رحمة للعالمين

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ عبرة من حادث الطائف 2/ حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية النَّاسِ إلى الحقِّ 3/ تعامل الصحابة مع المشركين 4/ الولاءِ والبراءِ أوثقُ عُرى الإيمانِ ولكن بفهم وضوابط 5/ فارق كبير بين قتال الكفار وقتلهم 6/ حكم قتل الكافر غير المحارب.

اقتباس

تركَ النبي –صلى الله عليه وسلم- قَتلَ من يستحقُّ القتلَ من المُنافقينَ الكُفَّارِ الذينَ يُظهِرونَ الإسلامِ حتى "لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ".. فعقولُ النَّاسِ قد لا تستوعبُ سببَ القتلِ.. أو قد يصلُ إليهم الخبرُ مُحرَّفاً.. فيصدُّهم ذلك عن الهُدى ودينِ الحقِّ. فكيفَ اليومَ بمن يقتلُ ويحرقُ ويُفجِّرُ في بلادِ المُسلمينَ.. فيموتُ المسلمُ والمنتسبُ إلى الإسلامِ والمُعاهدُ والمُستأمنُ.. ثُمَّ تُصورُ هذه المشاهدُ باحترافيَّةِ عجيبةٍ.. فَتُنشرُ ويراها النَّاسُ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها.. فهل سيتحدثُ النَّاسُ أن المسلمينَ يقتلونَ الأبرياءَ ويُحبُّونَ الدِّماءَ؟.. أم أن خلفَ هذه الأحداثِ من يريدُ تشويهَ صورةِ الإسلامِ وأهلِه.. وصدِّ النَّاسِ عن الدُّخولِ فيه؟!...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بلله مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

 

(يَا أَيُّهاَ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]،
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71- 72]..

 

 أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيْثِ كِتَابُ الله وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَرَّ الْأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

قَالَتْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- لِلنَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟، قَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ اللهُ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ - وَهُمَا جَبَلَانِ عَظِيمَانِ بِمَكَّةَ -، فَقَالَ النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بهِ شَيْئًا".

 

سبحانَ اللهِ.. فرصةً قد لا تتكرَّرُ.. في الخلاصِ من أئمَّةِ الكُفرِ والضَّلالِ.. بضربةٍ واحدةٍ من مَلَكِ الجِبالِ.

ولكن.. أتعلمونَ لماذا لم يُوافقْ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- على هذا العرضِ؟.. لأنَّ اللهَ –سبحانَه- وصفَه بقولِه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].

 

لقد عاشَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- في مكةَ ثلاثَ عشرةَ سنةً بينَ المُشركينَ.. وعاشَ في المدينةِ عشرَ سنينَ معَ اليهودِ والمشركينَ والمنافقينَ..  وبينَهم كانَ يمشي عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.. ومعهم كانَ يتعاملُ.. ومن تأملَ مُجتمعَ المدينةِ النَّبويَّةِ، علِمَ أعظمَ وأعدلَ مُجتمعٍ حوى مُعايشةً بينَ المسلمينَ وبينَ غيرِهم على مرِّ العُصورِ.. واختلافِ الدُّهورِ.. فحُقَّ على كلِّ مسلمٍ أن يتعلمَ من رسولِه وقُدوتِه وإمامِه كيفَ يتعاملُ مع غير المسلمينَ.. حتى لا نقعَ في الأخطاءِ القادحةِ.. والآثامِ الفادحةِ.. وحتى لا يخلطَ الإنسانُ بينَ عقيدةِ الولاءِ والبراءِ.. وبينَ جريمةِ قتلِ الأبرياءِ.

 

عبادَ اللهِ..

لنعلمْ أن الغايةَ العظمى والهمَّ الأسمى الذي كانَ يحملُه قلبُ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- هو هدايةُ النَّاسِ إلى الحقِّ.

 

فعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَضَعُ وَضُوءَهُ وَيُنَاوِلُهُ نَعْلَيْهِ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ"، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ".

 

ما معنى هذه الزِّيارةِ من الإمامِ الأعظمِ؟.. وما معنى هذا الفرحِ بغلامٍ يهوديٍّ أسلمَ؟.. أليسَ ترجمةً فعليَّةً لقولِه تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].

 

يا أهلَ الإيمانِ..

كانتْ الآياتُ تنزلُ على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- فيتلُوها على المؤمنينَ.. وفيها قولُها تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الممتحنة: 1].. وفي المُنافقينَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء: 144- 145].. وفي المُشركينَ: (وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة: 3].. بل خاطبَه ربُّه عزَّ وجلَّ بقولِه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التوبة: 73].

 

وهنا يأتي السُّؤالُ: كيفَ ترجمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هذه الآياتِ في تعاملِه مع أصنافِ المُخالفينَ؟..كيفَ نجمعُ بينَ هذه الآياتِ وبينَ سيرتِه المُباركةِ؟.. فهو لم يقتلْ بيديه الشَّريفةِ إلا واحداً وهو أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وفي ساحةِ الجِهادِ يومَ أحدٍ.. وفدى أَسرى المشركينَ ومنهم اُسارى بدرٍ.. وربطَ ثُمامةَ بنَ أُثالٍ وهو مُشركٌ في المسجدِ ثلاثةَ أيامٍ ثم أطلقَه.. واستقبلَ اليهودَ والنَّصارى في مسجدِه.. ودعا للمشركينَ "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَائْتِ بِهِمْ".. وأجابَ دعوةَ اليهودِ.. وقبلَ هديةَ الكُفَّارِ.. وأهدى إليهم.. وتصدَّقَ عليم.. وماتَ ودرعُه مرهونةٌ عندَ يهوديٍ.

 

ولنبدأ بهذه الآيةِ وكيفَ فهمَها بعضُ الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ عنهم-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة: 1].. فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ بِهَدَايَا: زَبِيبٍ وَسَمْنٍ وَقَرَظٍ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فِي الْهُدْنَةِ مَا بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْفَتْحِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ طَلَّقَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَتْ: فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟، قَالَ: "نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ"..

 

قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 8 - 9].

 

فيُعلمُ من النَّظرِ في آياتِ كتابِ اللهِ وفي سيرةِ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- جميعاً.. أمور عظيمة:

أولاً: أنَّ ولايةَ الكافرِ وهي محبتُه ونصرتُه على المُسلمِ لا تجوزُ بأي حالٍ أيَّاً كانَ صِنفُه.. وقريباً كانَ أو بعيداً.. صديقاً كانَ أم عدوَّاً.. بل يجبُ بغضُه بالقلبِ وبغضُ ما هو عليه من الكفرِ.. ومخالفتُه في الظَّاهرِ والبَاطنِ.. وأن المحبةَ والنَّصرةَ والأُخوَّةَ لا تكونُ إلا للمؤمنِ فقطْ كما في قولِه تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].. وهذه عقيدةُ الولاءِ والبراءِ التي هي أوثقُ عُرى الإيمانِ.. كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ".

 

يقولُ الشَّيخُ عبدُ العزيزِ بنُ بازٍ -رحمَه اللهُ-: "الوَلاءُ والبَراءُ معناهُ محبَةُ المؤمنينَ وموالاتُهم، وبغضُ الكافرينَ ومعاداتُهم، والبَراءةُ منهم ومن دينِهم، هذا هو الولاءُ والبراءُ كما قالَ اللهُ سبحانَه في سورةِ الممتحنةِ: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4].. وليسَ معنى بغضِهم وعداوتِهم أن تظلمَهم أو تتعدَّى عليهم إذا لم يكونوا محاربينَ، وإنما معناهُ أن تبغضَهم في قلبِك وتعاديهم بقلبِك، ولا يكونوا أصحاباً لك، لكن لا تؤذيهم ولا تضرُّهم ولا تظلمُهم، فإذا سلمَّوا تردَّ عليهم السَّلامَ وتنصحُهم وتوجهُهم إلى الخيرِ).. ففرقٌ بينَ عقيدةِ البَراءِ وبين المعاملةِ الحسنةِ لغرضِ الدَّعوةِ إلى اللهِ.

 

لقدْ أُمرَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- بقتالِ الكُفَّارِ عِندَ القُدرةِ في ساحاتِ المعاركِ إلى أن يدخلوا في الدِّينِ ويُظهِروا شعائرَه، كما قَالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ"..

 

وهذا الأمرُ له ولولاةِ أمرِ المسلمينَ فقطْ وليسَ لغيرِهم من الأفرادِ والجماعاتِ والأحزابِ.. قالَ الشَّيخُ ابنُ عثيمينَ -رحمَه اللهُ-: "وقولُه: أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ هذا المأمورُ به، والمُقاتلةُ غيرُ القَتلِ، فالمُقاتلةُ: أن يسعى في جِهادِ الأعداءِ حتى تكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا، والقتلُ: أن يَقتِلَ شخصاً بعينِه، ولهذا نَقولُ: ليسَ كلَّ ما جازتْ المقاتلةُ جازَ القَتلُ، فالقَتلُ أَضيقُ، ولا يجوزُ إلا بشروطٍ معروفةٍ، والمقاتَلةُ أوسعُ".. ففرقٌ بينَ قِتالِ الكُفارِ وقتلِهم.

 

أو يدفعوا الجِزيةَ ويكونوا تحتَ حُكمِ الإسلامِ، كما قالَ تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِاليَومِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعطُوا الجِزيَةَ عَن يَدٍ وَهُم صَاغِرُونَ) [التوبة: 29].

 

واسمعوا إلى وصيتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقائدٍ من قَاداتِ جيوشِ المُسلمينَ.. فعن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: "لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" فَأَعْطَاهَا عَلِيَّ بنَ أَبي طَالبٍ وَقَالَ: "انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَأَخْبرْهُمْ بمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ".. تذكيرٌ بأنَّ المقصدَ الأكبرَ هو هدايةُ النَّاسِ إلى الخيرِ والإسلامِ والجِنانِ.. وليسَ تعجيلَهم إلى النَّارِ وسخطِ الرحمانِ.

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَنَفَعَنِي وَإِيَاكُم بِمَا فِيهِ مِن الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ.. أَقُولُ قَولِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِكَافَةِ المُسْلَمَين مَن كُلِ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ الذي أعزَّنا بالإسلامِ، وأكرمَنا بالإيمانِ، ورحمَنا بنبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فهدى به من الضَّلالةِ، وجمعَ به من الشَّتاتِ، وألَّفَ به من الفُرقةِ.. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، صدقَ أولياءَه الوعدَ بالنَّصرِ على أعدائِه، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، خاتمَ رسلِه وأنبيائِه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسليماً كثيراً..

 

أما بعد: وأما الكافرُ الذي لا يُقاتلُ المسلمينَ سواءً كانَ في بلدِه أو في بلادِهم.. والذينَ لا يُحاربونَ فِي الْعَادَةِ  كالنِّساءِ والأطفالِ والرُّهبانِ ونحوهم، فقتلُ هؤلاءِ يُعتبرُ ظُلماً واعتداءً لا يرضاه اللهُ -سُبحانَه وتعالى- ولا رسولُه -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وقد وردَ بذلكَ الكِتابُ والسُّنَّةُ، وطَبَّقَه المسلمونَ في حروبِهم.. قالَ تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8]..

 

قالَ الشَّيخُ السِّعدي -رحمَه اللهُ- في تفسيرِ هذه الآيةِ: "أيْ: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عن البِرِّ والصِّلةِ والمُكَافأةِ بالمَعْروفِ والقِسْطِ للمُشرِكِينَ مِن أقارِبِكم وغيرِهم؛ حيثُ كانوا بحالٍ لم يَنْتَصِبوا لقِتالِكم في الدِّينِ والإخراجِ مِن دِيارِكم، فليسَ عليكم جُناحٌ أنْ تَصِلُوهم؛ فإنَّ صِلَتَهم في هذهِ الحالةِ لا مَحذورَ فيها ولا تَبِعَةَ.. كما قالَ تعالى في الأَبَوَيْنِ الكافِرَيْنِ إذا كانَ وَلَدُهما مُسْلِماً: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) [لقمان: 15].

 

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: "وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ".. وقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا".

 

بل قد تركَ قَتلَ من يستحقُّ القتلَ من المُنافقينَ الكُفَّارِ الذينَ يُظهِرونَ الإسلامِ حتى "لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ".. فعقولُ النَّاسِ قد لا تستوعبُ سببَ القتلِ.. أو قد يصلُ إليهم الخبرُ مُحرَّفاً.. فيصدُّهم ذلك عن الهُدى ودينِ الحقِّ.

 

فكيفَ اليومَ بمن يقتلُ ويحرقُ ويُفجِّرُ في بلادِ المُسلمينَ.. فيموتُ المسلمُ والمنتسبُ إلى الإسلامِ والمُعاهدُ والمُستأمنُ.. ثُمَّ تُصورُ هذه المشاهدُ باحترافيَّةِ عجيبةٍ.. فَتُنشرُ ويراها النَّاسُ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها.. فهل سيتحدثُ النَّاسُ أن المسلمينَ يقتلونَ الأبرياءَ ويُحبُّونَ الدِّماءَ؟.. أم أن خلفَ هذه الأحداثِ من يريدُ تشويهَ صورةِ الإسلامِ وأهلِه.. وصدِّ النَّاسِ عن الدُّخولِ فيه؟!

 

اللهمَّ اهدِ ضالَّ المسلمينَ، اللهمَّ إنَّا نعوذُ بك من الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، اللهم أصلحْ ذاتَ بيننا وألِّفْ بين قلوبِنا وأهدِنا سُبلَ السَّلامِ وأخرجْنا من الظُّلماتِ إلى النَّورِ، اللهم آمنَّا في الأوطانِ والدُّورِ، واصرف عنَّا الفِتنَ والشُّرورَ، اللهمَّ آتِ نفوسَنا تقواها زكِّها أنتَ خيرُ من زكَّاها أنت وليُّها ومولاها، اللهم إنا نسألُك الهُدى والسَّدادَ.

 

 اللهم إنَّا نسألُك الهُدى والتُّقى والعِفَّةَ والغِنى، اللهمَّ وفِّقْ وليَ أمرِنا لما تحبُ وترضَى وأعنْه على البِرِّ والتَّقوى وسدِّده في أقوالِه وأعمالِه، وألبسْه ثُوبَ الصِّحةِ والعافيةِ يا ذا الجَلالِ والإكرامِ، وارزقْه البِطانةَ النَّاصحةَ الصَّالحةَ يا حيُّ يا قَيومُ، اللهمَّ وَفِّقْ جميعَ وِلاةِ أُمورِ المُسلمينَ للعملِ بكتابِك واتِّباعِ سُنَّةِ نبيِّك محمدٍ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، واجعلهم رحمةً ورأفةً على عبادِك المؤمنينَ.

 

 

المرفقات

رحمة للعالمين.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات