اقتباس
تعتبر حالة أبى طالب وموقفه من النبى - صلى الله عليه وسلم - والدعوة الإسلامية من المواقف الفريدة فى تاريخ البشر والتى تحتاج لتأمل وتدبر، فالله - عز وجل - جبل قلب أبى طالب وطبعه على محبة فطرية للنبى - صلى الله عليه وسلم -، فكان ذلك من صنع الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن من الناس من حاط النبى ورد عنه..
الخروج من الحصار والدخول في الأحزان:
استمرت المقاطعة العامة وحصار بنى هاشم فى شعب أبى طالب طيلة ثلاث سنوات كاملة ثم قيض الله - عز وجل - من المشركين أنفسهم من يمشى فى كسر ذلك الحصار الجائر كما مر بنا أثناء الحديث عن المقاطعة، ثم كانت المعجزة الربانية فى تسليط الله - عز وجل - لحشرة من هوام الأرض – الأرضه – على الصحيفة الجائرة فلحستها إلا اسم الله وحده، فأيقن الناس بعدالة موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، فكان الفرج بعد الشدة وخرج بنو هاشم وبنو المطلب من الحصار.
عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمواصلة الدعوة لدين الله فى جنبات مكة والصدع بالحق وعادت قريش أيضاً لمواصلة حربها للدعوة والرسول بنفس الأساليب القديمة، ولكن خفت حدة الإضطهادات والتنكيل قليلاً، بعد أن أيقن المشركون بأن مواصلتهم لتعذيب المؤمنين والتنكيل بهم لن يزيدهم إلا صبراً وثباتاً، ولن يترك أحد من المسلمين دينه تحت وطأة التعذيب، بل إن صبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وثباته هو ومن معه قد أصبح مثار إعجاب الكثيرين، وبدأت بعض فئات المجتمع القريشى تميل لصالح الدعوة وتتفائل معها، ولعل ما قدم به عقلاء المشركين فى كسر حصار المقاطعة خير دليل على تأثر تللك الفئات بصبر وشجاعة الرسول ومن معه.
وفاة أبى طالب:
لم يمض على خروج المحاصرين فى الشعب سوى بضعة شهور حتى توفى أبو طالب عم النبى - صلى الله عليه وسلم - وحصنه وملاذه من البشر،وأكثر من ذب عنه وغضب له ونصره من بين البشر فى العهد المكى، فلقد كان شيخاً كبيراً طاعناً فى السن أنهكته الخطوب والليالى، ثم جاء الحصار العنيف الطويل ليأخذ بقية ما فى جسده وفكره وسعيه من قوة، فلم يصمد الجسد الواهن بعد الخروج من الحصار إلا قليلاً حتى رحل عن الدنيا فى أواخر شعبان من العام من النبوة.
فقد أخرج البخارى فى كتاب التفسير ومسلم فى كتاب الإيمان: " لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبى - صلى الله عليه وسلم -، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبى أمية، فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم -: ياعم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله، وقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية: أى أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، قال: فكان آخر كلمة أن قال على ملة عبد المطلب، قال فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - : لأستغفرن لك مالم أنه عنك ،قال: فنزلت ( ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين. ...). وفى رواية مسلم " لما حضرت وفاة أبى طالب أتاه النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة فقال: لولا أن تعيرنى قريش يقولون ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت عينك، فأنزل الله - عز وجل - على نبيه ( إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ).
تعتبر حالة أبى طالب وموقفه من النبى - صلى الله عليه وسلم - والدعوة الإسلامية من المواقف الفريدة فى تاريخ البشر والتى تحتاج لتأمل وتدبر، فالله - عز وجل - جبل قلب أبى طالب وطبعه على محبة فطرية للنبى - صلى الله عليه وسلم -، فكان ذلك من صنع الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن من الناس من حاط النبى ورد عنه مثلما فعل أبو طالب، والأعجب من ذلك أن يكون أبو طالب على شركه، وقد أنزل الله - عز وجل - فى هذا النموذج البشرى الفريد قوله تعالى : ( وهم ينهون عنه وينأون عنه ) [الانعام: 26].
أخرج عبد الرزاق فى مصنفه بسنده إلى ابن عباس فى تفسير الآية قوله:" نزلت فى أبى طالب: كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتباعد عما جاء به".
أما ما ذهبت إليه طوائف الشيعة والرافضة من إسلام أبى طالب فلا يصح مطلقاً بل يخالف صريح القرآن والسنة، ولا يدل عليه إلا فى رواياتهم المكذوبة الموضوعة.
وقد حفظ الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجميل لعمه أبى طالب وكان يحب أن يستغفر له ويدعو له لولا أنه نهاه الله - عز وجل - عن ذلك، فتشفع له عند الله فى تخفيف عذابه حتى صار أهون أهل النار عذاباً، ففى البخارى ومسلم وأحمد من حديث العباس - رضي الله عنه - أنه قال: لا يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشىء فإنه كان يحوطك ويغضب لك، قال: نعم هو فى ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان فى الدرك الأسفل من النار" وفى رواية أخرى " أهون أهل النار عذاباً أبو طالب منتعلاً بنعلين يغلى منهما دماغه".
موت أبى طالب على شركه على جهوده الكبيرة فى خدمة الإسلام والرسول - صلى الله عليه وسلم - مدعاة للتأمل والاعتبار فأبو طالب كان على يقين كامل وعلم تام بصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - وصحة دعوته ومع ذلك لم يؤمن به ولم يتبعه، والسر وراء ذلك التناقض بين العلم والعمل هو تقليد الآباء وإتباع العادات الموروثة والخوف من مخالفة الآباء والأجداد فيكون بذلك سبباً للمذمة والعار بظن المشركين، كما يظهر أثر الرفقة والصحبة على المرء، وكيف أنها قد تكون سبباً للهلاك والخذلان فى أحرج اللحظات مثلما حدث مع أبى طالب الذى أحاط به أصدقاؤه وأقرانه وصدوه عن النطق بالشهادتين، كما يستفاد من هذه الحادثة بطلان وفساد مذهب من قال إن الإيمان هو مجرد المعرفة، وهو قول أوائل الجهمية، ولقد كان أبو طالب يعلم يقينيا صدق ما جاء الرسول - صلي الله عليه وسلم -، وأنشد في ذلك أشعارا كثيرة، ولكنه لم يقرن تلك المعرفة بالتصديق والانقياد والإتباع، فلم تنفعه مجرد المعرفة وصار من أهل النار.
وفاة خديجة رضى الله عنها:
لم تكد مصيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برحيل عمه يمر عليها عدة أيام حتى فجع بما هو أشد منها وأنكى وهى مصيبة رحيل زوجته وقرة عينه خديجة - رضى الله عنها -، وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام ومن أكبر أنصار الدعوة، السكن والملاذ الآمن والمحضن الدافئ للرسول - صلى الله عليه وسلم -، بمثابة الجبهة الداخلية القوية للدعوة الإسلامية، واست النبى بمالها وعطائها وكل ما تملكه من مادى ومعنوى.
ولخديجة فى الإسلام مناقب وفضائل تجعلها فى قمة سامقة لا يدانيها فيها أحد من العالمين إلا مريم بنت عمران، فخديجة أول من أمن من البشر قاطبة بالنبى - صلى الله عليه وسلم -، وأول من صلى، وهى سيدة نساء العالمين كما جاء فى الصحيحين، وقد أقرأها ربها - عز وجل - وجبريل السلام، وبشرها جبريل ببيت فى الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد الحب والإكرام لها، فلم يتزوج عليها حتى ماتت وقضى معها سنوات شبابه وزهرة حياته، حتى إن عائشه كانت تغار منها ولم ترها لكثرة ذكر النبى - صلى الله عليه وسلم - لها وثنائه عليها وإكرامه لأهلها وقرابتها وأصدقائها.
وبرحيل خديجة بعد أبى طالب تضاعفت الأحزان والهموم على قلب النبى - صلى الله عليه وسلم -، إذا فقد فى شهر واحد الأمن الخارجى والداخلى والسند والعضد الذى كان يعتمد عليه فى تحمل الصعاب والإضطهادات، وقد أطمع رحيل هذين الحبيبين المشركين فى التعرض للرسول صلى الله عليه وسلم والنيل منه، كما لم تنل من قبل، فقد جاء فى الأثر " مازالت قريش كاعين عنى حتى مات أبو طالب ".
وروى ابن اسحاق فى السيرة " لما مات أبو طالب عرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه تراباً فرجع إلى بيته فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكى، قال فجعل يقول: أى بنية لا تبكين فإن الله - عز وجل - مانع أباك، ويقول ما بين ذلك ما نالت منى قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب.
وكان ذلك التسلط والتجرؤ الكبير الذى أقدمت عليه قريش بعد رحيل أبى طال وخديجة دافعاً للرسول صلى الله عليه وسلم للبحث عن فضاء جديد للدعوة والخروج من نطاق مكة الذى خاق بكثرة الإضطهاد والتنكيل والتضيق من جانب المشركين.
الخروج إلى الطائف:
أصبح النبى - صلى الله عليه وسلم - فى ساحة الدعوة ومواجهة المشركين وحده بعد رحيل أبى طالب وخديجة، وارتد البلاء عليه وحده بأشد ما كان، ولم يكن من المسلمين من يقوم مقام أبى طالب فى الدفاع عن النبى - صلى الله عليه وسلم - والدعوة الإسلامية، لذلك عزم النبى - صلى الله عليه وسلم - على الخروج من الحصار المضروب عليه داخل مكة إلى جبهات دعوية جديدة.
لماذا الطائف؟:
اختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم - للطائف لتكون فاتحة رحلاته الدعوية خارج مكة كان اختياراً في غاية الذكاء الأستراتيجى على الرغم من ضعف مردود ونتائج تلك الرحلة، وذلك لعدة أسباب منها :
العداء التاريخى بين قريش والطائف، بسبب محاولات قريش المتكررة فى ضم الطائف إلى مكة، حيث كانت تمثل عمقاً استراتيجياً جغرافياً لمكة، واستولت قريش على وادي " وج " الغنى بأشجاره ومزارعه وضمته إلى مكة، ولذلك اعتبر الشافعي في مذهبه أن ذلك الوادي من ضمن البلد الحرام والراجح غير، ذلك العداء التاريخى دفع أهل الطائف لئن يرسلوا مع أبرهة أحد مواليهم وهو أبورغال ليكون دليلاً لأصحاب الفيل فى الحادثة الشهيرة.
لذلك حاول الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يستغل هذا الخلاف فى التماس تأييد أهل الطائف له ضد قريش التى اضطهدته وعادته وظلمته ونكللت به وبأتباعه، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ أن بدأ بالجهر فى دعوته وهو يعرض نفسه على قبائل العرب فى كل موسم للحج ويشرح لهم عدالة قضيته ومدى ظلم قريش له واضطهادهم له، لذلك لم مستغرباً أن يفعل الشىء نفسه مع أهل الطائف.
وجود علاقات إقتصادية قوية ومتشابكة لكبار مجرمى قريش المحاربين للدعوة فى الطائف، فقد كان كثير من يملكون الضياع والمزارع والبساتين فى الطائف خاصة بنى مخزوم وبنى عبد شمس، فلو نجح الرسول صلى الله عليه وسلم فى رحلته إلى الطائف فى استقطاب أهلها وضمهم للإسلام فيكون ذلك نجاحاً استراتيجياً كبيراً يضغط به على مشركى قريش.
قرب الطائف من مكة فهى أقرب بلد إلى مكة والتحرك الواعى فى الدعوة يقتضى بالبدء بالأقرب فالأقرب، كما هو الحال فى مقاتلة أعداء الدعوة، البدء بالذين بلون المسلمين ثم الذين يلونهم وهكذا.
الطائف آمال وآلام:
تحرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف فى رحلة مليئة بالأمل والطوح والمحاذير الكثيرة أيضا لذلك لم يصحب معه سوى مولاه وولده بالتبنى " زيد بن حارثه " وخرج إليها ماشياً على الأقدام – المسافة بين مكة والطائف زيادة عن ستين كيلو متر – حتى لا يشكك فيه المشركون ويمنعونه من الخروج.
كان الوضع السياسى فى الطائف متشابكاً إلى حد كبيرا، حيث كانت السلطة منقسمة بين حزبين كبيرين، ولكل حزب منهما علاقات خارجية وتحالفات مع القبائل الكبيرة فى المنطقة، وبينهما صراع محموم ولكنه مكتوم على السلطة، وهما بنو مالك وكانوا فى محالفة مع هوازن، والأحلاف وكانوا متحالفين مع قريش، والسر وراء تللك الشبكة المعقدة من تحالفات أهل الطائف الخارجية هو الموقع الأستراتيجى الهام للطائف وغناها بالموارد الطبيعية وإعتدال طقسها مما جعلها محط أنظار وأطماع القبائل القوية المحيطة بها مثل قريش وهوازن وبنى عامر.
بعد نظر وتقليب فى الوضع القائم داخل الطائف قرر الرسول - صلى الله عليه وسلم - التوجه إلى قيادة الأحلاف على الرغم من الروابط السياسية والإقتصادية مع قريش، وذلك لأن بنى مالك حلفاء هوازن كانوا شديدي الكراهية لقريش وكل قريشى حتى ولو كانت دعوته حقة وما جاء به هو الصواب، وتلك الكراهية كانت ستصم أذانهم وتغلف قلوبهم وتعمى أبصارهم عن سماع الحق، لذلك أختار قيادة الأحلاف ليبدأ معهم الدعوة.
قال ابن اسحاق: " فلما هلك أبو طالب، فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى، فخرج إليهم وحده ".
فحدثنى يزيد بن أبى زياد عن محمد بن كعب القرظى قال:
" انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود وحبيب بنو عمر وبن عمير، وعند أحدهم إمرآة من قريش من بنى جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم له من نصرته للإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ، وقال الآخر: أما وجد الله أحداً أرسله غيرك؟ وقال ثالث: والله لا أكلمك أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عندهم وقد يئس من خير ثقيف وقد قال لهم: إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا على وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه فيجرئهم ذلك عليه. فلم يفعلوا وأغروا به سفاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى إجتمع عليه الناس، وفى رواية موسى بن عقبة: وقعد له أهل الطائف صفين على طريقة فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضغوهما بالحجارة حتى أدموه فخلص منهم وهما يسيلان الدماء – الرسول وزيد – حتى ألجئوه إلى حائط لعتبه بن ربيعة وأخيه شيبة وهما فيه ينظران إليه ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف.
وتحت ظل حبلة من عنب توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببصره إلى السماء وهو مهموم القلب مجروح البدن منكسر الفؤاد على ما لاقاه من أهل الطائف ودعا ربه بالدعاء الشهير الذى يفيض بالإيمان والرضا والتسليم إلى الله - عز وجل - والتوكل عليه " اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربى، إلى من تكلنى ؟ إلى بعيد يتجهمنى ؟ أمر إلى عدو ملكته أمرى ؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى، ولكن عافيتك أوسع لى. ........."
هذا الحديث ضعفه كثير من أهل العلم وحسنه آخرون وعليه كما قال ابن يتمية أنوار النبوة وجلالها وقد يتقوى الحديث بكثرة طرقه وشواهده فيرقى لدرجه الحسن لشواهده والله أعلم.
كان هذا الموقف من أشد المواقف التى واجهها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته، وظل يتذكره طوال حياته وعلى الرغم من كثرة الشدائد والأهوال التى لاقها الرسول صلى الله عليه وسلم فى دعوته إلا إن هذا الموقف كان أشدهم ألماً لنفسه وحزناً لقلبه، فقد أخرج البخارى فى كتاب بدء الخلق، ومسلم فى كتاب الجهاد والسير عن عائشة أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال: ما لقيت من قومك كان أشد فيه منه يوم العقبة، إذا عرضت نفسى على ابن عبد الله ياليل بن عبد كلال، فلم يجبنى إلى ما أردت فانطلقت مهموماً على وجهى فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى فإذا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت فإذا هو جبريل - عليه السلام - فنادانى، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم نادانى ملك الجبال، فسلم على، ثم قال: يا محمد ! إن الله - عز وجل - قد سمع قول قومك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثنى إليك ربك لتأمرنى بما شئت: إن شئت نطبق عليهم الأخثبين، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً.
لماذا كان يوم الطائف أشد مالاقاه النبى - صلى الله عليه وسلم - ؟
بالنظر للأحداث الجسام والمواقف العصيبة التى مرت بحياة النبى - صلى الله عليه وسلم - الدعوية والإجتماعية نجد فيها ما قد يظن القارئ أنها أشد من يوم الطائف، مثل محاولة اغتياله قبل الهجرة وشدائد الهجرة ثم ما جرى يوم أحد ثم مقتل أصحابه يوم الرجيع وفى بئر معونة ثم حصار الأحزاب الخانق ثم حادثة الإفك وغيرها، ولكن مع ذلك كله اعتبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم الطائف هو أشد ما لاقاه خلال رحلته الدعوية، وذلك لعدة أسباب:
أن الحادثة قد وقعت بعد شدائد ومحن متتالية فلقد ظل فى الحصار ثلاث سنوات كاملة، ثم لم يكد يتنسم أجواء الكعبة حتى فجع بأقرب اثنين عمه أبى طالب ثم زوجته خديجة، ثم تلى ذلك تطاول المشركين عليه واشتدادهم في اضطهاده، ولذلك كله خرج من مكه إلى الطائف بحثاً عن نصر معنوى يدفع عن كاهله الضغوط النفسية والبدنية المتتالية، ويعيد به الثقة لأتباعه الصابرين على البلايا والفتن، فلما جاءت نتيجة الرحلة على ما جرى اهتم الرسول هماً لم يمر به من قبل قط.
مدى لؤم وحقارة الرد الذى رد به سادة ثقيف على دعوة النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا كان رداً مشوبهاً بالاستهزاء والسخرية والتكبر والعناد فى أن واحد، فحتى عتاة مشركي قريش لم يكن منهم مثل هذا الرد الخبيث، بل إن ردهم كان ينم عن سفه وخفة عقل، هذا على الرغم من توسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخير فيهم وتفضيلهم عن شركائهم بنى مالك فى البدء بالدعوة، وكان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لنفسه: أهولاء الذين فضلتهم وآثرتهم بالدعوة، أهكذا يكون ردهم ومقابلتهم للإحسان والمعروف والهداية التى أحملها إليهم وأدعوهم عليها؟
ما قام به أهل الطائف، عندما وقفوا له على الصفين يسبونه ويرمون عراقبيه بالحجارة، وهو كان يحب أن يكتم خبره عن قريش حتى لا تشمت به وتشتد فى اضطهادها له ، ومما زاد همه أن الضرب والسب قد ألجأه إلى بستان لأحد كبار مشركى قريش وأحد المستهزئين وهو عتبة بن ربيعة والأدهى من ذلك أن يكون عتبة وأخوة شيبة ابنى ربيعة شاهدين على ما جرى له صلى الله عليه وسلم من تكذيب وضرب وسب.
أن حادثة الطائف قد تفردت دون غيرها من سائر الأحداث الجسام التى تعرض لها النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قد جمعت بين الألم النفسى والآذى البدنى، بل إن الآلم النفسى قد أستغرق بفكر وعقل الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنه هام على وجهه مهموماً حزيناً مستغرق الفكر حتى أنه لم يستفق إلا فى قرن الثعالب، أى أنه قد غير مسار رحلة العودة من حيث لا يدرى، لأن قرن الثعالب على طريق نجد شرق مكة.
أن حادثة الطائف هى الحادثة الوحيدة فى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - التى أنزل الله - عز وجل - على أثرها وأثر ما تعرض له النبى - صلى الله عليه وسلم - فيها ملكين من أشد وأقوى الملائكة وهما جبريل وملك الجبال وذلك بأمر من الله لتخيير النبى - صلى الله عليه وسلم - فى الأنتقام مم أساء إليه وآذاه بصورة مروعة وشاملة من جنس ما جرى للمكذبين فى الأمم السابقة، وهذا وإن دل فيدل على علم الله - عز وجل - بمدى الحزن والألم النفسى الكبير الذى تعرض له النبى - صلى الله عليه وسلم - ، نعم قد أنزل الله - عز وجل - الملائكة فى مواطن شتئ لنصرة النبى - صلى الله عليه وسلم - ودعوته، ولكن فى ظروف معينة ولرد عدوان أفراد بعينهم، وليس بمثل هذه الصورة العامة وبأسلوب الإبادة والاستئصال المذكور في الحديث.
من رحم المحنة تخرج الرحمة:
من طبائع البشر المعروفة مقابلة الإحسان بالإحسان والإساءة بمثلها، فالنفس تميل وتنتقم ممن ظلمها وأساء إليها، وقليل من الناس من يعفو ويتجاوز عمن ظلمه، لذلك قال الله - عز وجل - ( ولن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) [النحل: 126]، وقال عز وجل: ( وجزاء سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله. ..) [الشورى: 40]، ولكن أن يقابل الإساءة والظلم والتكذيب وكل أنواع الآلام النفسية بالرحمة والشفقة وتمنى الهداية والرشاد، فهذا لا يكون إلا من سيد الخلق وخاتم المرسلين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذى كان كلما أشتدت عليه المحن وتزايدت عليه الخطوب كلما فاضت نفسه العظيمة بالرحمة والشفقة فهو كما قال الله - عز وجل - ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء: 107].
وعلى الرغم من قسوة وشدة ما تعرض له النبى - صلى الله عليه وسلم - فى الطائف ونزول ملك الجبال لتنفيذ ما يريد إلا إنه قد برهن على قلبه الكبير رحمته الحانية واحتماله لأقصى ما يفعله معه المشركون بكل صبر وثبات.
ولعل هذا الموقف العظيم من النبى - صلى الله عليه وسلم - من أكبر مكاسب الدعوة من رحلة الطائف الأليمة ، ذلك أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد احتمل في هذه الرحلة أقصى درجات التنكيل والاضطهاد النفسى والبدنى، وبرهن على صموده الذي تخف معه الجبال الرواسى، وأنه صلى الله عليه وسلم لن يتراجع أبداً عن دعوته، ولن يتخلى عن منهجه وأخلاقه الرفيعة السامقة فى مواجهة خصومة وأعدائه.
أهم الدروس والعبر:
الدنيا ملئية بالهموم والأحزان والنكبات، والداعية الصادق لابد أن يتزود بالصبر واليقين لمواصلة دعوته وعدم القعود والبكاء على ما أصابه من مصائب الدنيا.
الدعوة ليس لها وطن ولا زمان ولا مكان، فهى دعوة عالمية لكل الناس وإذا ضاق المكان على الدعوة والداعية أنتقل إلى غيره لمواصلة الرسالة الخالدة.
الذكاء وحسن التفكير والإختبار الجيد والتروى قبل أتخاذ أى قرار من الأمور الهامة واللازمة لأى داعية ناجح.
الحذر والحيطة وحسن التخطيط والتدبير ليس من الجبن أو الفزع بل هى أمور لابد منها عند ممارسة الدعوة خاصة فى أيام الأزمات والتضيق على الدعاة مثلما خرج النبى - صلى الله عليه وسلم - نهاراً يمشى على قدميه ليس معه أحد سوى مولاه و زيد ثم طلبه من سادة ثقيف كتمان خبره عن قريش.
الداعية لابد له أن يدرس البيئة الدعوية التى سيعمل بها ويتحرك فيها ويحاول أن يستغل كل الأوضاع السياسية والإقتصادية والاجتماعية القائمة لخدمة دعوته، وهذا مأخوذ من اتجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى بداية دعوته إلي قادة الأحلاف.
إن أعداء الدين والدعوة تربطهم مصالح إقتصادية وإجتماعية وتحالفات أخرى تجعلهم يعرضون عن سماع الحق وإيثار تلك المصالح والأحلاف عن إتباع الحق.
الداعية لابد له أن يصبر على الألم النفسى والإيذاء البدنى كما صبر أولو العزم من الرسل وصبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن الإمامة فى الدين لا تنال إلا بالصبر واليقين.
الرحمة والشفقة بالمدعوين وعدم التسرع بالنيل منهم وتركهم والدعاء عليهم واليأس من هدايتهم لأن القلوب إنما هي بيد الله - عز وجل - يقيمها ويقلبها كيف يشاء.
أهم المصادر والمراجع:
- السيرة النبوية لابن هشام
- دلائل النبوة
- الروض الأنف
- البداية والنهاية
- تاريخ الطبري
- الكامل في التاريخ
- الطبقات
- صفة الصفوة
- السيرة النبوية للذهبي
- الدرر في المغازي والسير
- السيرة النبوية للصلابي
- السيرة النبوية للعمري
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم