهم ودفع العسر عنهم قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185]، وقال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:28]، وقال عز وجل: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]، ولا شك أن رفع الحرج عن الناس وإرادة اليسر بالعباد والتخفيف عنهم كل ذلك من مظاهر رعاية المصلحة في التشريع الإسلامي.
د–تشريع الرخص بالنسبة لذوي الأعذار كالمرضى والمسافرين والمضطرين والمكرهين، على وجه بارز من وجوه رعاية المصلحة وعدم إرهاق الناس، فالمريض يفطر في رمضان، وكذا المسافر والمكره على كلمة الكفر لا يكفر بقولها، والمضطر يباح له تناول المحرمات من مطعوم أو مشروب لأن الضرورات تبيح المحظورات.
هـ-وتشريع الأحكام في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ بنهج التدرج فلم تأت أحكامه دفعة واحدة وإنما جاءت متدرجة من حيث زمان تشريعها، ومن حيث أنواعها رعاية لمصالح العباد ورفع المشقة عنهم، وترويضهم على تقبل الأحكام شيئاً فشيئاً.
4–بين الشريعة والقوانين الوضعية:
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد راعت بجميع أحكامها مصالح العباد وأن القوانين الوضعية من أسس وضعها مراعاة مصالح الناس، فإن بين الإثنين مع ذلك فرقين جوهريين لا يجوز إغفالهما:
الأول: أن القوانين الوضعية لا تهتم إلا بمصالح الناس في الدنيا ولا يمتد نظرها إلى ما وراء هذه الحياة. أما الشريعة الإسلامية فهي تنظر إلى مصالح العباد في الآخرة –وهي الظفر بنعيم الجنة والنجاة من عذاب النار– هي الأهم والأكثر رعايةً في الشريعة الإسلامية لأنها هي الباقية أما مصالح الدنيا فهي الفانية، وشتان بين ما يفنى وما يبقى.
الثاني: أن القوانين الوضعية قاصرة عن تحقيق المصالح على الوجه الأكمل المطلوب لأن واضعها بشر والبشر لا ينفك عن الجهل والهوى ونقص الإدراك، فقد يرى ما هو مفسدة مصلحة وما هو مصلحة مفسدة فيشرع من الأحكام ما يفوت المصلحة وبجلب المفسدة، وقد يدرك المصلحة ولكن ما يشرعه من أحكام يقصر عن تحصيلها، وسر المسألة أن صفات الصانع تظهر على صنعته ومصنوعه، وحيث أن الإنسان مهما يكمل فهو ناقص ومهما يصف فهو لا يخلو من هوى ومهما يؤت من علم فهو قليل فإن هذه الصفات تنعكس على ما يشرعه. أما شريعة الإسلام فهي من صنع الله -جل جلاله- مبرأ من كل نقص فله الكمال المطلق، فما يشرعه من أحكام يأتي مبرأً من النقص والهوى، صالحاً للعباد، محققاً لهم الخير والفلاح؛ لأنه من صنع الله –العظيم- بما يصلح لعباده (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )[الملك:14].
5-المصلحة دليل من أدلة الأحكام:
والشريعة في منهجها قي التشريع وبناء الاحكام على المصلحة، قد دلت على أن رعاية مصالح الناس دليل من أدلة استنباط الأحكام، وهذا ما فهمه علماء الإسلام فجعلوا المصلحة أصلاً من أصول استنباط الأحكام فكل مصلحة تظهر وليس لها حكم في الشريعة فإن الشريعة الإسلامية تأذن للمجتهدين بتشريع الحكم الملائم لتحقيقها وعلى هذا الأساس سار فقهاء الصحابة الكرام في استنباط الأحكام دون إنكار فيكون ما ذهبوا إليه إجماعاً سكوتياً والإجماع حجة، فأبو بكر -رضي الله عنه- جمع القرآن لما رأى المصلحة في ذلك، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رأى قتل الجماعة بالواحد واتخذ السجن، ودون الدواوين، وقاسم الولاة في أموالهم التي اكتسبوها بجاه السلطة وجعلها لبيت المال وعلي -رضي الله عنه- قال في تضمين الصناع ما يهلك في أيديهم من أموال الناس: " لا يصلح الناس إلا ذاك" إلى غير ذلك من اجتهادات الصحابة المبينة على المصلحة.
6–ولا يعكر ما قلناه من اعتبار المصلحة أساساً للاستنباط اختلاف الفقهاء في حجة المصلحة وصلاحيتها لاستنباط الأحكام، فإن هذا الخلاف يحكى في كتب أصول الفقه على نحو واسع، ولكن لا نجد آثاره بهذه السعة في كتب الفقه. فالفقهاء المنسوب إليهم إنكار حجة المصلحة وجدت لهم اجتهادات قامت على أساس المصلحة كما سنذكره بعد قليل، ولكم مما لا ريب فيه أن هناك فريقاً من الفقهاء أنكر على المصلحة صلاحيتها لابتناء الأحكام عليها، ولكن هذا الفريق من الفقهاء محجوج بنهج الصحابة القويم في رعاية المصلحة وبما قلناه عن ابتناء الشريعة على رعاية المصلحة وأما ما احتجوا به في إنكارهم حجية المصلحة في استنباط الأحكام من أن الشارع الحكيم شرع لعباده ما يحقق مصالحهم، وأنه لم يترك مصلحة بلا تشريع وإلا كان ذلك قدحاً بالشريعة ومناقضاً لقول الله –تعالى-: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى).
فإن هذه الحجة ضعيفة لا تنهض دليلاً لإنكارها، فالشريعة حقاً قد راعت مصالح العباد وشرعت من الأحكام ما يوصل إليها، ولكنها لم تنص على جميع جزيئات المصالح إلى يوم الدين وإنما نصت على بعضها ودلت بمجموع أحكامها على أن المصلحة هي مقصود الشارع وغرضه من الأحكام، وأن للمجتهدين –بناءً على ذلك أن يستنبطوا الأحكام لتحقيق المصالح المستجدة والمسكوت عنها. وهذا المسلك من الشريعة في عدم النص على جميع جزيئات المصالح من محاسن الشريعة لا من مثالبها ومن دلائل صلاحيتها للبقاء والعموم لأن جزيئات المصالح تتغير وتتبدل، وأن كان أصل رعاية المصالح قائماً ثابتاً لا يتغير، فليس –إذن- من الضروري عد جزيئات المصالح مقدماً وتشريع حكم خاص لكل واحدة منها على حدة. وعلى هذا فاستنباط الأحكام على أساس المصلحة لا يكون افتئاتاً على حق الشارع العظيم في التشريع ولا يدل على ترك الخالق لعباده سدى، لأنه هو الذي أرشدنا إلى رعاية المصلحة والأخذ بها.
والحكم المستنبط على أساسها هو من أحكام الشريعة وما عمل المجتهد في هذا النوع من الاجتهاد إلا من قبيل الكشف عن حكم الشريعة لا من قبيل التشريع ابتداءً.
7–ضوابط الأخذ بالمصلحة:
والأخذ بالمصلحة والاعتداد بها واعتبارها من مصادر التشريع لا يكون خلواً من كل قيد، مطلقاً من كل ضابط. فالواقع أن العلماء وضعوا ضوابط للمصلحة المعتبرة التي تكون أساسا للاستنباط، فاشترطوا لها أن تكون ملائمة لمقاصد الشارع فلا تخالف أصلاً من أصوله، ولا نصاً من نصوصه، بل يجب أن تكون من جنس المصالح التي قصد الشارع تحصيلها أو قريبة منها ليست غريبة عنها. كما اشترطوا لها أن تكون معقولة بذاتها بحيث لو عرضت على أصحاب العقول السليمة؛ لتلقتها بالقبول، وفضلاً عن ذلك، اشترطوا أن تكون المصلحة مؤدية إلى حفظ ما هو ضروري وهو حفظ الدين أو النفس أو العقل أو العرض أو المال، أو تحقيق رفع الحرج عن الناس.
وبناءً على هذه الضوابط فكل اجتهاد أو قول أو إفتاء أو رأي بني على مصلحة متوهمة مخالفة لنص شرعي، لا يكون هذا الاجتهاد إلا باطلاً؛ لأنه اجتهاد في معرض النص، والقاعدة الفقهية تقول: "لا مساغ للاجتهاد في معرض النص".
ومن هذا النوع من الاجتهادات الباطلة القائمة على مصالح متوهمة ما ذهب إليه بعض الناس من جواز تحريم تعدد الزوجات أو مساواة الذكر والأنثى في الميراث أو اشتراط إذن القاضي لصحة وقوع الطلاق.
8–أمثلة من اجتهادات الفقهاء المبنية على المصلحة:
أفتى المالكية بجواز فرض الضرائب على الأفراد القادرين عند الحاجة وضعف بيت المال، فقد جاء في تهذيب الفروق (توظيف الخراج على المسلمين من المصالح المرسلة، ولا شك عندنا في جوازه وظهور مصلحته في بلاد الأندلس وفي زماننا لكثرة الحاجة لما يأخذه العدو من المسلمين سوى ما يحتاج إليه الناس وضعف بيت المال عنه ... إلى آخر ما قال. وأجازوا شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراحات لأنه لا يشهد لعبهم –عادة– غيرهم وإن لم يتوفر البلوغ وهو من شروط قبول الشهادة.
وقال الشافعية بجواز إتلاف الحيوانات التي يقاتل عليها الأعداء وإتلاف أشجارهم إذا كانت مصلحة الظفر بالأعداء والغلبة عليه تستدعي ذلك. وعند الحنفية من ضروب الاستحسان، الاستحسان بالمصلحة ومنه تضمين الصناع ما يهلك تحت أيديهم من أموال الناس مع أن أيديهم أيدي أمانة. ومن أخذهم بالمصلحة ما ذهب إليه أبو حنيفة، فقد قال أبو يوسف عنه: "قال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: وإذا أصاب المسلمون غنائم من متاع أو غنم فعجزوا عن حمله ذبحوا الغنم وحرقوا المتاع، كراهية أن ينتفع بذلك أهل الشرك"، وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى نفي أهل الفساد إلى بلد يؤمن فيه من شرهم، كما أفتى بجواز تخصيص أحد الأولاد بالهبة لمصلحة معينة كأن يكون مريضاً، أو صاحب عيال، أو طالب علم، أو محتاجا، وقال الفقهاء الحنابلة: إن لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند حاجات الناس إليه، وله أيضاً أن يجبر أصحاب الحرف والصناعات التي يحتاجها الناس على العمل بأجر المثل إذا امتنعوا عن العمل.
9–ومن هذا كله يتبين لنا عظيم مكانة المصلحة في الشريعة الإسلامية ومدى رعايتها، فقد قامت الشريعة على أساس تحقيق مصالح الناس، وأرشدت المكلفين إلى اعتبارها، وعدها من أصول الاستنباط الفقهي، وعلى هذا النهج سار فقهاؤها العظام فتركوا ثروة عظيمة من الفقه المبني على المصلحة ومهدوا الطريق لمن يأتي بعدهم للسير على نهجهم دون تهجم على الشريعة ولا تجاوز للحدود المرسومة للاجتهاد المصلحي، والله الموفق للصواب.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
----
المصدر: مجلة الوعي الاسلامي العدد الثاني السنة الأولى صفر 1385 هـ الموافق حزيران 1965م
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم