سرنا في طريق الأوتستراد السهل السمح، فقد أصبحت المملكة والحمد لله، في طليعة الدول الحضارية، ولكن بعض السيارات، أساءت إلى نفسها بتجاوز السرعة حتى الجنون، وكأنها تهرب من ملك الموت، وكأن هذا السائق الأرعن يهرب من الموت إليه، فالأصل في السفر السلامة، وذلك بمراعاة السرعة المحددة، والتوكل على الله تعالى، وأنا حائز على درع المرور بقصيدة قلتها لما كنت منتظمًا في مدرسة دلة.
وصلنا الطائف، ونزلنا الهدا، حدثونا عن كيفية شق هذا الطريق في هذا الجبل. قالوا:
في الطريق الصاعد من مكة المكرمة إلى الطائف، حملوا على حمار خرجًا فيه تنكتان في كل جانب تنكة فيا زيت، وثقبوهما من أسفل، وصعد الحمار والزيت يرسم الطريق الملتوي مع خطوات هذا الحيوان حتى وصل إلى نهاية الارتفاع.
وصلنا مكة المكرمة، ولأول مرة نرى فيها الكعبة المشرفة، وهل يستطيع الدمع أن يبقى جمودًا حبيسًا في الأجفان؟
إن هيبة البيت تهيمن على المشاعر، فيغيب الإحساس عن الواقع، ويحيا في عالم ملائكي من الصعب أن ترسمه الكلمات.
كأني أمام الكعبة قد اتصلت الأرض بالسماء، وكان الكون كله قد طوي في هذا المشهد الذي يغمره نور رباني لم أشعر به من قبل. وتهادت على مسرح يصور بناء البيت العتيق، وحفر زمزم وهذا مقام إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وسيكون من إبراهيم إسحاق ومن إسحاق يعقوب، وهو إسرائيل أي: عبد الله. ومنه ستكون اليهودية، ومنها النصرانية.
وهذا البيت رمز لتحول النبوة من بني إسرائيل إلى العرب من ذرية إسماعيل.
حول هذا البيت، انتصب 360 صنمًا، وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد أنبياء الله أولي العزم فحطم الأصنام وطهر هذا البيت.
ولم يكن ذلك بهذه السهولة، لقد قامت معارك.... ملاحم، وجرت دماء، وهذه قبور الشهداء في بدر، وهذه قبور الشهداء في أحد....
نحن نقف الآن أمام الكعبة المشرفة آمنين مطمئنين، فلنعرف قيمة هذا الأمن والأمان.
في العيد يجدد ثوب الكعبة المشرفة، ويفتح باب الكعبة.
صعدت الباب المرتفع، وكاد ضلعي ينكسر، وما أعذب هذا الألم! صليت في جوف الكعبة ركعتين لله تعالى، وفي داخل الكعبة أسطوانة خشبية من الأرض إلى السقف قرب باب السطح، قطرها حوالي 25 سم، مطلية بمادة تمنع دابة الأرض أن تأكل منها.
تركتها عن يميني وصعدت الدرج، وهو أربع درجات إلى السطح ينفذ إلى الشمال تلقاء ميزاب الرحمة.
كان ثوب الكعبة ملقى على السطح، وقد تدلت بعض جوانبه ولم يكن بعد قد أسبل على جسمها.
وقفت على سطح الكعبة فاتجه قلبي لمناجاة رب الكعبة، وكأنني أقف على هامة الكون أقول ضارعًا:
اللهم انصر هذا الدين وزد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا، وكما حطمت الأصنام الحجري حطم الأصنام البشرية بقوتك يا قوي يا عزيز.
رحلة إلى غار حراء:
غار حراء في جبل النور في مكة المكرمة، ذلك المكان الذي شهد أنوار نزول الوحي الأول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حينما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعبد الله تعالى في هذا الغار، على دين إبراهيم عليه السلام.
وصلت إلى سفح هذا الجبل، وكأن صخوره الجدار القائم لشدة ارتفاعه وقوة انحداره.
كان الناس، وأكثرهم من الباكستانيين يصعدون.
تقدمت في طريق صاعد صخوره ملساء، وليس له معالم محددة إلا آثار النعال، حيث جعلت له شبه طريق، ينقطع، في سائل المرتقي نفسه: أي طريق يسلك؟ وأي صخرة يتكئ عليها؟ وأين يضع قدمه؟.. ثم يظهر له شبه طريق.
لو التفت الصاعد إلى أسفل رأى نفسه شبه معلق على جدار لو زلت قدمه لأصبح في خبر كان.
وصلت القمة فإذا بي أرى أرضًا صخرية منبسطة مساحتها حوالي عشرة أمتار طولًا في مثلها عرضًا.
على يسار هذه الساحة، من الجهة الجنوبية رأيت الغار.
هو ليس بغار؛ حجران طول الواحد منهما حوالي 160 سم طولًا في مثلها عرضًا، وقد ارتكز الواحد منهما على الآخر إذا تمدد الرجل الوسط داخله فإن رأسه سيخرج عن الغار، وإذا أمطرت فلا شيء يمنع دخول الماء إليه. على يسار الغار تراكمت عدة صخور فوق بعضها، وقد كتب على إحداها (حسن البنا).
وقيل لي: إن الحرم المكي كان يظهر من هنا قبل أن يحجبه البناء.
إن هذا المكان كان مسكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعبده ربه قبل البعثة.
يا ألله، ما أعظم محمدًا - صلى الله عليه وسلم -! لقد سقطت نعلي وبدلتها من صعودي مرة واحدة، وأنا شاب جلد من الأبطال العدائين في الجري، ولم أصدق أنني وصلت إلى القمة ونزلت منها سالمًا، فكيف وأن هذه القمة كانت منزل الرسول العظيم، صلى الله عليه وسلم. وقلت: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان صقرًا بين الطيور.
هذا هو جبل النور؟ نعم. وهذا هو الغار الذي كان على زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ لا أظن ذلك.
في زيارة ثانية بعد سنين، لم أجد هذا الغار، ولم أجد الصخرتين، ولم أجد اسم حسن البنا، ولم تجد الطريق الموصل إلى ذلك الغار. بل وجدت طريقًا قبل القمة يؤدي إلى سرداب؛ يحني فيه المرء رأسه، وطريقه مظلم رطب تكاد تفوح منه رائحة العفونة....
ضاقت نفسي من هذا التغيير، وتمنيت لو لم أصعد، لأحتفظ بانطباعاتي الأولى عن هذا المكان، وأعشاش الباكستانيين القميئة المنفرة، ومنظر بائعي المياه الغازية، تلك الأعشاش المقرفة....
وقلت في نفسي: أما من منقذ لهذا المكان وقدسيته وجماله وجلاله؟
وعاد انطباعي عن هذا المكان إلى حالته الجمالية الأولى، بعد أن محوت من صفحة نفسي ما آذاها، لما فاءت إلي نفسي قلت: أنا في جبل النور، مهبط الوحي الأول، فأي رجل أعظم من محمد - صلى الله عليه وسلم؟
عن كتاب : أجمل مصايف المملكة العربية السعودية ومعالمها الدينية و التاريخية
المصدر : الألوكة
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم