رجوع الحجاج

ناصر بن محمد الأحمد

2015-03-05 - 1436/05/14
عناصر الخطبة
1/بعض ما يجب على الحجاج بعد رجوعهم 2/عودة بعض الحجاج إلى المعاصي بعد الحج 3/دور الحجاج العائدين بحج مبرور في نهضة المسلمين ودفع جراحاتهم 4/شدة الزحام في الحج وأسباب ذلك 5/بعض مشاكل الحجاج وأخطائهم 6/أقسام الحجاج الذين لم يقفوا بعرفة وحكم كل قسم 7/قصة حاج ترك بعض الصلوات في الحج وبعض ما يجب عليه

اقتباس

تخيلوا -أيها الإخوة- أن كل من حج، رجع من حجه بهذه الصورة، الوضيئة النيرة، تخيلوا أن كل من حج، رجع نقياً طاهراً، وأصبح عنصراً مستقيماً في المجتمع، كم كانت المكاسب التي تجنيها الأمة من موسم الحج كل عام، ولكن -ومع الأسف- أن كثيراً من الحجاج يرجعونإلى...

 

 

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

لقد انتهى موسم الحج، ورجع حجاج بيت الله الحرام، بعد أن أدوا فريضة الله التي فرضها على عباده، من استطاع إليه سبيلا.

 

نسأل الله -جل وعز- بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، أن يتقبل حج كل من حج، وأنهم قد رجعوا بذنب مغفور، وسعي مشكور، ورجعوا كيوم ولدتهم أمهاتهم، أنقياء أطهار، من المعاصي والآثام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".

 

وهذا هو المطلوب من الحاج، من كل من ذهب إلى تلك البقاع الطاهرة: أن يرجع وقد غسل نفسه من دنس المعاصي والمنكرات، رجع وقد جدد توبة صادقة مع الله -عز وجل- بأن يترك كل ما يغضب الله -سبحانه وتعالى-.

 

وإلا لو رجع الحجاج إلى نفس ما كانوا عليه قبل حجهم، لم يستفيدوا كثيراً، فقط أسقطوا عن كاهلهم الفريضة، لكن الفائدة المرجوة، والثمرة المطلوبة، والدور المناط بهم بعد عودتهم، إذا لم يحققوه، فالفائدة تكون قليلة.

 

المطلوب من الحاج الذي كان يدخن قبل حجه: أن يتقي الله -جل وعز-، ويتوب ويرجع وقد أدى حجه، وترك التدخين.

 

الحاج الذي كان يرابي قبل حجه، الواجب في حقه: أنه قد ترك الربا منذ أن عزم على الحج، وتحرى الكسب الطيب، ليحج به، ويرجع وقد عزم أن لا يعود لأكل الربا مرة أخرى.

 

الحاج الذي كان يظلم الناس بأي نوع من أنواع الظلم، سواء بأكل أموالهم، أو النيل من أعراضهم، أو أي شكل أو لون من أنواع ظلم عباد الله، هذا لا بد له: أن يتحلل من أصحاب هذه المظالم، ويتوب، ويرجع من حجه، ولا يفكر أن يعود لمثل هذا الطريق مرة أخرى.

 

وقل مثل هذا الكلام، على جميع الأخطاء والمخالفات والمنكرات، التي يفعلها الناس، رجالاً ونساءً.

 

تخيلوا -أيها الإخوة- أن كل من حج، رجع من حجه بهذه الصورة، الوضيئة النيرة، تخيلوا أن كل من حج، رجع نقياً طاهراً، وأصبح عنصراً مستقيماً في المجتمع، كم كانت المكاسب التي تجنيها الأمة من موسم الحج كل عام.

 

ولكن -ومع الأسف- أن كثيراً من الحجاج يرجعون إلى حياتهم الطبيعية تماماً، صاحب المعصية إلى معصيته، وصاحب الفسق إلى فسوقه، وصاحب الظلم إلى ظلمه، إلا من رحم الله -عز وجل-.

 

ولهذا المطلوب من هؤلاء الذين رحم الله -عز وجل-، هؤلاء الذين نستطيع أن نطلق عليهم بأنهم قد كسبوا الحج المبرور، هؤلاء عليهم دور عظيم بعد حجهم؛ لأن ليس كل حاج يرجع بالحج المبرور.

 

فأصحاب الحج المبرور عليهم دور عظيم لا بد أن يكونوا عناصر فعالة في مجتمعاتهم، لا بد أن يكونوا قدوات صالحة في الأوساط التي يعيشون فيها، لماذا؟

 

لأنهم قد طهروا أنفسهم، وغسلوا ما علقت بجوارحهم من الآثام، فبعد عودتهم لابد أن يؤثروا فيمن لازالت المعاصي عالقة بهم، سواء حجوا أم لم يحجوا.

 

أرجع فأقول: -أيها الإخوة- تخيلوا لو أن ولا نكون متفائلين كثيراً، لو أن فقط نسبة 10 أو 20 % فقط من الحجاج رجعوا بهذا المستوى، وقاموا بهذا الدور بعد عودتهم، الأب في بيته، والموظف في مكتبه، والمعلم في مدرسته، والتاجر في دكانه، وكل في موقعه.

 

وهذا الكلام لا يخص الحجاج من هذه البلاد فقط، بل حجاج الدنيا كلها، كم كانت تكسب أمة الإسلام، من الخير لو تحقق هذا؟

 

ولكن -مع الأسف- أن هذا لا يحصل، أنا متأكد لو أن جزءًا من هذا كان يحصل في هذا التجمع السنوي، لحسب أعداء هذه الشريعة للحج ألف حساب، لكنهم يعلمون، أنها عبارة عن وفود تذهب، ونفقات تصرف، وجهود وطاقات، ولا يستثمر هذا التجمع الذي يفترض فيه أن يرهب أعداء الله.

 

إذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لن يغلب اثني عشر ألف من قلة".

 

ما بالكم بتجمع يحشد سنوياً بما يقارب المليونا مسلم؟ أليس المفترض في مثل هذا التجمع أن يهز الدنيا، ويرهب البعيد قبل القريب؟

 

فيا حبذا لو استثمر علماء الأمة، وأهل الحل والعقد فيها، ووجهاء وعقلاء الناس من كل جهة، والدعاة وطلاب العلم، بجميع مستوياتهم وطاقاتهم، واستفيد من هذه الحشود في محاولة صبها في بوتقة الإسلام العام.

 

أيها المسلمون: إن جراحات هذه الأمة كثيرة، وآلامها عميقة، وأكلت القصعة كثر، والمنافقون صاروا لا ينافقون، والذي كان يسرق في ظلمة الليل، صار يبلع في وضح النهار، وهذا حال هذه الأمة الآن، من أقصاها إلى أقصاها، فإذا لم يحاول المخلصون إنقاذها، بطريق الاستفادة من كل طاقة، ومن كل تجمع، ومن كل سبيل مشروع، فإن الجرح يصير جراحات، والألم آلام.

 

ففي أرض أفغان الشهيدة مأتم *** فهل تسمع الدنيا الضجيج وتُبصر

وفي مصر آنّاتٌ ووطأة غاشم  *** وليل وآهات ودمع وأقبر

وفي دار هارون الرشيد زلازل  *** وآثار مجدٍ أحرقوه ودمروا

حنانيك يا بغداد صبرا فربما  *** تباح لهذا الكفر سيل مطهر

لماذا دموع الحزن لست وحيدة  *** وأنت على الأيام عز ومفخر

فكل بلاد المسلمين مقابر  *** وهم صور الأحجار تنهى وتأمر

تماثيل لكن ناطقات وإنما  *** بلاء البلاد الناطق المتحجر

 

فنسأل الله -عز وجل- أن يهيأ لهذه الأمة من ينقذها، وأن يعيد الحق إلى نصابه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه ...

 

أما بعد:

 

فمن حج منكم -أيها الإخوة- في هذا العام، فقد شهد زحاماً شديداً، خلافاً لما تعود في أعوام مضت.

 

وهذا يعود إما لكثرة الحجيج في هذا العام، وإما لعدم ضبط سير حركة الحجاج، وإما للأمرين معاً.

 

فلقد رأينا وشاهدنا وسمعنا أحوالاً عجيبة حصلت في هذا العام، فمن الحجاج من لم يبت في مزدلفة يشكو شدة الزحام، وعدم تحرك السيارات.

 

ومنهم من لم يقف بعرفة، وشكواه نفس الشكوى.

 

ومنهم من ترك مناسك أخرى، للسبب نفسه أو لغيره.

 

بل والأعجب من هذا: أنه جاءني رجل بالأمس هنا يسألني، فيقول: بأنه ركب الباص المخصص للحملة التابع هو لها من عرفات بعد غروب الشمس، فذكر لي بأنه لم يصل إلى منى لرمي حجرة العقبة يوم العيد إلا بعد صلاة العشاء.

 

أي بقى جالساً في السيارة هو وأصحابه أكثر من 24 ساعة لقطع مسافة أقل من عشرة كيلو مترات.

 

لكن العجيب في سؤاله ليس هنا، الذي أدهشني عندما، قال لي: بأنه لم يتمكن من أن يصلي أي فرض في ذلك اليوم، فترك يوم العيد، صلاة الفجر والظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ورمى جمرة العقبة بعد صلاة العشاء، وهو لم يركع لله ركعة في ذلك اليوم -فإنا لله وإنا إليه راجعون-.

 

وأمثال هذا المسكين كثير، والذين يذهبون ويتعبون ولا يرجعون بحج أيضاً أعداد غير قليلة.

 

فلا أدري نحمل من أخطاء هؤلاء؟

 

نحمل من عدم تمكن هؤلاء من أداء حجهم هل نحملهم هم أنفسهم؛ لأنهم ما سألوا، ولأنهم ذهبوا لأداء عبادة، ولم يتعلموا أحكامها؟ أم نحمل أصحاب الحملات الذين قصروا في توجيههم ونصحهم وإرشادهم، ولم يعلموهم طريقة الحج الصحيحة؟ أم نحمل الدعاة وطلاب العلم الذين لم يكن لهم ذلك الدور الفعال في مخالطة الحجاج، وتنبيههم على أخطائهم؟

 

لو اشتكى حاج مثلاً من قلة النظافة هناك، وأنه لم يُطق جو منى بسبب الروائح الكريهة، وكثرة النفايات، وعدم تنظيفها، إلا في آخر يوم، ربما، نقول: ربما يكون هناك مسوغ.

 

أو حاج آخر يشتكي من ندرة المياه، وأنه كان يعاني المعاناة الشديدة لحصوله على الماء إما لشربه أو غسيله، نقول أيضاً ربما يكون هناك مسوغ .

 

وثالث يشتكي بأنه لم يجد مكاناً بسبب الشبك والحجز الذي أخذت فيه أغلب أرض منى، نقول: ربما أيضاً يكون هناك مسوغ.

 

ورابع يشتكي بأنه قد تعب كثيراً، وكلما سلك طريقاً رآه مقفلاً واضطر إلى أن يسلك طريقاً آخر، ورآه أيضاً مقفلاً، وهكذا هذا أيضاً ربما يكون له مسوغ.

 

وآخر يشتكي بأنه لم يجد مكاناً يقضي فيه حاجته، يقول بحثت في مزدلفة عن مكان أقضي فيه حاجتي فلم أجد، نقول أيضاً ربما يكون له مسوغ.

 

لكن أن يذهب الحاج ويخرج من بلده ويصل إلى هناك، ويعاني الكثير والكثير من المشقات، والنفقات، ثم لا يرجع بحج، بسبب أنه لم يُهيأ له الوصول إلى عرفة، فهذا أمر في الحقيقة صعب وعسير.

 

فنقول للذي لم يبت في مزدلفة: بأن المبيت في مزدلفة واجب من واجبات الحج، ومن ترك واجباً من واجبات الحج فكما يقول أهل العلم، بأن عليه دماً يذبحه في مكة ويوزعه على فقراء الحرم.

 

وهذا الحكم ينطبق على كل من ترك أي واجب من واجبات الحج، إذا كان مفرطاً،  أو مهملاً، أو لم يهتم ذلك الاهتمام المطلوب.

 

لكن من بذل كل ما في وسعه وطاقته لكن غٌلب عليه، ولم يتمكن من تحقيق ذلك الواجب إما بسبب الزحام الشديد الخارج عن إرادته أو غيره، فإن الواجب يسقط عنه ولا شيء عليه، وحجه صحيح.

 

أما بالنسبة للذين لم يقفوا بعرفة، فهؤلاء قسمان:

 

قسم لم يصلوا إلى أرض عرفات إلا بعد غروب الشمس، فهؤلاء لو وقفوا ولو بعد غروب الشمس فحجهم ولا شيء عليهم؛ لأن وقت عرفات ممتد إلى فجر يوم العيد؛ لحديث عروة بن مضرس الطائي قال: يا رسول الله، إن جئت من جبلي طيء، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفه قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد أتم حجه، وقضى تفثه"[رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم وإسناده صحيح].

 

القسم الثاني من الحجاج هذا العام: الذين بقوا في الباصات ينتظرون أن توصلهم الباصات إلى عرفات، فغربت عليهم الشمس ولم يصلوا بعد، فصارت النفرة، فعكست السيارات وجهتها، ورجعت إلى مزدلفة، وهم باقون في السيارات، ولم يدخلوا عرفة أصلاً، فهؤلاء لا حج لهم؛ لأنهم قد تركوا ركناً من أركان الحج، والوقوف في عرفة ركن، لا يجبر بدم ولا بغيره.

 

فمن كان في حقه حجة الإسلام، فعليه: أن يرجع من السنة القادمة، ويعيد حجه؛ لأنه لم يحج، فإنه كان من الواجب عليهم أن يتصرفوا، وذلك بأن ينزلوا من السيارات، ويواصلوا بقية الطريق مشياً على أقدامهم، حتى يصلوا عرفات، ولا ينتظروا فرج من يأتي وينظم لهم حركة السيارات.

أما عن صاحبنا هذا الذي ترك الصلوات، فإني استغرب جداً كيف يصل الجهل ببعض الناس إلى هذا الحد.

 

الصلاة -يا أخي- لا يجوز لك تركها، بل ولا حتى تأخيرها عن وقتها لأي سبب من الأسباب، تصلى بالحالة والوضع الذي أنت فيه.

 

فهذا الذي بقى في الحافلة أكثر من ثلاثين ساعة من عرفات إلى منى، بالتأكيد هناك فترات تكون السيارة واقفة تماماً، تنزل وتصلى ولو لم يكن معك ماء، فالتراب موجود، تتيمم وتصلي، ولو نفرض أنك لم تتمكن من النزول من السيارة لأي ظرف من الظروف، تصلي وأنت جالس مكانك في السيارة، وهكذا: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16].

 

لكن أن تترك الصلاة بسبب الزحام، فهذا عذر لا يقبل، وعليه التوبة إلى الله -عز وجل- والاستغفار، وقضاء جميع الصلوات التي تركها.

 

اللهم علمنا ما ينفعنا ...

 

 

المرفقات

الحجاج

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات