عناصر الخطبة
1/ خلق الله الإنسان لمعرفته وعبادته 2/ليس أحد أحب إليه العذر من الله 3/نُذُر اقتراب الموت 4/علامات قرب الرحيل 5/الشيب بين الآلام والآمال 6/أهمية الاستعداد للقدوم على الله.اقتباس
وأكبر الإعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم، ثم الشيب أو غيره، وجعل الستين غاية الإعذار؛ لأن الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع، والاستسلام لله، وترقب المنية، ولقاء الله، ففيه إعذار بعد إعذار، وإنذار بعد إنذار...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ غافِرِ الذُّنوبِ، وقابلِ التَوْبِ وساترِ العُيوبِ، ومُفرِّجِ الهمِّ وكاشفِ الكُروبِ، سبحانَهُ وبحمدِهِ: يُؤتي المُلكَ مَنْ يشاءُ، ويَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ يَشاءُ، ويُعِزُّ مَنْ يَشاءُ، ويُذِلُّ مَنْ يَشاءُ، بيدِهِ الخيرُ، إنَّهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له السَّميعُ البصيرُ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ البشيرُ النَّذيرُ؛ والسِّراجُ المنيرُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلِهِ وأزواجِهِ وأصحابِهِ ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ المصيرِ.
أما بعدُ: فأُوصيكمْ -عبادَ اللهِ تعَالى- بالتَّقوى الَّتي بها تنتفعُون، فاتَّقوا اللهَ (ولْتنظُرْ نَفسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقوا اللهَ إنَّ اللهَ خَبيرٌ بما تَعْملَونَ * ولا تكُونوا كالذِينَ نَسُوا اللهَ فأَنْساهُمْ أَنْفُسَهم أُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) [الحشر: 18-19]، فاتقوا الله -معشر المؤمنين-، فتقوى الله خير زاد يلحقكم بركب الصالحين، ويجعل لكم لسان صدق في الآخرين.
عباد الله: ورد في الخبر: أن بعض الأنبياء - عليهم السلام - قال لملك الموت -عليه السلام-: "أما لك رسول تقدمه بين يديك؛ ليكون الناس على حذر منك؟", قال: "نعم، لي والله رسل كثيرة من الإعلال، والأمراض، والشيب، والهموم، وتغير السمع والبصر، فإذا لم يتذكر من نزل به ولم يتب، فإذا قبضته ناديته: ألم أقدم إليك رسولاً بعد رسول, ونذيراً بعد نذير؟ فأنا الرسول الذي ليس بعدي رسول، وأنا النذير الذي ليس بعدي نذير، فما من يوم تطلع فيه شمس ولا تغرب إلا وملك الموت ينادي: يا أبناء الأربعين، هذا وقت أخذ الزاد، أذهانكم حاضرة، وأعضاؤكم قوية شداد، يا أبناء الخمسين، قد دنا وقت الأخذ والحصاد، يا أبناء الستين، نسيتم العقاب، وغفلتم عن رد الجواب، فما لكم من نصير (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ). [فاطر: 37]، ذكره ابن الجوزي في كتاب [روضة المشتاق والطريق إلى الملك الخلاق].
عباد الله: خلق الله ابن آدم لمعرفته وعبادته وإفراده وحده بالعبادة، وأمهل له في العمر، ووهبه آلات المعرفة والعلم، لعله يستقيم ويعرف أن عمره قصير، وسفره بعيد، فيحسن له الاستعداد، وإذا غفل الإنسان أنذره الله -جل في علاه-، وللموت علامات كثيرة ونُذُر، نسأل الله حسن الختام.
أيها الإخوة: ليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، ومد في الأعمار، ولكن من ضاع منه عمره ولم يغتنمه فلا يلومن إلا نفسه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي قال: "أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغ ستين سنة" [البخاري(6419)]،يقال أعذر في الأمر: أي بالغ فيه، أي أعذر غاية الإعذار بعبده، وأكبر الإعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم ليتم حجته عليهم.
وإذا قصر العبد أو فرط في ما مضى من عمره، فما تزال أمامه فرصة ليسرع إلى ربه ويؤوب ويتوب، فعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْعَابِدُ، قَالَ: قَالَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ لِرَجُلٍ: "كَمْ أَتَتْ عَلَيْكَ"، قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً، قَالَ: "فَأَنْتَ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً تَسِيرُ إِلَى رَبِّكَ تُوشِكُ أَنْ تَبْلُغَ"، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ: "تَعْلَمُ مَا تَقُولُ"، قَالَ الرَّجُلُ: قُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. قَالَ: "الْفُضَيْلُ تَعْلَمُ مَا تَفْسِيرُهُ؟", قَالَ الرَّجُلُ: فَسِّرْهُ لَنَا يَا أَبَا عَلِيٍّ، قَالَ: "قَوْلُكَ إِنَّا لِلَّهُ، تَقُولُ: أَنَا لِلَّهِ عَبْدٌ، وَأَنَا إِلَى اللَّهِ رَاجِعٌ، فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ، فَلْيَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَمَنْ عَلِمَ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ فَلْيَعْلَمْ بِأَنَّهُ مَسْئُولٌ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَسْئُولٌ فَلْيُعِدَّ للسُّؤَالَ جَوَابًا"، فَقَالَ الرَّجُلُ: فَمَا الْحِيلَةُ قَالَ: "يَسِيرَةٌ"، قَالَ: مَا هِيَ قَالَ: "تُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ يُغْفَرُ لَكَ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ، فَإِنَّكَ إِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِيَ أُخِذْتَ بِمَا مَضَى وَمَا بَقِيَ". [أبو نعيم في حلية الأولياء 8/113].
أيها الإخوة: وأكبر الإعذار إلى بني آدم بعثة الرسل إليهم، ثم الشيب أو غيره، وجعل الستين غاية الإعذار؛ لأن الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع، والاستسلام لله، وترقب المنية، ولقاء الله، ففيه إعذار بعد إعذار، وإنذار بعد إنذار.
أيها الإخوة: ومن رسل الموت: كمال العقل الذي تُعرف به حقائق الأمور، ويفصل به بين الحسنات والسيئات، فالعاقل يعمل لآخرته، ويرغب فيما عند ربه، فهو نذير. قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأحقاف: 15]، فذكر-عز وجل- أن من بلغ الأربعين فقط أن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه، وعلى والديه، ويشكرها. قال مالك - رحمه الله-: "أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا، ويخالطون الناس، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس".
عباد الله: ومما يؤكد رحمة الله بعباده أنه لا يعذب أحدًا منهم حتى يقطع عذره وحجته، قال -سبحانه-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]، وقال: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 37] قيل: النذير هو القرآن، وقيل: هم الرسل إلى الخلائق يعلموهم ويرشدوهم، وعن ابن عباس، وعكرمة، وسفيان، ووكيع، والحسين بن الفضل، والفراء، والطبري قالوا: النذير هو الشيب، فإنه يأتي في سن الاكتهال، فهو علامة لمفارقته سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب، قال أحدهم:
رأيت الشيب من نذر المنايا *** لصاحبه وحسبك من نذير
وقال آخر:
تقول النفس غيّر لون هذا *** عساك تطيب في عمر يسير
فقلت لها المشيب نذير عمري *** ولست مسوداً وجه النذير
وقال آخر:
ثلاث وستون قد جزتها *** فماذا تؤمل أو تنتظر
وحل عليك نذير المشيب *** فما ترعوي أو فما تزدجر
فلو كنت تعقل ما ينقضي *** من العمر لاعتضت خيراً بشر
ومما ذُكِرَ في ذلك أن الشيب رسول من رسل ملك الموت لابن آدم يذكره بضعف قواه، وقرب رحيله، فقد روي أن ملك الموت دخل على داود - عليه السلام– فقال: "من أنت؟" فقال: "من لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشا"، قال: "فإذا أنت ملك الموت" قال: "نعم" قال: "أتيتني ولم أستعد بعد؟" قال: "يا داود! أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟" قال: "مات"، قال: "أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد".
عباد الله: ويقال: إن ملكاً من ملوك اليونان استعمل على ملبسه أمة أدّبها بعض الحكماء، فألبسته يوماً ثيابه، وأرته المرآة، فرأى في وجهه شعرة بيضاء، فاستدعى بالمقراض وقصها، فأخذتها الأمة فقبلتها، ووضعتها على كفها، وأصغت بأذنها إليها، فقال لها الملك: "إلى أي شيء تصغين؟", فقالت: "إنني أسمع هذه المبتلاة بفقد كرامة قرب الملك تقول قولاً عجيباً"، قال: "ما هو؟", قالت: "لا يجترئ لساني على النطق به"، قال: "قولي وأنت آمنة ما لزمته الحكمة"، قالت: ما معناه أنها تقول: "أيها الملك! المسلط إلى أمد قريب، إني خفت بطشك بي، فلم أظهر حتى عهدت إلى بناتي أن يأخذن بثأري، وكأنك بهن قد خرجن عليك، فإما أن يعجلن الفتك بك، وإما أن ينقضن شهوتك، وقوتك، وصحتك، حتى تعد الموت غنماً"، فقال: "اكتبي كلامك"، فكتبته فتدبره، ثم نبذ ملكه.
وفي ذلك المعنى قيل:
وزائرة للشيب لاحت بمفرقي *** فبادرتها خوفاً من الحتف بالنتف
فقالت: على ضعفي استطعت ووحدتي *** رويدك حتى يلحق الجيش من خلفي
عباد الله: وفي الإسرائيليات: أن إبراهيم الخليل لما رجع من تقريب ولده إلى ربه -عز وجل-, رأت سارة في لحيته شعرة بيضاء، وكان -عليه السلام- أول من شابَ على وجه الأرض، فأنكرتها، وأرته إياها، فجعل يتأملها وأعجبته، وكرهتها سارة، وطالبته بإزالتها فأبى، فأتاه ملك الموت فقال: "السلام عليك يا إبراهيم"، وكان اسمه ابرام، فزاده في اسمه هاء، والهاء في السريانية للتفخيم والتعظيم، ففرح بذلك، فقال: "أشكر إلهي وإله كل شيء"، فقال له الملك: "إن الله قد صيرك معظماً في أهل السموات وأهل الأرض، وقد وسمك بسمة أهل الوقار في اسمك، وفي خلقك، أما اسمك: فإنك تدعى في أهل السماء وأهل الأرض إبراهيم، وأما خلقك: فقد أنزل وقاراً ونوراً على شعرك"، فأخبر سارة بما قال له الملك، وقال: "هذا الذي كرهتيه نور ووقار"، قالت: إني كارهة له، قال: "لكني أحبه، اللهم زدني نوراً ووقاراً، فأصبح وقد ابيضت لحيته كلها".
وقال أعرابي في الشيب والخضاب:
يا بؤس من فقد الشباب وغيرت *** منه مفارق رأسه بخضاب
يرجو نضارة وجهه بخضابه *** ومصير كل عمارة لخراب
شيئان لو بكت الدماء عليهما *** عيناي حتى يؤذنا بذهاب
إني وجدت أجل كل مصيبة *** فقد الشباب وفرقة الأحباب
أيها الإخوة: ومع ما في الشيب من علامات ودلائل إنما هي إشارات، وإلا فالموت ليس مرتبطًا بالشيب أو سواد الشعر، ولا ارتباط بين كبر السن والموت، فقد يكون أكثر ما يموت من الشباب وذلك لقلة كبار السن من حولنا، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن في الشيب فضلاً وأجرًا ونورًا، فعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الإِسْلامِ، كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". [أبو داود (4202) وصححه الألباني]،
فنسأل الله من فضله ومنّه إنه جواد كريم أن يحينا بالإسلام ويميتنا به وعليه. نسأل الله أن يحسن لنا الختام أجمعين.
بارك الله لي ولكم في الفرقان والذكر الحكيم، ووفقنا للاعتصام به وبما كان عليه النبيُّ الكريم؛ من الهدي القويم؛ والصراط المستقيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله الغفورَ الحليم، لي ولكم من كل ظلم وجرم فتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ علَى إحسانِهِ، وله الشكرُ علَى توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعظيماً لشانِهِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ خيرُ مَنْ دعا إلى سبيلِ اللهِ ورضوانِهِ؛ بِحُسْنِ خُلُقِهِ وصِدْقِ إيمانِهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ وإخوانِهِ وسلَّمَ تسليماً مَزيداً.
عباد الله: ومن نُذُر الموت ورسله: المرض بصفة عامة واعتلال الجسد ووهنه، وفقد القوى والضعف كل ذلك يذكِّر الإنسان بالموت، وقد قيل: "الحمى رائد الموت"، أي: تحذر من قرب الموت، فكأن الحمى رسول الموت، تُشعِر بقدومه، وتنذر بمجيئه, ومن نُذُر الموت ورسله: موت الأهل والأقارب والأصحاب والإخوان، وذلك إيذانا الرحيل في كل وقت وأوان وحين وزمان.
أيها الإخوة: ينبغي للعبد الموفق الرشيد أن لا يغفل عن هول المصرع وبعد السفر، وليحسن الاستعداد، وليجهز الزاد، فقد حكي عن بعض العلماء: أنه كان يميل إلى الراحات كثيراً، وكان يخلو في بستان له بأصحابه، فلا يأذن لأحد سواهم، فبينما هو في البستان، إذ رأى رجلاً يتخلل الشجر، فغضب وقال: "من أذن لهذا؟" وجاء الرجل فجلس أمامه، وقال: "ما ترى في رجل ثبت عليه الحق، فزعم أن له مدافعة تدفعه عنه؟", فقال: "ينظره الحاكم بقدر ما يرى"، قال السائل: "قد ضرب له الحاكم أجلاً، فلم يأت بمنفعة، ولا أقلع عن اللدد والمدافعة"، قال: "يقضي عليه"، قال: "فإن الحاكم رفق به، وأمهله أكثر من خمسين سنة"، فأطرق الفقيه، وتحدر عرق وجهه، وذهب السائل، ثم إن العالم أفاق من فكرته، فسأل عن السائل فقال البواب: "ما دخل أحد عليكم ولا خرج من عندكم أحد"، فقال لأصحابه: "انصرفوا"، فما كان يرى بعد ذلك إلا مجلس يذكر فيه العلم.
وحكي عن بعض المترفين أنه رفض ما كان فيه بغتة على غير تدريج، فسئل عن السبب؟ فقال ما معناه: "كانت لي أمة، لا يزيدني طول الاستمتاع منها إلا غراماً بها، فقلبت شعرها يوماً، فإذا فيه شعرتان بيضاوان، فأخبرتها فارتاعت, وقالت: أرني، فأريتها، فقالت: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ) [الإسراء: 81]، ثم نظرت إليَّ وقالت: اعلم أنه لو لم تفترض عليَّ طاعتك لما أويت إليك، فدع لي ليلي أو نهاري لأتزود فيه لآخرتي، فقلت: لا؛ ولا كرامة، فغضبت، وقالت: أتحول بيني وبين ربي وقد آذنني بلقائه؟ اللهم بدِّل حبَّه لي بغضاً، قال: فبت وما شيء أحب إليَّ من بُعدها عني، وعرضتها للبيع، فأتاني من أعطاني فيها ما أريد، فلما عزمت على البيع بكت، فقلت: أنتِ أردت هذا، فقالت: والله ما اخترت عليك شيئاً من الدنيا، هل لك إلى ما هو خير لك من ثمني؟ قلت: وما هو؟ قالت: تعتقني لله -عز وجل- فإنه أملك لك منك لي، وأعود عليك منك علي، فقلت: قد فعلت، فقالت: أمضى الله صفقتك، وبلّغك أضعاف أملك. وتزهدتُ، فبُغِّضَتْ إليَّ الدنيا ونعيمها".
وقال عبد الله بن أبي نوح: "رأيت كهلاً بمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يزال ينفض الغبار عن جدرانه، فسألت عنه، فقيل: إنه من ولد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وأن له أولاداً وموالي، ونعمة موفورة، وأنه اطَّلع في امرأته فصرخ وجُنَّ، ولزم المسجد كما ترى، وإذا أراد أهله أن يأخذوه ليداووه ويصونوه، هرب منهم وعاذ بالقبر المكرم فتركوه، فرَقَبْتُهُ نهاراً، فلم أر منه اختلالاً، ورقبته ليلاً، فلما ذهب جنح من الليل، خرج من المسجد، فتبعته حتى أتى البقيع، فقام يصلي ويبكي حتى قرب طلوع الفجر، فجلس يدعو، وجاءت إليه دابة -لا أدري أشاه، أم ظبية، أم غيرها-، فقامت عنده وتفاجت، فالتقم ضرعها فشرب، ثم مسح ظهرها، وقال: اذهبي بارك الله فيك، فولت تهرع، فانسلَلْت فسبقته إلى المسجد.
فأقمت ليالي أخرج بخروجه إلى البقيع، ولا يشعر بي، وسمعته يقول في مناجاته: "اللهم إنك أرسلت إلي ولم تأذن لي، فإن كنت قد رضيتني فأذن لي، وإن لم ترضني فوفقني لما يرضيك، قال: فلما حان رحيلي أتيته مودعاً، فتهجمني فقلت: أنا صاحبك منذ ليال بالبقيع، أصلي بصلاتك، وأؤمن على دعائك، قال: هل اطلعت على ذلك أحداً؟ قلت: لا، قال: انصرف راشداً، قلت: ما الرسول الذي أرسل إليك؟ قال: اطلعت في المرآة فرأيت شيبة في وجهي، فعلمت أنها رسول الله إليَّ، فقلت: ادع لي قال: ما أنا أهل لذلك، ولكن دعا دعاء خفيفاً، فأمنت، ثم مال على جدار القبر، فإذا هو ميت، فتنحيت عنه حتى فطن الناس له، وجاء أولاده ومواليه، فاحتملوه وجهزوه، وصليت عليه فيمن صلى". نسأل الله أن يحسن لنا الختام أجمعين وأن يلحقنا بالصالحين، ويجعلنا من ورثة جنة النعيم، آمين.
فاتقوا الله -عباد الله- وأكثروا من ذكر هادم اللذات، وافهموا عن الله رسله، وتدبروا في أنفسكم وأحسنوا الاستعداد للرحيل، وأكثروا من التوبة لرب الأرض والسموات، واعتصموا بربكم، فنعم المولى ونعم النصير.
اللهم املأ قلوبنا ثقة بك، وتوكلاً عليك، ومحبة لك، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا، ولساناً ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا. اللهم أحسن لنا الختام، وارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم