رابطة الأخوة: عوامل توثيقها وشؤم قطعها

صالح بن عبد الله بن حميد

2022-06-10 - 1443/11/11 2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أخلاق وحقوق
عناصر الخطبة
1/رابطة الأخوة من خير الروابط 2/دور الوالدين في توثيق عرى الأخوة 3/العلاقة المتينة بين الإخوة والأخوات 4/موقف النبيين الكريمين يوسف وموسى من رابطة الأخوة 5/عوامل المحافظة على رابطة الأخوة 6/الطرق الصحيحة لحل الخلاف بين الإخوة 7/خطورة الشحناء بين الإخوة 8/العاقبة الحسنة لمن يصل إخوانه

اقتباس

واعلموا أنَّ الصلةَ بينَ الإخوانِ مِنْ أعظمِ مراتبِ بِرِّ الوالدينَ، وقطيعتُهم مِنْ أشدِّ أنواعِ العقوقِ، لا تَدَعُوا للشيطانِ مَدخلًا للفُرقة والفتنة، ولا تسمعوا إلى الوُشاة والنمَّامِينَ، مَنْ وصَلَ رَحِمَهُ وأكرَم إخوانَه وأخواتِه سَعِدَ في دنياه، وبُورِكَ له في رِزقه، وعَظُمَ في الآخرةِ أَجرُهُ...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله المتفرِّد بكمال الذات، وجميل الصفات، المنزَّه عن مشابَهة المخلوقات، أحاط عِلمًا بجميع الكائنات، ووَسِعَ سمعُه جميعَ الأصوات، في مختلف اللغات، أحمده -سبحانه- وأشكره، على سوابغِ نِعَمِه المتواتراتِ، وآلائه المتكاثراتِ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً أرجو بها بلوغَ عالي الدرجات من الجنَّات، وأشهدُ أنَّ سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ رسولُه، الهادي إلى سُبُل الخيرات، المحذِّر من طُرُق المهالِكِ والضلالات، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه، أُولي الفضلِ والْمَكرُماتِ، والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا، مادامت الأرض والسموات.

 

أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلموا أنَّه قد حصَّل السعادة مَنْ كان مطيعًا لربه، وبلَغ السيادةَ، مَنْ كان آمِنًا في سربه، ونال الزيادةَ مَنْ كان غِنَاهُ في قلبه، وحقَّق الريادةَ مَنْ كان راضيًا بِكَسْبِه، والعاقل مَنْ عَلِمَ أن الدنيا غرَّارة خدَّاعة، لا تساوي هَمَّ ساعة، واللبيبُ مَنْ صرَفَها لربِّه في العبادة والطاعة، كيف يَضِيق مَنْ كان اللهُ ربَّه؟! وكيف يحزن من كان اللهُ حِزبَه، الحزنُ يزولُ بسجدةٍ، والبهجةُ تَحُلُّ بدعوةٍ.

 

يا عبدَ اللهِ: العافية إذا أُلفت نُسيت، وإذا فُقدت عُرفت، اغسل قلبَكَ قبل بدنِكَ، ولسانَكَ قبلَ يَدِكَ، وأَحسِنِ الظنَّ بربِّكَ، وأعظَمُ السعادةِ أن تعيشَ بِسَترِ اللهِ؛ (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الْكَهْفِ: 49].

 

معاشرَ المسلمينَ: مِنْ صُلب الأبِ خرَجُوا، أو في رَحِمِ الأمِّ اجتمعوا، أو فيهما جميعًا نشؤا؛ إنهم الإخوة الأشقاء، والإخوة لأب، والإخوة لأُمّ، إنهم -جميعًا- إخوان النسب، بطن الأم حمَلَهم، وحِضنُها ضمَّهم، ومن لبنها أرضعَتْهم.

 

الأخُوَّة: رابطة نَسَبيَّة كريمة، ومحبَّة فطريَّة حميمة، وقُربة شرعية عظيمة.

 

الإخوةُ والأخواتُ هُم جَمالُ الدنيا، وإنسانُ العينِ، بوصلهم تتوثَّق الحياةُ، وبحبهم تحلُّ السعادةُ، وبصِلَتِهم تكون طاعةُ الله وابتغاءُ مرضاته.

 

العَلاقةُ بينَ الإخوة من أرقِّ العلاقاتِ وأَرْقَاهَا، وأَشدِّها وأَقْوَاها، وأقدِرها على البقاء، ومِنْ أصلَبِها في الْمُلِمَّات، ومِنْ أوثَقِها في مواجَهة الصعاب والأزمات.

 

معاشرَ الإخوةِ: وتبدأ هذه العلاقةُ الكريمةُ في التوثُّق والتمتُّن من الوالدين؛ فالوالدانِ هُمَا اللذانِ يُربِّيانِ أبناءَهما تربيةً تَزرَع فيهم حقوقَ الأُخُوَّةِ، إنَّ تعامُلَهما مع أبنائهما هو سرُّ العَلاقةِ التي تنشأ بين الإخوة، وأعظمُ ذلك وأكبرُه تحقيقُ العدلِ في كل أنواع التعامُل معَهم؛ من النظرات، والقُبُلات، والهدايا، والأُعطِيَات، وتجنُّب المقارَنات الخاطئة، والبُعد عن الغِلظة في المعامَلة لبعضهم دون بعض، والحَذَر من تشجيعِ مَنْ يستحق التشجيعَ بتحقير الآخرينَ، أو الحطِّ مِنْ قَدرِهم.

 

عبادَ اللَّهِ: الحياة مع الإخوة في بيت الوالدينَ نعمةٌ عظيمةٌ، وصلةٌ حميمةٌ، يتبيَّن جَمالُها، ويَظهَر الحنينُ إليها حينما ينتقل الأخُ من بيت أبيه إلى بيت الزوجية؛ فتنبعِثُ الأشواقُ إلى إخوته وأخواته، وإلى منزل والديه، مأدبةِ الطعام المشترَك، ومشارَكة الحياة في العواطف، وأحاديثِ المودةِ، وارتفاعِ الأصواتِ وانخفاضِها في انسجام، وأَخْذ وردّ، وعَفْو، وتسامُح، وعطاء وتغافُل، والتماس للأعذار.

 

بيئةٌ كريمةٌ تُصان فيها الحقوقُ، وتُغرَس الفضائلُ، توقيرٌ للكبير، ورحمةٌ بالصغير، واحترامٌ للنِّدِّ والمثيل.

 

أيها المسلمون: أخوكَ تعطيه ويعطيكَ، وتأخذ منه ويأخذ منكَ، تتَّفِق معه وتختلف، تُعاتِبه ويعاتبكَ، ثم تصطلحون، وفي آخِر النهار تضحكونَ وتسمرون.

 

يَفرَحُ لفرحكَ، ويحزَنُ لحزنكَ، يردُّ غَيبَتَكَ، ويستر عَيبَتَكَ، إذا مددتَ يدكَ إلى خيرٍ مدَّها، وإِنْ رأى فيكَ ثغرةً سدَّهَا، وإِنْ نزلَتْ بك نازلةٌ واساكَ، وإِنْ سألتَه أعطاكَ، وإن سكتَّ ابتداكَ، يُؤثِرُكَ في الرغائب، ويتقدَّم عليكَ في النوائب، إذا غبتَ افتقَدَكَ، وإذا غفَلَتْ نبَّهَكَ، وإذا ضَلَلْتَ أرشدَكَ، وإذا دعَا ربَّه لم يَنْسَكَ، هو التاج على الرأس، والقلادة على الصدر.

 

أخوك إذا وقَع فارْفَعْهُ، وإذا احتاج فساعِدْه، وإذا ضَعُفَ فَأَسْنِدْهُ.

 

الإخوان على نوائب الدهر أعوان، يُستظلّ بهم، ويُعتَمَد عليهم، أوثقُ مَنْ يُستوثَق، وأودَعُ مَنْ يُستودَع.

 

أخوكَ عضيدٌ لا يَلِينُ ولا يتراخى، ولا يُدبِر، ولا يتخلَّى، هو مَكمَنُ السرِّ، ومحلّ الستر.

 

أخاكَ أخاكَ ينشر الحسناتِ، ويطوي السيئاتِ، إذا خدمتَه صانَكَ، وإذا صحبتَه زانَكَ، أُنسُ الخاطرِ، وسلوةُ القلبِ، وقرةُ العينِ، وهو عصاكَ التي تتوكَّأ عليها.

 

مَعاشِرَ الإخوةِ: وللنبيين الكريمين؛ يوسف وموسى -عليهما السلام- مع الإخوة شأن عجيب، مع قوله -سبحانه-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)[الْأَنْعَامِ: 90].

 

أمَّا يوسف -عليه السلام- فقد قال عز شأنه: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ)[يُوسُفَ: 7]، ومن أعظم الآيات في هذه القصص العظيمة عباد الله تعامل يوسف مع إخوته، في جميع مراحل حياته وابتلاءاتها، في بأسائها ونعمائها، في سرائها وضرائها، في حالي ضرائه وسرائه: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[يُوسُفَ: 36]، وقوله -سبحانه-: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يُوسُفَ: 92]، فاصبروا -رحمكم الله-، اصبروا أيها الإخوة والأخوات، اصبروا كما صبر، واعفوا كما عفا، وأحسنوا كما أحسن، ومن أدبه -عليه السلام- وحُسْن تَعامُلِه أنَّه لم يعاتبهم، ولم يَنسِب الخطأَ إليهم، بل قال: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)[يُوسُفَ: 100]، لم تَصدُر منه عبارةُ لومٍ، أو لفظةُ عتابٍ، أو حالةُ استعلاءٍ، أو هيئةُ افتخارٍ، بل قال: (أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي)[يُوسُفَ: 90]، ذكَر اسمَه المجرَّدَ مِنْ كُلِّ لقَبٍ أو منصبٍ.

 

ومن آيات هذه القصص العظيمة أن يوسف -عليه السلام- وهو يُعدِّد نِعَمَ اللهِ عليه قال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ)[يُوسُفَ: 100]، ولم يذكر واقعة الجُبّ؛ حفظًا لحقِّ إخوانه، وكرمًا منه؛ لئلَّا يخذلهم أو يُظهِر الغلبةَ عليهم.

 

أمَّا موسى -عليه السلام- فلَه شأنٌ مع أخته وأخيه؛ أما أخته فهي محل الرحمة، واللطف والشفقة، (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ)[الْقَصَصِ: 11]، أما أخوه فمحل القوة، وشَدّ العَضُدِ، والمرء مهمَا بلَغ من المنزلة ولو كانت النبوةَ لا غِنى له عن دفء الأُخُوَّةِ؛ ولهذا حينما عَظُمَتِ المهمةُ لدى موسى -عليه السلام- وقد مرَّت به من الشدائد والكروب، وقد فرَّ من قومه للذنب الذي اقترفه، وغاب في فراره سنين عددًا، فلما جاءته هذه المهمة العظيمة وهي النبوة، وهي أعظم مهمة على الإطلاق، حينئذ سأل موسى ربَّه العونَ، بل عَلِمَ أنَّه ليس له بعد الله إلا أخوه، فقال: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)[طه: 29-32]؛ فأجابه ربُّه: (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا)[الْفُرْقَانِ: 35]، فقال: (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ)[الْقَصَصِ: 35].

 

أيها المسلمون: مِنَ الخسارةِ والغبنِ ألَّا تَعرِفَ مكانةَ أخيكَ إلَّا بعدَ أَنْ تَفقِدَه، نَعَمْ، تَفقِدُه؛ إمَّا بموت أو بسبب مطامع الدنيا، فتبقى وحيدًا لا تَقدِر على شيء، كم مِنْ أخٍ بكى على قبرِ أخيه متمنيًا لو اصطَلَحَا قبلَ لحظة الفِرَاق.

 

إنَّ الحفاظ على الأُخوَّة في قوتها ومتانتها تحتاج إلى عَقْل، وحكمة، وصَبْر، وتحمُّل، وتضحية؛ (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[يُوسُفَ: 36].

 

لا تُقابِلْ تصرُّفاتِ إخوانكَ بالتحليل والتدقيق، فأغلبُها أو جُلُّها عفويةٌ تلقائيةٌ، لا تَقبَل التحليلَ ولا التعمقَ، ولا تَستَحِقُّ الوقوفَ عندها.

 

واعلم أنَّه مَهمَا طالَتْ عَلاقَتُكَ بإخوانكَ فهي لن تدوم، فلسوفَ يَقطَعُها أقربُكم أَجَلًا، وأعجَلُكم موتًا، فبَادِرْ -حَفِظَكَ اللَّهُ- بكلِّ خيرٍ ومَكرُمةٍ، قولًا وفعلًا، (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)[الْمُدَّثِّرِ: 6].

 

إذا كنتَ ذا علمٍ، أو منصبٍ، أو جاهٍ، أو ثراءٍ، أو شهرةٍ، فَانزِعْ عنكَ هذه العباءاتِ كلَّها حينما تكون مع أَهلِكَ وإخوانِكَ.

 

بَادِرْ بالتواصل مع إخوانكَ حتى ولو كنتَ ترى أنَّ الحقَّ لكَ.

 

احْرِصْ على ضبطِ التعاملاتِ الماليةِ بالدقةِ، وكتابتِها، والإشهادِ عليها، وتوثيقِها.

 

مِنَ الكمالِ والجَمالِ والمروءةِ أن تُظْهِر افتخارَكَ بإخوانكَ، وبما يمتازونَ به مِنْ فضلٍ ومكانةٍ.

 

أخبارُكَ وأحوالُكَ ينبغي أن تَصِلَ إلى إخوانكَ عن طريقكَ، لا عن طريق غيركَ، بعدَ تقديرِ المصلحةِ في ذلك.

 

واعلم -حفظك الله- أن كثرة الشيء تُرخِصُه، فلا تَكُنْ كثيرَ اللومِ، والنقدِ، والعتابِ، والاستقصاءِ، والتَّشَكِّي، واعلم أن كثرة العتاب طريقُ النُّفرةِ والاجتنابِ، يقول علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "مَنْ لم يَحمِلْ أخاه على حُسن النية لم يَحمَدْه على حُسْن الصنعة".

 

ويقول حمدون القصَّار -رحمه الله-: "إذا زَلَّ أخوكَ فاطلُبْ له سبعينَ عذرًا، فإن لم يَقبَلْه قَلبُكَ، فاعلم أنَّ العيبَ فيكَ؛ حيث ظهَر لكَ سبعونَ عُذرًا ثم لَمْ تَقبَلْه".

 

ما أجمَلَ الأُخُوَّةَ في أَسْمَى معانيها، خلافٌ، ثم هدوءٌ، ثم سكونٌ، ثم اعتذارٌ، فتسامُحٌ فدعاءٌ فاستغفارٌ؛ (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الْأَعْرَافِ: 151].

 

واعلموا -حفظكم الله- أن حل الخلاف بين الإخوة إمَّا بالحكمة، وإما بالمحكمة، أما المحكمة فبابها عريض، وسلمها طويل، وعتباتها كثيرة، في مداخل متعرجة، وسراديب ملتوية، ونهايتها بعيدة، وتكون سعيدة أو غير سعيدة، وأما الحكمة فبابها صغير، وطريقها قصير، خال من العتب، وسالم من السلالم، تدخل هذا الباب، حين تخلو رأسك، وتصل نهايته حال دخولك ونهايته سعيدة.

 

وبعدُ مَعاشِرَ الإخوةِ: حقيقة الأُخوَّة: مودَّة في القلب، ولُطف باللسان، ورِفْد بالمال، وتقوية بالأدب، وحُسْن الذَّبِّ عن العيب، وتناصُر، وتعليم، ونقل خبرات.

 

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا)[طه: 25-35].

 

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ ولسائر المسلمين، من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، الحمد لله ذي العرش المجيد، الفعَّال لما يريد، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأرجو بشكره المزيد، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، جاء بالملة الحنيفية، ونصَر التوحيدَ، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ من صالح العبيد، وسلم التسليم الكثير المزيد.

 

أما بعدُ، معاشرَ المسلمينَ: الأُخُوَّة نعمة تصان بالرعاية، وتحاط بالعناية، وتُحفَظ عن المُكَدِّرات، وتُحرَس عن المنغِّصات.

 

الأُخُوَّةُ أُنسٌ في الوحشة، ونورٌ في الظُّلمةِ، وفَرَحٌ في الحزن.

 

عبادَ اللَّهِ: استعيذوا بالله من إخوةٍ بينَهم شحناءُ، وعداوةٌ وبغضاءُ، وغلظةٌ وجفاءُ، قطيعةٌ شنيعةٌ، وفُرقةٌ فظيعةٌ، خيرُهم مصروفٌ للناس، وشرُّهم مجموعٌ للإخوانِ، البعيدُ أنيسُهم، والقريبُ مُوحِشُهم، الوجوهُ بينَهم عابسةٌ، وقلوبُهم فيما بينَهم قاسيةٌ، صدورُهم ضيقةٌ، لَعِبَتْ بهم الأهواءُ، وفرَّقَهم وسخُ الدنيا، وعَبَثَ فيهم الطمعُ، عميت أبصارهم، وصمت آذانهم، فقطَّعوا أرحامَهم.

 

يُكدِّر صفوَ الأُخوَّةِ -عافانا اللَّهُ وإياكم- ضعفُ الإيمانِ، ونسيانُ الدَّيَّانِ، واستدراجُ الشيطان.

 

يكدر صفوة الأخوةِ مطامعُ الدنيا: مالٌ، وميراثٌ، وعَقَارٌ، وإيجارٌ.

 

أيها الإخوةُ: لعلَّكم تستذكرون إخوةً تقاطَعُوا أعوامًا، أو إخوةً تَرافَعُوا أمامَ المحاكم تداعيًا وخِصامًا، وإخوةً نَهَبُوا حقوقَ إخوانِهم وأخواتِهم ظُلمًا وعُدوانًا، كما تتذكَّرون إخوةً بَكَوْا دمًا، كما يَبكُوا دموعًا بعدَ فراق إخوانهم متمنينَ لو اصطلحوا قبلَ الفراقِ، وتَراضَوْا قبلَ يوم الحساب.

 

هذه النماذج هي التي يستذكرها الناسُ ويتداوَلُون أحوالَهم وقَصَصَهم، أما الإخوة المتصافون المتحابون، فلا يذكرهم الناسُ؛ لأن الحكمة تقول: "البيوت السعيدة لا صوتَ لها"، "والضجيج إنما تُصدِرُه الأواني الفارغةُ".

 

فهذه البيوت المتصافية الكريمة يَصعُب حصرُها، ويَعجَز العادُّ عن عدِّها، بل كم رأيتُم أُسَرًا كبيرةً قد اجتمعَتْ في مناسباتها في الأعياد، والأفراح، والأتراح، ورأيتُم السرورَ يعمُّهُم، والسلامَ يُظِلُّهم، إنهم أُسَرٌ كريمة غلَّبوا جانبَ الدِّينِ، والعقلِ، وحقِّ الرَّحِم، فخفضوا فيما بينَهم الجَنَاح، وبسطوا في دُوُرِهم التوددَ، وتنازَلُوا عن كثير من الحقوق؛ لأنهم بعقولهم وتديُّنِهم أدركوا أنَّ خفضَ الجَنَاح ليس ضَعفًا، والتوددَ ليس نفاقًا، والتنازلَ ليس انكسارًا.

 

ألَا فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلموا أن الصلةَ بينَ الإخوان مِنْ أعظمِ مراتبِ بِرِّ الوالدينَ، وقطيعتُهم مِنْ أشدِّ أنواعِ العقوقِ، لا تَدَعُوا للشيطانِ مَدخلًا للفُرقة والفتنة، ولا تسمعوا إلى الوُشاة والنمَّامِينَ، مَنْ وصَلَ رَحِمَهُ وأكرَم إخوانَه وأخواتِه سَعِدَ في دنياه، وبُورِكَ له في رِزقه، وعَظُمَ في الآخرةِ أَجرُهُ.

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم فقال عزَّ مِنْ قائلٍ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك، نبيك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وعن بقية الصحابة أجمعين، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملة والدين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، ووفقه وولي عهده وإخوانه وأعوانه لما تحبه وترضاه، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.

 

اللهم إنا نسألك العافية من كل بلية، والشكر على العافية، اللهم إنا نستدفع بك كل مكروه، ونعوذ بك من شره، اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيئ الأسقام.

 

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك، وبلاغا إلى حين، اللهم غيثا مغيثا غدقا سحا، مجللا، تغني به البلاد، وتسقي به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر والباد.

 

اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك، اللهم فلا تمنع عَنَّا بذنوبنا فضلك، على الله توكلنا؛ (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[يُونُسَ: 85]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

 

 

المرفقات

رابطة الأخوة عوامل توثيقها وشؤم قطعها.pdf

رابطة الأخوة عوامل توثيقها وشؤم قطعها.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
11-06-2022

شكراً من القلب، عمل جداً رائع 

عضو نشط
زائر
28-01-2023

خطبة جميلة ،بارك الله فيكم