رحلة بناء البيت العتيق

الشيخ نواف بن معيض الحارثي

2023-06-16 - 1444/11/27 2023-06-19 - 1444/12/01
عناصر الخطبة
1/وفود الحجيج 2/قصة بناء البيت العتيق 3/فضائل خليل الرحمن ومنزلته 4/شمائل إبراهيم عليه السلام وخصائصه.

اقتباس

ثُمَّ قَالَ: أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ. قَال: ومَا يُبلِّغُ صَوتِي؟ قالَ: أذِّن وَعَلَينَا البَلاغُ! فقال: يَا أَيّهَا النَّاس أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، وكتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فحجوا، فَأَسْمَعَ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاء، فَأَجَابَهُ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْم الله أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة..

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمدُ للهِ جَعَلَ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ، ربطَ فيها أعظمَ الأركانِ وَجَعَلَها مَصدَرًا للأمنِ والأمانِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، المَلِكُ الدَّيَّانُ. وأشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمَةً وأماناً للإنسِ والجآنّ صلى الله عليه وعلى جميعِ الآلِ والصَّحبِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ.

 

أمَّا بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله...

 

عن ابنِ مسعود قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَقيتُ إبراهيمَ ليلةَ أُسْريَ بي فقالَ: يا محمَّدُ، أقرئ أمَّتَكَ منِّي السَّلامَ، وأخبِرْهُم أنَّ الجنَّةَ طيِّبةُ التُّربةِ عذبةُ الماءِ، وأنَّها قيعانٌ، وأنَّ غِراسَها: سُبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلَهَ إلَّا اللَّهُ واللَّهُ أَكْبرُ"(رواه الترمذي وغيره).

 

عباد الله: تَستقبِلُ مَكَّةُ هذهِ الأيامَ وُفُودَ الحَجِيجِ، في مَوكِبٍ مَهِيبٍ، جَاءوا مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يُلبُّونَ نِدَاءَ رَبِّهم ويُجِيُبونَ أَذَانَ خَلِيلهِ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الحج: 27-28]؛ جَاءوا لِيؤدُّوا خَامِسَ الأركانِ طَامِعِينَ في تَكفيرِ الخَطَايَا وَبُلُوغِ الجِنَانِ، فَمَا هَذا البَيتُ العَتِيقُ يا تُرى؟ وكيفَ تَمَّ بِناؤهُ؟ ومَنِ الذي بنَاهُ؟ وما سِرُّ تَعَلُّقِ المُسلِمِينَ بِهِ؟                  

 

 عباد الله: لِبناءِ البيتِ العتيقِ تاريخٌ لا يُنْسَى وقِصَّةٌ لا تُمَلُّ! تبدأُ القِصَّةُ بِرحلَةٍ شاقَّةٍ لإبراهيمَ الخليلِ -عليهِ السَّلامُ- حينَ قَرَّرَ أنْ يُهاجِرَ بِهَاجَرَ وابنَها إِسمَاعِيلَ إلى البُقعَةِ المُبَارَكَةِ! وذَلِكَ بِوحيٍ من اللهِ -تَعالَى- وَأَمْرٍ!

 

ففي الحديثِ الصحيح، وفيه: "...ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ، فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَاباً فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقاً، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي؛ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟! فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَاراً، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَن لَّا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ.

 

فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ، حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم: 37].

 

وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ، وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ-، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَداً، فَلَمْ تَرَ أَحَداً، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَت طَّرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ، حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا، وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَداً، فَلَمْ تَرَ أَحَداً، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا".

 

فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتاً، فَقَالَتْ: صَهٍ -تُرِيدُ نَفْسَهَا-، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضاً، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ -أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ-؛ حَتَّى ظَهَرَ المَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ، وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا، وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ. قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "يَرْحَمُ اللَّـهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْناً مَّعِيناً", قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا.

 

فَقَالَ لَهَا المَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّـهِ، يَبْنِي هَذَا الغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّـهَ لاَ يُضَيِّعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ البَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ، فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ، أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ، مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنْ لاَ حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ.

 

"فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الإِنْسَ"؛ فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الغُلاَمُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ.

 

 وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى.

 

فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّـهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ اللَّحْمُ، قَالَ فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ المَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ". قَالَ: فَهُمَا لاَ يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ، قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ العَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ.

 

ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّـهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ وَالوَلَدُ بِالوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ.

 

قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولاَنِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة: 127]، قَالَ: فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة: 127].

 

وفي رواية: "وأقامَا البِنَاءَ وَرَفَعَاهُ إلاَّ مَوضِعَ الحَجَرِ الأَسوَدِ"، ففي رواية: "ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ إِلَى الْوَادِي يَطْلُبُ حَجَرًا، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَد وَقَدْ كَانَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاء حِين غَرِقَتْ الْأَرْض...".

 

فلَمَّا فَرَغَ إبراهيمُ من البِنَاءِ -عباد الله- جَاءَهُ جِبريلُ فَأَراهُ المَنَاسِكَ كُلَّها، ثُمَّ قَالَ: أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ. قَال: ومَا يُبلِّغُ صَوتِي؟ قالَ: أذِّن وَعَلَينَا البَلاغُ! فقال: يَا أَيّهَا النَّاس أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، وكتِبَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فحجوا، فَأَسْمَعَ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاء، فَأَجَابَهُ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْم الله أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة: لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ.... وهكذا تَمَّ البناءُ وقامَ الصَّرحُ الشامخُ وكانَ قِبلَةً وَوِجهَةً لِلمسلمينَ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)[آل عمران: 96]. 

 

أَيُّهَا الْمُحِبُّونَ لِخَلِيلِ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّ حَيَاةَ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَتْ مَلِيئَةً بِالْإِنْجَازَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَمِنْهَا بِنَاءُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، وَدَعَا هُنَالِكَ رَبَّهُ قَائِلاً (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[البقرة: 129].

 

فَاسْتَجَابَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ: سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- الَّذِي كَانَ أَشْبَهَ النَّاسِ بِأَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ فِي خَلْقِهِ وَصُورَتِهِ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ"(متفق عليه).

 

كَمَا كَانَ أَشْبَهَ النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي عِبَادَتِهِ وَأَخْلَاقِهِ، عَامِلاً بِقَوْلِ اللَّهِ -تَعَالَى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[النحل: 123].

 

اللهم اجعلنا من أتباع سيد المرسلين ... بارك الله لي ولكم....

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد: فيا عباد الله: إِنَّ مَنْزِلَةَ أَبِي الْأَنْبِيَاءِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمَةٌ، فَقَدِ اخْتَارَهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَاصْطَفَاهُ (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)[البقرة: 130].

 

 وَامْتَثَلَ لِأَمْرِ رَبِّهِ؛ بِالِاسْتِسْلَامِ لَهُ وَطَاعَتِهِ، وَالْإِخْلَاصِ فِي عِبَادَتِهِ (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[البقرة: 131]. فَاتَّخَذَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- خَلِيلاً، وَالْخَلِيلُ أَرْفَعُ مَقَامًا فِي الْمَحَبَّةِ.

 

وَوَهَبَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- الْعَقْلَ وَالْحِكْمَةَ (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ)[الأنبياء: 51]؛ فَكَانَ كَلَامُهُ قَوِيَّ الْإِقْنَاعِ، بَالِغَ الْحُجَّةِ (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)[الأنعام: 83].

 

عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدِ اتَّصَفَ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِشَمَائِلَ عَظِيمَةٍ، وَأَخْلَاقٍ كَرِيمَةٍ، فَإِنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ تَوَّابًا إِلَى رَبِّهِ، حَلِيمًا فِي طَبْعِهِ، فَوَصَفَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)[هود: 75].

 

وَتَحَرَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الصِّدْقَ؛ حَتَّى كَتَبَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عِنْدَهُ صِدِّيقًا (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا)[مريم: 41]. وَقَدْ كَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَادِقًا فِي وُعُودِهِ، وَفِيًّا بِعُهُودِهِ (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)[النجم: 37] أَيْ: وَفَّى لِرَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِكُلِّ مَا كَلَّفَهُ بِهِ.

 

وَكَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَرِيمَ النَّفْسِ، سَخِيَّ الْيَدِ، فَقَدْ ذَكَرَ لَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ نَمُوذَجًا مِنْ كَرَمِهِ، وَجُودِهِ وَبَذْلِه (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ)[الذاريات: 24- 27].

 

فَقَدِ اسْتَقْبَلَ ضِيفَانَهُ بِوَجْهٍ بَشُوشٍ، وَأَجْلَسَهُمْ فِي أَحْسَنِ الْمَوَاضِعِ وَأَلْطَفِهَا، وَسَارَعَ إِلَى إِحْضَارِ الطَّعَامِ لَهُمْ، وَاخْتَارَ لَهُمْ أَجْوَدَهُ وَأَسْمَنَهُ، وخَدَمَهُمْ بِنَفْسِهِ زِيَادَةً فِي إِكْرَامِهِمْ.

 

فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِسَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي عِبَادَتِهِ وَخَشْيَتِهِ، وَإِخْلَاصِهِ وَأَخْلَاقِهِ، وَصِدْقِهِ وَوَفَائِهِ، وَصَبْرِهِ وَكَرَمِهِ، وَتَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِ، وَيَتَّبِعَ هَدْيَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ لِيَكُونَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 68].

 

ثم صلوا وسلموا....

 

المرفقات

رحلة بناء البيت العتيق.doc

رحلة بناء البيت العتيق.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات