رجب بين البدع والقرب

أحمد حسين الفقيهي

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ الأشهر الحرم وفضيلتها 2/ سبب تسمية رجب بهذا الاسم وحال العرب في تعظيمه 3/ مما أحدثه الناس في رجب الحرام 4/ واجبنا تجاه الأشهر الحرم

اقتباس

لقد اختص بعض الناس شهر رجب بعض الخصائص والعبادات التي لا تصح ولا تعرف إلا في هذا الشهر، وغالب هذه العبادات يستند العاملون لها بأدلة وآثار تقوي في نظرهم فعالهم، وهي عند التحقيق أوهى من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، ومن باب عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه، واقتداء بحذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- الذي كان يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الشر مخافة أن يقع فيه

 

 

 

عباد الله: إن من حكمة الله -سبحانه وتعالى- أن ميز وفاضل بين الليالي والأيام، وبين الشهور والأعوام، والمولى سبحانه يخلق ما يشاء ويختار، وله الحكمة البالغة في ذلك، حيث يجد العباد في وجوه الخير، ويكثروا من الأعمال الصالحة اغتناماً واستغلالاً لتلك الأزمان. 

أيها المسلمون: من الأزمان الفاضلة أربعة أشهر في العام حرمها المولى سبحانه، واختصها ببعض الخصائص دون غيرها من الأشهر يقول سبحانه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ) [التوبة:36]

عن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" أخرجه الشيخان.

فهذه الأشهر الأربعة أشهر حرم بنص كتاب الله تعالى، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وسميت بالأشهر الحرم؛ لأن انتهاك المحارم فيها أشد من انتهاكها في غيرها، والذنب فيها يعظم وكذلك الأجر، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "اختص الله أربعة أشهر، جعلهن حرم، وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم".

عباد الله: ومن هذه الأشهر الحرم شهر رجب، وقد سمي رجباً لأنه كان يرجب في الجاهلية أي يعظم، قال البيهقي -رحمه الله-: "كان أهل الجاهلية يعظمون هذه الأشهر الحرم، وخاصة شهر رجب فكانوا لا يقاتلون فيه، وسبب تسميته رجب مضر؛ لأن قبيلة مضر تعظم شهر رجب تعظيماً شديداً، وتزيد في تعظيمه واحترامه أكثر مما يفعل الآخرون، فلا تغير هذا الشهر عن موعده بل توقعه في وقته بخلاف باقي العرب الذين كانوا يغيرون ويبدلون في الشهور بحسب حالة الحرب عندهم، وهو المذكور في قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ) [التوبة:37].

عباد الله: لقد اختص بعض الناس شهر رجب بعض الخصائص والعبادات التي لا تصح ولا تعرف إلا في هذا الشهر، وغالب هذه العبادات يستند العاملون لها بأدلة وآثار تقوي في نظرهم فعالهم، وهي عند التحقيق أوهى من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، ومن باب عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه، واقتداء بحذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- الذي كان يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الشر مخافة أن يقع فيه، من أجل هذا كله يحسن بنا أن نتطرق لبعض البدع والمخالفات التي استحدثها بعض الناس في هذا الشهر.

أيها المسلمون: مما أحدث في هذا الشهر المحرم استحباب صيامه كله، أو صيام أيام معينة منه، والناس في صيام هذا الشهر على أقسام: من الناس من يصوم اليوم الأول والثاني والثالث منه استدلالاً بالحديث الذي رواه الطبراني وضعفه العلماء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام ثلاثة أيام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كتب الله له عبادة تسعمائة سنة، وقيل عبادة ستين سنة".

وصنف آخر من الناس يصوم يوم السابع فقط ويصلي في ذلك اليوم صلاة الرغائب ومنهم من يصوم الشهر كله، ولقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ينهى عن الصيام في رجب إلا لمن عادة، وكان يضرب أكف الرجال حتى يضعونها في الطعام، ويقول: "ما رجب، إن رجباً كان يعظمه أهل الجاهلية، فلما كان الإسلام ترك"، ورأى أبو بكرة -رضي الله عنه- أهله يتهيئون لصيام رجب، فقال لهم: "أجعلتم رجب كرمضان، وألقى السلال".

بل قال ابن تيمية -رحمه الله- تعالى: "وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديثه كلها ضعيفة بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى فيها الفضائل بل عامتها من الموضوعات المكذوبات"، وأما ابن حجر -رحمه الله- فيقول: "لم يثبت في شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام أيام معينة منه، وفي قيام ليلة معينة فيه حديث صحيح يصلح للحجة" أ. هـ.

أيها المسلمون: كان أهل الجاهلية يخصون شهر رجب بالذبائح لأصنامهم وآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، ومنها الذبيحة المسماة العتيرة ويسميها بعض الناس الرجبية لأنهم يذبحونها لآلهتهم في رجب، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك ونهى عنه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا فرع ولا عتيرة" متفق عليه، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "ليس في الإسلام عتيرة، إنما كانت العتيرة في الجاهلية، كان أحدهم يصوم رجباً ويعتر فيه".

عباد الله: ومن البدع التي أحدثت في شهر رجب صلاة الرغائب، وتسمى أيضاً الصلاة الأنثى عشرية، وتصلى في أول ليلة جمعة من شهر رجب بين العشائين أو بعد العشاء بصفات مخصوصة وسور وأدعية معينة، وقد قال عنها ابن تيمية -رحمه الله- تعالى: "وأما صلاة الرغائب فلا أصل لها، بل هي محدثة، فلا تستحب لا جماعة ولا فرادى، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام أو يوم الجمعة بصيام، وأما الأثر الذي ذكر فيها فهو كذب موضوع باتفاق العلماء، ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلاً" أ. هـ.

أيها المسلمون: ومن الصلوات التي ابتدعت في رجب صلاة ليلة المعراج حيث تصلى ليلة السابع والعشرين من رجب ويستدلون لها بأثر جاء فيه: "في رجب ليلة كتب للعامل فيها حسنات مائة سنة وذلك لثلاث بقين من رجب".رواه البيهقي في الشعب، وضعفه ابن حجر -رحمه الله-، والمختصر المفيد حول هذه الصلوات ما ذكره ابن رجب -رحمه الله- تعالى حيث قال: "فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به" أ.هـ.

عباد الله: يحرص بعض الناس على الاعتمار في رجب، اعتقاداً منهم أن للعمرة فيه مزيد مزية وهذا لا أصل له، ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه اعتمر في رجب، وأما ما رواه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، فقد قالت عنه عائشة -رضي عنها-: "يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر -صلى الله عليه وسلم- عمرة إلا وهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط" أ.هـ

قال العلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله-: "وأما تخصيص بعض أيام رجب بأي شيء من الأعمال كالزيارة وغيرها فلا أصل له"، ثم قال: "ولهذا أنكر العلماء تخصيص رجب بكثرة الاعتمار فيه، وأضاف: "لكن لو ذهب الإنسان للعمرة في رجب من غير اعتقاد فضل معين بل كان مصادفة، أو لأنه تيسر له في هذا الوقت فلا بأس بذلك" ا.هـ.

أيها المسلمون: مما اعتاد بعض الناس فعله في رجب إخراج الزكاة ظناً أن إخراجها في رجب أفضل من إخراجها في غيره، قال ابن رجب -رحمه الله-: "ولا أصل لذلك في السنة، ولا عرف عن احد من السلف"، ثم قال: "وإنما تجب الزكاة إذا تم الحول على النصاب، فكل أحد له حول يخصه بحسب ملكه النصاب، فإذا تم حوله وجب عليه إخراج زكاته في أي شهر كان" أ.هـ.

بارك الله لي ولكم.

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

عباد الله: من البدع المشهورة في شهر رجب الاحتفال بليلة السابع والعشرين من هذا الشهر اعتقاداً أنها ليلة الإسراء والمعراج، وهذا الاحتفال بدعة ولا يجوز وذلك من وجوه:

الأول: أن أهل العلم مختلفون في تحديد وقوع هذه الحادثة العظيمة اختلافاً كبيراً، ولم يقم دليل على تعيين الليلة التي وقع فيها، ولا على الشهر الذي وقعت فيه.

الثاني: لو ثبت تعيين هذه الليلة لم يجز لنا أن نحتفل فيها، ولا أن نخصها بشيء لم يشرعه الله ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

الثالث: أنه يحصل في تلك الليلة وذلك الاحتفال أمور منكرة، كالاجتماع في المساجد وإيقاد الشموع والمصابيح فيها، وقد قال العلامة ابن باز -رحمه الله- تعالى: "الاحتفال بليلة (27) من رجب اعتقاداً أنها ليلة الإسراء والمعراج، كل ذلك بدعة لا أصل لها في الشرع، وليلة الإسراء لم تعلم عينها، ولو علمت لم يجز الاحتفال بها، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتفل بها، وهكذا خلفاؤه الراشدون وبقية أصحابه -رضي الله عنهم-، ولو كان ذلك سنة لسبقونا إليها، والخير كله في إتباعهم والسير على منهاجهم" الخ -رحمه الله-.

أيها المسلمون: إن الواجب في مثل هذه الأشهر الحرم ترك ظلم النفس فيها بترك المحرمات وتجنب المنهيات، والاستزادة من فعل الخيرات والانكباب على الطاعات، روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا دخل رحب قال: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان"، قال ابن رجب -رحمه الله- عقب هذا الحديث: "وفيه دليل على استحباب الدعاء بالبقاء إلى الأزمان الفاضلة، لإدراك الأعمال الصالحة فيها فإن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيراً، وخير الناس من طال عمره وحسن عمله".

عباد الله: جدير بمن سود صحيفته بالذنوب أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر، وحري بمن ضيع عمره في البطالة أن يغتنم في هذا الشهر ما بقي من العمر.

 

بيض صحيفتك السوداء في رجب *** بصالح العمل المنجي من اللهب
شهر حرام أتى من أشهر حـرم *** إذا دعا الله داع فيه لم يخـب
طوبى لعبد زكـى فيه له عمـل *** فكف فيه عن الفحشاء والريب

 

ثم صلوا رحمكم الله على الهادي البشير.

 

 

 

المرفقات

بين البدع والقرب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات