رجب بداية الاستعداد لرمضان

حامد الشثري

2025-01-03 - 1446/07/03 2025-01-05 - 1446/07/05
عناصر الخطبة
1/تفضيل الله بعض الزمان على بعض 2/الحكمة من تحريم الأشهر الحرم 3/رجب شهر الإعداد لرمضان 5/الحث على التوبة 5/من صور الظلم في شهر رجب

اقتباس

كَانَ لِشَهْر رَجَبٍ عَنْد اَلسَّلَفِ مَكَانَةٌ فِي اِجْتِنَابِ اَلْمَعَاصِي وَالِازْدِيَادِ مِنْ اَلطَّاعَاتِ؛ اِسْتِعْدَادًا لِشَهْرِ اَلصِّيَامِ رَمَضَان، وَكَأنَ اَلسَّنَةَ شَجَرَةٌ تُظْهِرُ أَوْرَاقَهَا فِي شَهْرِ رَجَبْ، وَتُثْمِرُ فِي شَعْبَان، وَيَقْطِفُ اَلنَّاسُ ثِمَارَهَا فِي شَهْرِ رَمَضَان، بَلْ عَدَّهُ بَعْضُ اَلسَّلَفِ بِدَايَة...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ اَلْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسَنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مِنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَلَا مُضِل لَهُ، وَمِنْ يُضللْ فَلَا هَادِي لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، جَعْلَ عِدَّةَ اَلْأَشْهُرِ اِثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِهِ، يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهْ وَرَسُولُهُ، أَخْبَرَنَا أَنَّ اَلزَّمَانَ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خَلْقَ اَللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّ اَلسَّنَةَ اِثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم، أَحَدُهَا رَجَبْ مُضُر، صَلَّى اَللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أَمَّا بعد: مِنْ حِكْمَةِ اَللَّهِ -تَعَالَى- أَنْ فَضَّلَ أَيَّامًا عَلَى أَيَّام، وَأَشْهُرًا عَلَى أَشْهُرٍ، وَأَزْمَانًا عَلَى أَزْمَانٍ، وَجَعْلَ بَعْضَ اَلْأَشْهُرِ بَوَّابَةً لِمَوَاسِمِ اَلْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَطَرِيقًا إِلَيْهَا، فَمِنْ اِغْتَنَمَ اَلْفُرْصَةَ وَاتَّبَعَ اَلسَّنَةَ أَفْلَحَ، وَمِنْ غَلَا أَوْ جَفَا ضَلَّ وَتَنَكَّبَ؛ لِذَا فَإِنَّ الأُمَّةَ الوسط أمة مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، هِيَ خَيْرُ اَلْأُمَمِ وَأَزْكَاهَا، بِمَا فَضَّلَهَا اَللَّهُ وَحَبَاهَا، فهي الوسط بَيْنَ اَلْأُمَمِ، وَالنُورُ فِي اَلظُّلْمِ.

 

أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ: جَعْلُ اَللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِنْدَهُ يَوْمَ خَلْقِ اَلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ اِثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةُ حرمٍ ثَلَاثٍ مُتَوَالِيَاتٍ، ذُو اَلْقِعْدَةِ وَذُو اَلْحُجَّةِ وَشَهْرِ اَللَّهِ اَلْمُحَرَّمِ، وَشَهْرٌ مُنْفَرِدٌ أَلَّا وَهُوَ شَهْرُكُمْ هَذَا شَهْرُ رَجَبْ.

 

مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ بِعِبَادِهِ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ اَلْأَشْهُرَ اَلْحُرَمَ، وَجَعْلَهَا مُقَدِّمَةً لِلطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَمِنْ اَلْحِكْمِ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ اَلْأَشْهُرِ أَنَّ رَجَبْ يَسْبِقُ شَعْبَانَ وَرَمَضَان، فَتَكُون اَلْفُرْصَةُ لِلشَّخْصِ لِلنَّأْي بِنَفْسِهِ عَنْ اَلْمَعَاصِي؛ اِسْتِعْدَادًا لِتِلْكَ اَلْأَيَّامِ اَلَّتِي فَرَضَ اَللَّهُ فِيهَا اَلصِّيَام، كَمَا أَنَّ اَلْحَجَّ يَكُونُ فِي مُنْتَصَفِ اَلْأَشْهُرِ اَلْحُرُمِ اَلثَّلَاثَة، فَتَكُون اَلنَّفْسُ أَنْقَى وَمُتَفَرِّغَةً لِلطَّاعَةِ.

 

قَالَ اِبْنْ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اَللَّهُ-: "شَهْرُ رَجَبٍ مِفْتَاحُ أَشْهُرِ اَلْخَيْرِ"، وقَالَ قَتَادَة فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة: 36]: "فَإِنَّ اَلظُّلْمَ فِي اَلْأَشْهُرِ اَلْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنْ اَلظُّلْمِ فِيمَا سَوَّاهَا، وَإِنَّ كَانَ اَلظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اَللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ".

 

أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ كَانَ لِشَهْرِ رَجَبٍ عَنْد اَلسَّلَفِ مَكَانَةٌ فِي اِجْتِنَابِ اَلْمَعَاصِي وَالِازْدِيَادِ مِنْ اَلطَّاعَاتِ؛ اِسْتِعْدَادًا لِشَهْرِ اَلصِّيَامِ رَمَضَان، وَكَأنَّ اَلسَّنَةَ شَجَرَةٌ، تُظْهِرُ أَوْرَاقَهَا فِي شَهْرِ رَجَب، وَتُثْمِرُ فِي شَعْبَان، وَيَقْطِفُ اَلنَّاسُ ثِمَارَهَا فِي شَهْرِ رَمَضَان، بَلْ عَدَّهُ بَعْضُ اَلسَّلَفِ بِدَايَةَ اَلِاسْتِعْدَادِ لِشَهْرِ رَمَضَان، قَالَ أَبُو بَكْرْ اَلْوَرَّاق اَلْبَلْخِي: "رَجَبُ شَهْرُ اَلزَّرْعِ، وَشَعْبَانُ شَهْرُ اَلسَّقْيِ لِلزَّرْعِ، وَرَمَضَانُ شَهْرُ حَصَادِ اَلزَّرْعِ"، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "رَجَبُ شَهْرٌ يُضَاعِفُ اَللَّهُ فِيهِ اَلْحَسَنَات، وَشَعْبَانُ شَهْرٌ تَكْفُرُ فِيهِ اَلسَّيِّئَاتُ، وَرَمَضَانُ شَهْرٌ تُنْتَظَرُ فِيهِ اَلْكَرَامَاتُ".

 

أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ: جَدِيرٌ بِمَنْ سُوَّدَ صَحِيفَتَهُ بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، وَالْمَعَاصِي وَالْبَلَايَا، أَنَّ يُبَيَّضهَا بِالتَّوْبَةِ وَالطَّاعَاتِ، وَيُنَقِّيهَا بِالْقُرُبَاتِ وَالصَّالِحَاتِ، وَيَامِنْ ضَيَّعَ عُمْرَهُ فِي اَلْبِطَالَةِ: اغْتَنِم اَلْفُرْصَةَ فَما بَقِيَ لِلْمُهْلَةِ اِسْتِطَالَة.

 

بَيِّضْ صَحيِفَتَكَ السَّوْدَاءَ فِي رَجَبِ *** بِصَالِحِ الْعَمَلِ الُمنْجِي مِنَ اللَّهَبِ

شَهْـرٌ حَرَامٌ أَتَى مِنْ أَشْهُرٍ حُرُمِ *** إِذَا دَعَا اللهَ دَاعٍ فِيـهِ لَمْ يَـخِبِ

طُـوبَى لِعَبْدٍ زَكَى فِيـهِ لَهُ عَمَلٌ *** فَكَفَّ فِيهِ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَالرَّيْبِ

 

بَادر -عَبْدَ اَللَّهِ- إِلَى اَلصَّالِحَاتِ، وَاجْتَنَبِ اَلْمَعَاصِيَ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَتَذَكَّرْ قَوْلُ اَللَّهِ: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة: 36]، اِغْتَنَم اَلْوَقْتَ وَلَا تَظلمْ نَفْسَكَ بِتَضْيِيعِهِ فِي غَيْرِ مَا يَقْرِّبُ إِلَى اَللَّهِ، وَتَذَكَّر: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، قَالَ اَلْحَسَنُ اَلْبَصْرِي -رَحِمَهُ اَللَّهُ-: "أَدْرَكَتُ أَقْوَامًا كَانُوا عَلَى سَاعَاتِهِمْ أَشْفَقَ مِنْكُمْ عَلَى دَنَانِيرِكُمْ وَدَرَاهِمَكُمْ".

 

عِبَادَ اَللَّهِ: مِنْ قَصُرَتْ هِمَّتُهُ فِي اَلْأَشْهُرِ اَلْحُرم عَنْ اَلِازْدِيَادِ مِنْ اَلْعَمَلِ اَلصَّالِحِ، فَلْيَرْحَمْ نَفْسَهُ بِالْكَفِّ عَنْ اَلْمَعَاصِي، ورَحِمَ اَللَّهُ عَبْدًا عَظّمَ مَا عَظَمَةُ اَللَّه؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوب.

 

بَارَكَ اَللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي اَلْقُرْآنِ اَلْعَظِيمِ، وَنَفَّعَنَا وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ اَلْآيَاتِ وَالذَّكَرِ اَلْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفَرُ اَللَّهُ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ اَلْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفَرُوهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمِ.

 

 

اَلْخُطْبَةُ اَلثَّانِيَةِ:

 

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِنْعَامِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَصَلَّى اَللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى خَيْرِ خَلَقِه مُحَمَّد، وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَته وَإِخْوَانِه.

 

أَمَّا بعْدُ: فَإِنَّ أُمَّةَ اَلْإِسْلَامِ أُمَّةٌ وَسَطٌ كَمَا أَخْبَرَ اَللَّهُ -عز وجل-، وَأَهْلَ اَلسَّنَةِ أتبَاعُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتبَاعُ اَلْحَقِّ، فَلَا غُلُوَّ عِنْدَهُمْ وَلَا جَفَاء، وَمِنْ اَلظُّلْمِ فِي اَلْأَشْهُرِ اَلْحَرَمِ اَلْغُلُوُّ فِيهَا والابتداع، كما يفعل بعض المبتدعةِ مِنْ اِخْتِرَاعِهِمْ لِصَلَاةٍ تُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِالرَّغَائِبِ، اَلَّتِي تَكُونُ فِي أَوَّلِ جُمْعَةٍ مِنْ هَذَا اَلشَّهْرِ، كذلك الِاحْتِفَالُ فِي آخِر اَلشَّهْرِ بِلَيْلَةِ اَلْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ وَغَيْرِهَا مِنْ اَلْبِدَعِ.

 

وَمِنْ اَلظُّلْمِ أَيْضًا اَلْجَفَاءُ وَالظُّلْمُ فِي هَذِهِ اَلْأَشْهُرِ اَلْحُرم، وَأَشَدُّهَا ظُلْمُ اَلنَّفْسِ بِارْتِكَابِ اَلْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَعَدَمُ تَعْظِيمِ مَا أَمَرَ اَللَّهُ بِهِ، وَحَال اَلْمُؤْمنِ وَسَطٌ بَيْنَ اَلْحَالَيْنِ، فَيُعَظِّمُ اَلْأَشْهُرَ اَلْحُرم بِتَرْكِ اَلْمُحَرَّمَاتِ وَفَعَلَ اَلطَّاعَاتِ، بِاتِّبَاعٍ دَوَّنَ اِبْتِدَاع، وَوَسَطٍ دَوَّنَ غُلُوٍّ أَوْ جَفَا.

 

هَذَا، وَصَلُوا وَسَلَّمُوا عَلَى اَلرَّحْمَةِ اَلْمُهْدَاةِ.

المرفقات

رجب بداية الاستعداد لرمضان.doc

رجب بداية الاستعداد لرمضان.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات