ذم الغيبة تصريحا وتلميحا

صلاح بن محمد البدير

2024-11-08 - 1446/05/06 2024-11-09 - 1446/05/07
عناصر الخطبة
1/بعض علامات رجاحة العقل 2/التحذير من الغيبة وبيان مفاسدها 3/ضرر الغيبة بالتلميح والتعريض 4/نصائح لتجنب الغيبة والقبائح 5/من فقه التحلل من الغيبة

اقتباس

يجب على المغتابِ التوبةُ؛ بأَنْ يُقلِع عنها، ويندم على فعله، ويعزم على ألَّا يعود إليها، ولا يُشترَط إعلام مَنِ اغتابه، ولا التحلل منه، ولا طلب البراءة من غيبته، على الصحيح من قولَي العلماء؛ لأن في إعلامه إدخال غمٍّ عليه، وقد ينتج عن إخباره خصامٌ أو نُفرةٌ، أو تَقاطُعٌ، أو تهاجُر...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي نهانا عن الغيبة والنميمة والبهتان والمنكر، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أنعم علينا بنعمه السابغة البالغة فحق أن يحمد ويشكر ويذكر، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا ورسوله، نصح أمته ووعظ وأرشد وذكَّر، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، صلاة دائمة زاكية ما سعى ساع لرزقه وبكَّر.

 

أمَّا بعدُ، فيا أيها المسلمون: اجعلوا التقوى زادَكم، والآخرةَ أمامَكم، واستثمِروا بالطاعة حياتَكم، وكلمةٌ تَهديكم خيرٌ من هوًى يُطغيكم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].

 

أيها المسلمون: من علامة العقل، وطهارة النفس، وقوة الإيمان التحفظ في المنطق، ومَنْ صلَح جَنانُه صَلَحَ لسانُه، والتنزُّه عن الغيبة والتحرُّز من سماعها والرضا بها دأبُ الصالحينَ المشفِقينَ من العذاب وسوء الحساب، فلا يستغيبون أحدًا ولا يمكِّنون أحدًا يستغيب بحضرتهم؛ لِمَا في الغِيبة من ذميم العاقبة، واستجلابِ الضغائنِ، وإفسادِ الإخاءِ، قال الفلَّاس: "ما سمعتُ وَكِعيًا ذاكرًا أحدًا بسوء قطُّ"، وقال أبو عاصم: "ما اغتبتُ مسلمًا منذ علمتُ أن الله حرَّم الغيبة"، وقال سهل بن عبدَ اللهِ: "من أخلاق الصديقين ألا يغتابوا، ولا يغتاب عندهم"، وقال بعض العلماء: "أدرَكْنا السلفَ وهم لا يرونَ العبادةَ في الصوم ولا في الصلاة، ولكِنْ في الكفِّ عن أعراض الناس"، وقال إياس بن معاوية بن قرة: "كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدورا، وأقلهم غيبة"، وكان السلف إذا عددوا مآثر رجل صالح وأثنوا عليه، قالوا عنه فيما قالوا: "لم يُسمَع في مجلسه غيبة"، وكان عبد الله بن أبي زكريا لا يرضى أن يغتاب في مجلسه أحد، ويقول: "إن ذكرتم الله أعناكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم".

إذا ما تراءه الرجالُ تحفَّظُوا *** فلم تنطق العوراء وهو قريبُ

 

والغيبة إدام اللئام، ومرعى الآثام، قال ابن كثير: "والغيبة محرمة بالإجماع"، وقال القرطبي: "لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدًا عليه أن يتوب إلى الله -عز وجل-"، وقد جاء النهي الأكيد والزجر الأكيد عن الغيبة قال جل وعز: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[الْحُجُرَاتِ: 12]؛ أي: كما تكرهون هذا طبعًا، فاكرهوا ذاك شرعًا.

 

ومرَّ عمرو بن العاص -رضي الله عنه- على بغل ميت، فقال لبعض أصحابه: "لَأَنْ يأكلَ الرجلُ من هذا حتى يملأ بطنَه خيرٌ له من أن يأكل لحمَ رجلٍ مسلمٍ"(رواه أبو الشيخ الأصبهاني).

وأقبحُ القبائحِ الوخيمة *** الغيبةُ الشنعاءُ والنميمة

فتلكَ -والعياذ بالرحمن- *** مُوجِبةُ الحلولِ في النيرانِ

 

والغيبةُ ذِكرُ العيب بظهر الغيب، والغيبة أن تذكرَ أخاكَ بما يَشينه، وتَعِيبُه بما فيه، قال بعض أهل العلم: "والغيبة أن تذكر أخاكَ بما يكرهُه لو بلغه، سواء ذكرتَ نقصانًا في بدنه، أو في نسبه أو في خُلقه، أو فِعْله وقولِه أو دِينِه ودنياه، حتى في ثوبه وداره ودابته، ثم لا نقصر على اللسان، بل والتعريض فيه كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والرمز والغمز والحركة والكتابة"، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَتَدْرُونَ ‌مَا ‌الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ في أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ"(أخرجه مسلم)، وعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا معشر مَنْ آمَن بلسانه، ولم يدخل الإيمانُ في قلبه، لا تغتابوا المسلمينَ، ولا تتبَّعوا عوراتهم، فإنَّه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته"(أخرجه أبو داود).

 

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قلتُ للنبي -صلى الله عليه وسلم-: حَسْبُكَ من صفيَّة كذا وكذا، تعني قصيرة، فقال: لقد قلتِ كلمةً لو مُزجت بماء البحر لمزجته"، قالت: "وحكيتُ له إنسانًا، فقال: ما أُحِبُّ أني حكيتُ إنسانًا وأن لي كذا وكذا"(أخرجه أبو داود والترمذي)، قال النوويّ: "وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئًا من الأحاديث يبلغ في الذم لها هذا المبلغ"، وقال الحسن البصَريّ: "والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في جسده".

لا تهتكنَّ من مساوي الناس ما سَتَرُوا *** فيهتكُ اللهُ سترًا من مساويكا

واذْكُرْ محاسنَ ما فيهم إذا ذُكروا *** ولا تَعِبْ أحدًا منهم بما فيكا

 

أيها المسلمون: لا تستطيبوا الغيبة، ولا تستلذوا مجالس المغتابين، ولا تستحلوا ما حرَّم الله -تعالى-، واكرهوا ما كره، واجتنِبُوا ما أمرَكم باجتنابه، ولا تجاملوا الأقران والرفاق في الغيبة، والاستطالة في أعراض الناس، قال يزيد بن المهلب في وصيته لابنه: "إيَّاكُم وشتم الأعراض، فإن الحر لا يرضيه من عرضه عوض"، وقال رجل لبنيه: "إذا اجتمعتم فعليكم حديث أنفسكم، ودعوا الغياب"، وسمع قتيبة بن مسلم رجلًا يغتاب آخر فقال: "أمسك عليك، فوالله لقد مضغت مضغة طالما لفظها الكرام".

إياكَ إياكَ أعراضَ الرجالِ فإن *** رَاقَتْ بفيكَ فإنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ

 

إذا رمتَ أن تحيا سليمًا من الأذى *** وحظُّكَ موفورٌ وعِرضُكَ صَيِّنُ

لسانَكَ لا تَذْكُرْ به عورةَ امرئٍ *** فكُلُّكَ عوراتٌ وللناسِ أَلْسُنُ

وعينُكَ إِنْ أبدَتْ إليكَ مساوِيًا *** فغَمِّضْ وقُلْ: يا عينُ للناسِ أعينُ

وعاشِرْ بمعروفٍ وسامِحْ مَنِ اعتدى *** وخَالِطْ ولكِنْ بالتي هي أحسنُ

 

والمخذول هو الغيَّاب العيَّاب الطعَّان، الذي أطلَق لسانَه في أعراض الأحياء والأموات؛ سبًّا وقدحًا وتنقُّصًا، لا يُبالي بالعواقب، ولا يستحي من الخلائق، ولا يخاف من الخالق، وذلك هو المحروم المذموم الملوم المشؤوم المغموم، قال وهيب بن الورد: "واللهِ لَتركُ الغيبةِ عندي أحبُّ إليَّ من التصدق بجبل من ذهب"، فاتق الله يا عبدَ اللهِ، وأمسِكْ عن الغيبة قبلَ أن يذهب عمرُكَ، ويخسف قمرُكَ، ويذوي غصنُكَ، ويتحاتَّ ورقُكَ.

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه، ويا فوز المستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي آوى مَنْ إلى لُطْفه أوى، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، داوى بإنعامه من يئس من أسقامه الدوا، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، مَنِ اتبعَه كان على الْهُدَى، ومَنْ عصاه كان في الغواية والردى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة تبقى وسلامًا يترى.

 

أمَّا بعدُ، فأيها المسلمون: اتقوا الله وراقِبوه وأطيعوه ولا تعصوه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119].

 

أيها المسلمون: وينبغي لِمَنْ سَمِعَ غيبةَ مسلمٍ أن يَرُدَّها، ويزجرَ قائِلَها، فإن لم ينزجِرْ بالكلام والنصيحة تنحَّى عنه وفارَق مجلسَه، وكان ميمون بن سيَّاه لا يغتاب، ولا يدع أحدًا يغتاب عنده، ينهاه، فإن انتهى وإلا قام عنه.

 

فصن يا عبدَ اللهِ سمعك عن سماع الغيبة، قال عمرو بن عتبة: "نَزِّهْ سمعَكَ عن استماع الخَنَا، كما تُنزِّه لسانَكَ عن النطق به".

 

ويجب على المغتابِ التوبةُ؛ بأَنْ يُقلِع عنها، ويندم على فعله، ويعزم على ألَّا يعود إليها، ولا يُشترَط إعلام مَنِ اغتابه، ولا التحلل منه، ولا طلب البراءة من غيبته، على الصحيح من قولَي العلماء؛ لأن في إعلامه إدخال غمٍّ عليه، وقد ينتج عن إخباره خصامٌ أو نُفرةٌ، أو تَقاطُعٌ، أو تهاجُر، أو إيذاؤه، أو تحزينه أو تكديره، قال ابن المبارك: "لا تؤذوه مرتين"، ويدعو له دعاء يكون إحسانًا إليه، في مقابل مظلمته.

 

وصلُّوا وسلِّموا على أحمد الهادي شفيع الورى طُرًّا، فمَنْ صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.

 

اللهمَّ صلِّ وسلِّم على نبينا وسيدنا محمد، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، ذوي الشرف الجلي، والقدر العلي؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والأصحاب، وعنا معهم يا كريم يا وهاب.

 

اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، ودمِّرْ أعداءَ الدينِ، واحفظ بلادنا، وبلاد المسلمين، من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وحقد الحاقدين، وحسد الحاسدين، يا ربَّ العالمينَ؛ (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)[إِبْرَاهِيمَ: 35].

 

اللهمَّ وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرَنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ لِمَا تحب وترضى، وخُذْ بناصيته للبر والتقوى، اللهمَّ وفِّقْه ووليَّ عهده، وسائر ولاة المسلمين، لِمَا فيه عزُّ الإسلام وصلاح المسلمين يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ واشف مرضانا، وعافِ مبتلانا، وارحم موتانا يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ انصر إخواننا في فلسطين، على الطغاة المحتلين، وطهر المسجد الأقصى من رجز اليهود الغاصبين، واحفظ أهلنا في فلسطين، واجبر كسرهم، وعجل نصرهم، وأقل عثرتهم، واكشف كربتهم، وفك أسراهم، واشف مرضاهم، وتقبل موتاهم في الشهداء يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ اختم بالسعادة آمالنا، وحقق بالزيادة آمالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جنتك مصيرنا ومآلنا، وتقبل بفضلك أعمالنا، إنك مجيب الدعوات، ومفيض الخيرات، اللهمَّ اجعل دعاءنا مسموعًا، ونداءنا مرفوعًا، يا كريم يا عظيم يا رحيم.

 

 

المرفقات

ذم الغيبة تصريحا وتلميحا.doc

ذم الغيبة تصريحا وتلميحا.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات