رحلة إلى الدار الآخرة

ناصر بن محمد الأحمد

2014-01-21 - 1435/03/20
التصنيفات: الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
1/أحداث عظيمة تسبق القيامة 2/نفخة البعث 3/ بعض أهوال يوم القيامة 4/الشفاعة العظمى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم 5/ الميزان يوم القيامة 6/نشر صحائف الأعمال 7/العرض على الله والحساب 8/صفة الحساب 9/ شهادة الجوارح 10/صفة الصراط 11/أحوال الناس عند المرور على الصراط 12/الوقوف عند قنطرة للقصاص

اقتباس

إذا اشتد الأمر بالناس، وعظم بهم الكرب في هذا الموقف العظيم استشفعوا إلى الله -عز وجل- بالرسل والأنبياء أن ينقذهم مما هم فيه، ويُعجّل لهم فصل القضاء، وكل رسول يحيلهم على من بعده، حتى يأتوا نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم-، فيشفع فيهم، وهذه هي الشفاعة العظمى الخاصة بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام-. وهي من المقام المحمود الذي وُعد به ال...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: إننا سائرون في رحلة عظيمة تتخللها أحداث هائلة، هذه الرحلة هي رحلتنا إلى الدار الآخرة!.

 

وسيسبق ذلك أحداث تغير أشياء كثيرة في هذا الكون، فتنشق السماء، وتتناثر النجوم، وتتصادم الكواكب وتتفتت الأرض، وتغدو صعيداً جرزًا، وتصبح الجبال كثيباً مهيلاً: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم: 48].

 

ويكون هذا على إثر النفخة الأولى، ينفخها إسرافيل بأمر ربه، فيصعق كلُ من في السماوات ومن في الأرض إلا ما شاء الله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر: 68].

 

قال الله -تعالى-: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) [الحاقة: 13-16].

 

روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟".

 

ثم يكون بعد ذلك النفخة الثانية، وقد أشار الله -عز وجل- إلى النفخة الأولى والثانية في قوله تعالى: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) [النازعات: 6-7].

 

فالراجفة؛ كما يقول ابن عباس: هي النفخة الأولى، والرادفة: هي النفخة الثانية.

 

فتعود الحياة إلى الأجساد الميتة، وهذا هو يوم البعث وهو إعادة الإنسان روحاً وجسداً؛ كما كان في الدنيا، ثم يُخرج الله الناسَ من الأجداث أحياءً، فيقول الكفار والمنافقون حينئذٍ: (يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) ويقول المؤمنون: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)[يــس: 52].

 

وقد ورد في الأحاديث الصحيحة: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أول من يخرج من قبره؛ فقد روى البخاري في صحيحه: أنه عليه الصلاة والسلام  قال: "يُصعق الناس حين يصعقون، فأكون أول من يقوم، فإذا موسى آخذ بالعرش، فما أدري أكان فيمن صعق".

 

ثم بعد ذلك يقوم الملائكة بحشر الخلائق إلى الموقف: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا) [مريم: 85-86].

 

والحشر -يا عباد الله- هو سوق الناس جميعاً إلى الموقف، وهو المكان الذي يقفون فيه انتظاراً لفصل القضاء بينهم.

 

فبعد بَعث الناس يأمر الله ملائكته فتسوقهم إلى الموقف، وحالهم كما خُلقوا أول مرة: حفاةً غير منتعلين، عراةً غير مكتسين، غرلاً غير مختّونين؛ فقد صح عن عائشة -رضي الله عنها- فيما اتفق عليه الشيخان: أنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً".

 

قلت: يا رسول الله، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض".

 

وروى ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً، ثم قال: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104] إلى آخر الآية.

 

ثم قال: "ألا وإن أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يُجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح -أي عيسى -عليه السلام- وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" [رواه البخاري].

 

عباد الله: ومن الموقف يصيب الخلائق كرب شديد؛ فقد روى المقداد بن الأسود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يُلجمه العرق إلجاماً".

 

وأشار صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه[رواه مسلم].

 

وفي أثناء ذلك يكون أناس تحت الظل الذي يخلقه الله، تحت ظل العرش؛ كما أخبر المصطفى -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة وأبي سعيد -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأةٌ ذاتُ منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".

 

فإذا اشتد الأمر بالناس، وعظم بهم الكرب في هذا الموقف العظيم استشفعوا إلى الله -عز وجل- بالرسل والأنبياء أن ينقذهم مما هم فيه، ويُعجّل لهم فصل القضاء، وكل رسول يحيلهم على من بعده، حتى يأتوا نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم-، فيشفع فيهم، وهذه هي الشفاعة العظمى الخاصة بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام-.

 

وهي من المقام المحمود الذي وُعد به الرسول -عليه الصلاة والسلام- في قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء: 79].

 

فينصرف الناس بعد ذلك إلى فصل القضاء، وعندها يجازى كلُ إنسان بما كسب في الحياة الدنيا من خير أو شر: (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [القصص: 84].

 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه"[رواه مسلم].

 

وهناك تنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد، خيرها وشرها، وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان، وهذا إظهار لعدل الله -عز وجل-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].

 

وقال تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 8-9].

 

وقال تعالى: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ)[القارعة: 6-9].

 

فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، فمن ثقل ميزان حسناته كان من المفلحين الفائزين، ومن ثقل ميزان سيئاته -والعياذ بالله- كان من الخائبين الخاسرين، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في نونيته:

 

أفما تصدقُ أن أعمال العباد *** تُحط يوم العرض في الميزان

وكذلك تثقل تارة ويخف أخرى  *** ذاك في القرآن ذو تبيان

وله لسانٌ كفتان تقيمه  *** والكفتان إليه ناظرتان

ما ذاك أمراً معنوياً بل هو ال*** محسوس حقاً عند ذي الإيمان

 

عباد الله: ثم تنشر الدواوين بعد ذلك، وهي صحائف الأعمال: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ* فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا) [الإنشقاق(7-11].

 

ويقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ)[الحاقة: 25-26].

 

قال الله -تعالى-: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49].

 

ثم بعد ذلك يُعرض الناس على ربهم، وتقام عليهم الحجج، ويطّلعون على أعمالهم، ويقرؤون صحفهم: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 15-18].

 

قال الله -تعالى-: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الكهف: 48].

 

فكل عبد يعرض على ربه، ويتولى سبحانه وتعالى حسابه بنفسه وبدون واسطة، عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه تَرجُمانٌ، فينظر أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عملِه، وينظر أشْأَمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يدَيه فلا يرى إلا النّارَ تلقاءَ وجهِه، فاتَّقوا النَّارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ"[رواه البخاري].

 

فإن كان من أهل النجاة وهو الذي يؤتى كتابه بيمينه، تجاوز الله عن ذنوبه، ولم يناقشه الحساب وأدخله الجنة، ولم يعذبه بالنار.

 

فنسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من هؤلاء.

 

وأما من كثرت معاصيه -والعياذ بالله- وأوتي كتابه بشماله، فذلك الذي يناقش الحساب، ويُسأل عن كل صغيرة وكبيرة؛ فقد حدثت عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس أحدٌ يُحاسَبُ يومَ القيامةِ إلَّا هلك، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أليس قد قال اللهُ -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) [الإنشقاق: 7-8].

 

فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّما ذلك العرْضُ، وليس أحدٌ يُناقَشُ الحسابَ يومَ القيامةِ إلَّا عُذِّب"[رواه البخاري].

 

والمراد بالمناقشة: الاستقصاء في المحاسبة، والمطالبة بالجليل والحقير، وترك المسامحة.

 

وأما عن كيفية الحساب، فنؤمن بما ورد في القرآن عنها، وفي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا نزيد ولا نُنقِص، ولا نسأل عن أكثر مما ورد، فنؤمن أن الله -سبحانه وتعالى- يُذكرّ كل عبد بما قدمه في الحياة الدنيا من خير أو شر.

 

ويَشهد على العباد جميع من يستشهدهم الله عليهم، فتشهد الأرض بما حدث على ظهرها: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 1- 8].

 

فقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قَرَأَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيَةَ: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) [الزلزلة: 4] قال: "أتَدْرُون ما أخبارُها؟" قالُوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ".

 

قال: "فإِنَّ أخبارَها أنْ تَشهدَ على كلِّ عبدٍ وأمَةٍ بِما عَمِلَ على ظَهرِها، تَقولُ: عَمِلَ يومَ كذا، كَذا وكذا، فهذِهِ أخبارُها"[رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"].

 

فنسأل الله -تعالى- أن يرحمنا برحمته، وأن لا يفضحنا يوم العرض عليه، وأن يتجاوز عنا، ويغفر لنا ويسترنا في الدنيا، وأن يسامحنا يوم القيامة ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

بارك الله..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: ومما يشهده الله -عز وجل- على عباده أيضاً في ذلك اليوم أعضاء الإنسان: من الألسنة والأيدي والأرجل والجلود وغيرها.

 

وقد أخبر الله -عز وجل- أن أعداء الله يحاورون هذه الأعضاء، قال الله -تعالى-: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إذا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) [فصلت: 19-22].

 

روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قيل له: "كيف سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في النجوى؟ أي "مناجاة الله لعبده المؤمن في الآخرة"؟ قال: سمعته يقول: "يدنو أحدكم من ربه، حتى يضع كنفه عليه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول نعم. ويقول: أعملت كذا وكذا، فيقول: نعم. فيقرره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى صحيفة حسناته.

 

وأما الكفار فينادى على رؤوس الأشهاد: (هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18]".

 

عباد الله: وبعد الحساب والعرض والميزان ينصرف الناس من الموقف، ليمروا فوق الصراط، وهو الجسر المنصوب على جهنم.

 

وجاء في وصفه: أنه أدق من الشعر، وأحد من السيف، وكل إنسان سواء كان طريقه إلى الجنة، أو النار -والعياذ بالله- لا بد وأن يمر على الصراط.

 

والمرور على الصراط عام لجميع الناس: الأنبياء والصديقين والمؤمنين، ومن يحاسب ومن لا يحاسب إلا الكفار، فإنهم يسحبون من الموقف إلى النار مباشرة -والعياذ بالله-.

 

ومن استقام على صراط الله الذي هو الإسلام في الدنيا، استقام على هذا الصراط في الآخرة، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة: أن الناس يمرون عليه بقدر أعمالهم في الدنيا؛ فمنهم من يمر كانقضاض الكواكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يرمل رملاً، فميرون على قدر أعمالهم، حتى يمر المقلّ في العمل الصالح تخّر يد وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق أخرى.

 

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث طويل لأبي هريرة -رضي الله عنه-؛ حتى يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في آخر الحديث: "ويُضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز، ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذٍ: "اللهم سلّم سلّم".

 

إذا كان الرسل -يا عباد الله- وهم مضمون لهم الجنة، يقولون على الصراط: "اللهم سلم، اللهم سلم!".

 

فماذا يقول غيرهم؟!

 

ماذا يقول ذلك الذي لم يأتمر بأوامر الله -عز وجل- ولم ينته عن نواهيه؟!

 

ماذا يقول من ينام على معصية، ويقوم على معصية؟!

 

ماذا يقول ذلك المتهاون المتكاسل عن صلاته، يصلي واحدة ويتأخر عن الأخرى؟!

 

بل ماذا يقول من ينام غالباً عن صلاة الفجر! المؤذن يقول الصلاة خير من النوم، وهو يقول: "النوم خير من الصلاة" وإن لم يقلها بلسانه فإنه قد قالها بفعله؟!

 

وماذا يقول الآباء الذين تهاونوا في تربية أولادهم إلى حد التفريط، وانشغلوا هم في دنياهم؟!

 

بل ماذا يقول ذلك الموظف الذي يستغل منصبه لشخصه؟!

 

بل ماذا يقول علماء الأمة الذين تركوا النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؟!

 

وماذا يقول المرابي؟! وماذا يقول الظالم؟! وماذا يقول وماذا يقول؟!

 

اللهم سلم، اللهم سلم.

 

عباد الله: والمرور على الصراط هو الورود المذكور في قول الله -تعالى-: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا) [مريم: 71].

 

فإنه لا ينجو منه أحد؛ كما روى الإمام مسلم في صحيحه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها" فقالت حفصة: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)[مريم: 71].

 

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: قد قال الله -عز وجل-: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 72].

 

فأشار عليه الصلاة والسلام إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، فالجميع يمرون من فوق جهنم فوق الصراط، وينجي الله المؤمنين، ويذر الظالمين فيها جثيا.

 

ثم إذا عبر المؤمنون الصراط، وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتص من بعضهم لبعض، فإذا هُذّبوا أذن لهم في دخول الجنة؛ روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- فيما أخرجه البخاري في صحيحه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يَخْلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذّبوا ونقّوا أُذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفسُ محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا".

 

فنسأل الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يجعلنا من أهل الجنة؛ أنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها الفتن عنا، وتصلح بها ديننا، وتحفظ بها غائبنا، وترفع بها شاهدنا، وتزكي بها علمنا، وتبيض بها وجوهنا، وتلم بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل شيء.

 

 

 

المرفقات

إلى الدار الآخرة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات