رجل حيزت له الدنيا (2)

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/أهمية القناعة وفضلها 2/المفهوم الخاطئ للقناعة 3/لا منافاة بين القناعة والعمل 4/الجمع بين النصوص الآمرة بالزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة 5/الغنى الحقيقي 6/الزهد: حقيقته وماهيته 7/ نماذج رائعة في الزهد

اقتباس

الزهد في الدنيا أن تكون قيمتها في قلب المؤمن قليلة جدا في مقابل الآخرة، فلا مجال للتنازع بين الدنيا والآخرة، صفاء قلبه، وكمال حبه لله، وتعظيمه له ولأحكامه، قلبه خالص لله -تعالى-. يقول ابن القيم في حقيقة الزهد: "وليس المراد رفضها -أي طيبات الدنيا-، فقد كان سليمان وداود -عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

تحدثنا فيما مضى عن حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح منكم آمنا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".

 

وبينا أن الحديث يؤكد على عظم النعم التي يعيشها الإنسان، وبالرغم من إحاطة تلك النعم بالإنسان من كل جانب إلا أنه في كثير من الأحيان لا يشعر بها، ولا يستشعرها، وبالتالي فإنه كثيرا ما يتسخط، ويحتقر الحال الذي هو فيه، ويظن أنه مفلسا، لا يملك شيء في هذه الدنيا.

 

مع أنه لو وقف قليلا، وتأمل في هذا الحديث لأدرك أنه يملك الدنيا بحذافيرها، ما دام يملك أصول النعم، يملك الصحة والعافية، ويملك الأمن على النفس والدين والعقل والمال والعرض، وهو في بيته وبين أهله وعياله، وعنده القوت الذي يكفيه في يومه وليلته.

 

ثم تناولنا بعضا من مقتضيات الحديث؛ ومنها القناعة: القناعة التي يحتاج إليها العبد ليحصل على السعادة النفسية، وراحة البال؛ لأن لهف الإنسان وراء الدنيا بكل حواسه ومشاعره، مع نسيانه للآخرة، مهلكة قاتلة.

 

ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من نفس لا تشبع؛ كما ورد في صحيح مسلم من حديث زيد بن أرقم، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها".

 

ولقد جاء في صحيح الجامع عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن التبقر في المال" أي شدة التوسع في المال طلبا للدنيا بحيث يؤدي هذا التوسع إلى اقتحام الحرام، ورقة الدين في القلب، ونسيان الآخرة، وتشتت الهموم.

 

معاشر المسلمين: لقد جاءني أكثر من أخ من الأفاضل بعد الخطبة الماضية، يشيرون إلى احتمال ورود مفهوم عند البعض، يخالف مقصود الكلام عن انفلات الدنيا، لمن استشعر أصول النعم، ودرب نفسه على القناعة، واجتناب الجشع والنهب والطمع، والزيادة من الشهوات فوق حاجته، ولو من الحرام.

 

هذا المفهوم الخطأ هو أن يظن أن في الخطبة دعوة إلى ترك العمل، والميل إلى التراخي والكسل من باب الزهادة والقناعة، وهو مفهوم خاطئ، فالشعور بامتلاك الدنيا حين استحضار منة الله على الإنسان، لا ينافي السعي في الأرض برفق، دون نسيان للآخرة، فالله -تعالى- قال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15].

 

وقال سبحانه: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) [نوح: 19-20].

 

وقال سبحانه: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [النازعات: 30-33].

 

فالله الذي خلق الناس لعبادته يريد من عباده الصالحين أيضا أن يعمروا الدنيا بالخير، وأن يسعوا في مناكب الأرض، وأن يأكلوا من رزقه، وأن يستمتعوا بالدنيا، ولكن برفق، وليس على حساب الآخرة.

 

قال سبحانه: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الأعراف: 32].

 

يقول ابن القيم -رحمه الله- مبينا الجمع بين هذه الآية وبين آيات أخرى حثت على الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، يقول: "إن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة، والله -تعالى- قد ندب إليها، فقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ)[الأعراف: 32].

 

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 14].

 

وإن ما قلنا: إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوب:

 

الأول: أن يتصدق بها.

 

والثاني: أن يتقوى بها على طاعة الله -تعالى-.

 

والثالث: أنه إذا انتفع بها، وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتيسير الله -تعالى-، وإعانته، صار ذلك سبب لاشتغال العبد بالشكر العظيم.

 

ولذلك كان الصاحب بن عباد يقول: "شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب".

 

يقول العبد الحمد لله من أقصى قلبه، إذا شرب الماء البارد في الصيف.

 

فالهمة العالية في الخير مطلب من مطالب الدين، وقد جاء في القرآن: (وَسَارِعُواْ)[آل عمران: 133]. (سَابِقُوا) [الحديد: 21].

 

(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[المطففين: 26].

 

(فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148].

 

مسارعة، سباق، تنافس، كلها، وغيرها أفعال أمر ترفع في المؤمن الهمة، والنشاط في الخير.

 

وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".

 

"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل" فإن لو تفتح عمل الشيطان.

 

وقد صح في السنن من حديث أبي وهب الجشمي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها: حارث وهمام".

 

جاء في شرع الحديث في قوله: "حارث وهمام" الأول: "حارث" بمعنى كاسب.

 

والثاني: "همام" على وزن فعال، إن هم نشط، وقام، وبادر.

 

فالمفهوم من الحديث: "من أصبح منكم آمنا في سربه" إلى آخر الحديث.. هو مفهوم متعلق بمشاعر القلب، لا بأفعال الجوارح.

 

ولذلك كان الغني بحقيقته، هو غنى النفس لا غنى المال؛ كما قال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيحين قال: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس".

 

فالمفهوم الذي يراد إيصاله متعلق بالنفس، أي أن المؤمن إذا صح إيمانه، فلا بد أن يستشعر في نفسه نعمة الله عليه، لا بد أن يؤمن بأنه لو حصلت له أصول النعم الذي ذكرت في الحديث، فهو كمن حاز الدنيا كلها.

 

وهذا الشعور العظيم إذا أضيف إليه القناعة، فلا يلزم منه أن يقعد عن العمل، ولا يكتفي بأقل مجهود، وإنما المقصود أن يهنأ بهذا الشعور، الشعور بنعمة الله عليه، وفضل الله عليه، شعور قلبي إيماني، يحس به بقوة، فيحمد الله، ولو على أقل الأشياء في عين الناس؛ لأنها في عينه دائما كثيرة وكبيرة.

 

هذه هي القناعة في أحس صورها، قناعة القلب، سيان عنده، جاءته الدنيا أو أعرضت عنه، قلبه دائما مع الله، واثقا بما عنده، راضا بقسمه، صابرا محتسبا، متمثلا قوله تعالى: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد: 23].

 

ولذا تراه يبتعد أشد البعد عن التفاخر، ويشعر دون غيره من الناس بامتلاكه للدنيا، ما دام آمنا معافى، وعنده قوت يومه، ويحزن على الذين يبيعون آخرتهم بعرض من الدنيا، زائد عن حاجتهم، رشاوي، وقمار، وربا، واحتيال... لا يشبعون!!.

 

فالعبد المؤمن صحيح المنهج، هو الذي يقنع بقضاء الله، ويرضى به، وفي الوقت ذاته يسعى في الأرض، ويتفنن في بذل أسباب الرزق، بما يرضي ربه.

 

قلبه متوكل تمام التوكل، لا على سعيه، ولا على علمه وحنكته، ولا على علاقاته، بل على الله وحده لا شريك له.

 

فالتوكل مقره القلب؛ لأن القلب إذا صح يؤمن بأن الأقدار من رزق، أو شفاء، أو نجاح، كلها بيد الله، فلماذا إذاً يتعلق القلب بغيره بتحقيق أي مطلوب؟

 

قال الله -تعالى- فيما يرويه صلى الله عليه وسلم عن ربه: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعك الأقلام، وجفت الصحف".

 

هذا فيما يتعلق بالقلب، أما بذل السبب فهو لازم شرعا وعقلا، لتحقيق أي مطلوب.

 

أيها الإخوة: إن المؤمن هو الذي يشعر في قلبه بأنه يملك الدنيا، ولكنه في نفس الوقت يتقن في عمله، ويطمح في أن يكون الأفضل فيما هو فيه من تخصص، أو مهنة، أو تجارة، أو حرفة، يفعل ذلك لماذا؟

 

لأنه يدرك أن الله يحب في المؤمن المتقن القوة والنشاط، لا الضعف والبلادة والكسل.

 

ويفعل ذلك كي ينفع أمته، وينفع نفسه وأهله، ويصون وجهه عن سؤال الناس.

 

صح عن الإمام أحمد مع ما اشتهر من زهده وورعه أنه قال لمن سأله عن حديث: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" قال له: ألزم السوق، وقال لآخر: أستغني عن الناس، فلم أرى مثل الغنى عنهم.

 

وقال أيضا: ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله، وأن يعودوا أنفسهم التكسب، ومن قال بترك التكسب فهو أحمق يريد تعطيل الدنيا.

 

وقال أيضا: من جلس ولم يحترف دعته نفسه إلى ما في أيدي الناس.

 

وقد قال سعيد بن المسيب عند موته وقد ترك مالا: "اللهم إنك تعلم أني لم أجمعه إلا لأصون به ديني".

 

وجاء الأمر في قوله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال: 60].

 

وذاك بلا شك لا يتم إلا بالمال، المهم من هذا كله موطن القلب، حين السعي في طلب أمر من أمور الدنيا، مما هو لا بد منه، أي هو موطن القلب.

 

حقيقة، أي هو موطنه؟ أهو مع الله -تعالى- خوفا ورجاءً وتوكلا وتعظيماً؟ أم هو في شعب الدنيا وأعراضها تدور به حيث دارت، وتقيمه وتقعده؟!

 

فهذا الأخير لا يمكن أن يحس بأنه يملك الدنيا بحذافيرها، كما بين صلى الله عليه وسلم، بل الدنيا هي التي تملكه.

 

أسأل الله لي ولكم الرشاد، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله أصحابه ومن والاه.

 

وبعد:

 

فقد أخرج النووي من حديث سهل بن سعد بسند حسن قوله صلى الله عليه وسلم: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس".

 

الزهد في الدنيا أن تكون قيمتها في قلب المؤمن قليلة جدا في مقابل الآخرة، فلا مجال للتنازع بين الدنيا والآخرة، صفاء قلبه، وكمال حبه لله، وتعظيمه له ولأحكامه، قلبه خالص لله -تعالى-.

 

إن هذا الحديث كحال الحديث السابق لن يشكل فهمه على أحد إذا عرف أهمية إصلاح عمل القلب، أثناء معالجة الدنيا وحطامها.

 

يقول ابن القيم في حقيقة الزهد: "وليس المراد رفضها -أي طيبات الدنيا-، فقد كان سليمان وداود -عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء ما له مال.

 

وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- من أزهد البشر على الإطلاق، وله تسع نسوة.

 

وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان -رضي الله عنهم- من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال الكثيرة.

 

وكان الحسن بن علي -رضي الله عنه- من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة محبة للنساء، ونكاحا لهن.

 

وكان عبد الله بن المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير.

 

إذاً، فالزهد في حقيقته، هو كما قال الحسن -ضي الله عنه-: "أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصب، ترجو رحمة الله، ترجو أن يرفع الله من درجاتك".

 

فالزاهد من كانت الدنيا في يده لا في قلبه، الزاهد من كانت رؤيته للآخرة، وهي غيب أقوى وأوضح من رؤيته للدنيا التي أمام عينيه.

 

أسأل الله -تعالى- أن يرزقنا حبه، وحب من يحبه...

 

 

 

 

المرفقات

حيزت له الدنيا (2)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات