رحماء بينهم

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

عباد الله: للمجتمع المسلم سمات يُعرف بها، وعلامات تُميّزه عن غيره؛ لأنها مستوحاة من مصادر علوية، وتوجيهات نبوية، في سائر تعاملاته وأخلاقه وأحواله، حتى امتازت المجتمعات الإسلامية على سائر المجتمعات، أو هكذا ينبغي أن تكون متميزة فريدة تعطي كل ذي حق حقه.

 

فمن صفات المجتمع المسلم التي أوردها القرآن، ونوّه بها، وأعلى شأنها، ما جاء في خاتمة سورة الفتح من قوله -سبحانه-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)[الفتح: 29].

 

عباد الله: في طليعة صفات المجتمع المسلم، وأظهر ملامحه في الآية الكريمة، أنهم (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)؛ فالتراحم والمحبة تشيع بينهم، وتشمل جميعهم، وتلازم مجتمعاتهم؛ إذ الرحمة صفة تنبئ عن التعاون والتكاتف، والبذل والعطاء، والعفو والصفح، والوصل وعدم القطع، قال ابن جرير: "(رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) رقيقةٌ قلوب بعضهم لبعض، لينة أنفسهم لهم، هينة عليهم لهم" فهم متعاطفون متوادون متحابون، تحفّهم الرحمة وتغشاهم المحبة، وترفرف عليهم السعادة.

 

وقد امتثل هذه السمة المجتمع الإسلامي الأول، وطبقوها عملياً، فكانت سيرتهم مثالاً يُحتذى به، وأحوالهم نعيماً معجلاً، فقد بلغت مواساة الإخوة في الدين، الذين جمعهم الانتماء للمدينة النبوية مبلغاً لا يمكن وصفه، بل لا يمكن تصديقه لولا أنه ثبت بالأسانيد المرْضِية. لقد خلَّد الله -تعالى- في كتابه كرم الأنصار ومواساتهم بقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: ٩].

 

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قالتِ الأنْصارُ للنبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: اقْسِمْ بيْنَنا وبيْنَ إخْوانِنا النَّخِيلَ، قالَ: "لا"؛ فقالوا: تَكْفُونا المَئُونَةَ، ونَشْرَكْكُمْ في الثَّمَرَةِ، قالوا: سَمِعْنا وأَطَعْنا"(رواه البخاري).

 

فهؤلاء الأنصار يرغبون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- استقطاع شطر أراضيهم الزراعية هبةً منهم للمهاجرين، لكنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أعرض عن هذا؛ لما فيه من إضرار مادي عليهم، لكنه قَبل الاقتراح الآخر؛ وهو أنْ يتولى المهاجرون مساعدة الأنصار في القيام على الزراعة ومتطلباتها من السقاية والرعاية، مقابل أنْ يكون لهم نصيب من الثمر، وتبقى الأصول في ملك الأنصار.

 

فأي رحمة وتعاون تَمثَّله هذا المجتمع الفريد، وأي إيثار ومحبة يتنازل به المرء عن رأس ماله وما جمعه، لكن لا غرو؛ فداعيه في ذلك الرحمة والمحبة والتعاون، ولذا قال المهاجرون بعد، يا رسول الله: ما رأينا قومًا أبذلَ من كثيرٍ ولاَ أحسنَ مواساةً من قليلٍ من قومٍ نزلنا بينَ أظْهرِهم، لقد كفَونا المؤنةَ وأشرَكونا في المَهنأ، حتَّى خِفنا أن يذْهبوا بالأجرِ كلِّهِ. فقالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ، ما دعوتُمُ اللَّهَ لَهم وأثنيتُم عليْهِم"(رواه الترمذي).

 

عباد الله: من مظاهر الرحمة في المجتمع المسلم: إحساس المرء بإخوانه، والتألم لآلامهم، والتحرك في رفع معانتهم، والوقوف معهم؛ فالتألم لآلام الإخوة لا لمجرد الألم، ولكن المؤمن حين يعيش آلام أخيه كأنها آلامه -بحكم الجسد الواحد-؛ فإنه سيتحرك لرفع هذه المعاناة والآلام كأنما يرفعها عن نفسه، بصدقةٍ هنا، أو شفاعةٍ هناك، أو دعوة صادقة، أو مجرد مواساة؛ إذ المواساة تخفيفٌ من الأحزان والأثقال النفسية الناتجة عن الأمراض والمصائب ومشاقِّ الحياة؛ حيث يجد من أصيب بشيء من ذلك في نفسه ألماً وفي قلبه تمزقاً.

 

ومن صور التراحم: أنْ يجد هذا المصاب مَن يخفّف عنه ويسلّيه ويُسرّي عنه أحزانه وهمومه، سواء بالكلمة الطيبة والتعزية الحانية والحديث الدافئ، أو بالوقوف مع المصاب في محنته، ومساعدته في تجاوزها بسلام، أو التخفيف من غلوائها، وإرشاده إلى خطوات معالجتها، وفي الحديث قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة"(الحديث رواه مسلم).

 

 قال ابن رجب -رحمه الله-: "والكربة هي الشدة العظيمة التي تُوقع صاحبها في الكرب، وتنفيسها أنْ يُخفَّفَ عنه منها، مأخوذ من تنفيس الخناق، كأنه يُرخى له الخناق حتى يأخذ نفَساً. والتفريج أعظم من ذلك، وهو أنْ يزيل عنه الكربة، فتنفرج عنه كربته، ويزول همّه وغمّه. فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج".

 

عباد الله: من مظاهر الرحمة في المجتمع المسلم: حسن الظن بهم، وتغليب الحسنات على السيئات، واحتمال الأذى، والصبر على الجفاء؛ إذ المجاورة في الدُّور والمخالطة في العمل، والملامسة في المعاملات، مظنَّة الخطأ، ومورد التجاوز، وتوقع الخلل، لكنَّ الكريم يعفو ويصفح، ويعرض ويتغافل؛ داعيه الرحمة والمودة، وحفظ العهد، وتقدير المعروف، وقد قيل:

وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها *** كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ

 

قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً"، وقال أبو قلابة: "إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك؛ فإن لم تجد له عذراً؛ فقل في نفسك: لعل لأخي عذراً لا أعلمه".

 

 فاللهم كما أحسنت خَلْقنا فأحسن خُلقنا...

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: ومن مظاهر الرحمة في المجتمعات: سلامة الصدر، وطيب المعشر، وكفّ اللسان عن تتبُّع الزلات وإظهار السقطات وبثّ العداوات وتفريق الجماعات، وقد ترى رجلاً متورعاً عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات تجريحاً وتحذيراً، وفي الحديث: "تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فإنَّها صَدَقَةٌ مِنْكَ علَى نَفْسِكَ"(رواه مسلم).

 

 تجده يتظاهر بالنصح والتوجيه والصدق والمحبة، وباطنه الحسد والتشفي، والظلم والطغيان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي جماع الدين: تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين؛ فإن الله -تعالى- يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بِيْنِكُمْ)[الأنفال: 1]، ويقول: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103]، ويقول: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آل عمران: 105]، وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وتنهى عن الفُرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة؛ كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة".

 

ألا فليتق الله من أشغل نفسه بتجريح الناس والتحذير منهم وتتبع سقطاتهم؛ إذ الأولى به البحث عن عيوبه للتخلص منها بدلاً من الاشتغال بعيوب الآخرين، والمحافظة على حسناته فلا يضيق بها ذرعاً، فيوزعها على مَن ابتُلي بتجريحهم والنَّيْل منهم، وهو أحوج بها من غيره في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

 

هذا وصلوا وسلموا على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين..