ذكر الله (2)

ناصر بن محمد الأحمد

2014-12-01 - 1436/02/09
عناصر الخطبة
1/حاجة الإنسان إلى ذكر الله 2/أهمية الذكر وبعض فضائله 3/بعض الوسائل المعينة على ذكر الله 4/أذكار خاصة بأوقات معينة 5/مفهوم الذكر وشموليته 6/الذكر ودوره في انتصار الأمة 7/بعض فوائد الذكر

اقتباس

الذكر يعين على طاعة الله، ويسهل المصاعب، وييسر العسير، ويخفف المشاق، فما ذُكِر الله على صعب إلا هان، ولا على عسير إلا تيسر، ولا على شاق إلا خف، ولا على شدة إلا زالت، ولا كربة إلا انفرجت، وذلك؛ لأن الذكر يذهب عن القلب المخاوف كلها، وله تأثير عجيب في حصول...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن القلوب قد تصدأ كما يصدأ الحديد، وإنها تظمأ كما يظمأ الزرع، وتجف كما يجف الضرع!.

 

ولذا؛ فهي تحتاج إلى تجلية وري، يزيلان عنها الصدأ والظمأ!.

 

والمرء في هذه الحياة، محاط بالأعداء من كل جانب: نفسه الأمارة بالسوء، تورده موارد الهلكات، وكذا هواه وشيطانه، فهو بحاجة ماسة إلى ما يحرزه ويؤمّنه، ويسكن مخاوفه، ويطمئن قلبه.

 

وإن من أكثر ما يزيل تلك الأدواء، ويحرز من الأعداء: ذكر الله -عز وجل-.

 

فاللسان الغافل، كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء.

 

فإذا اضطربت النفس فلم تطمئن، وحار القلب فلم يسكن، وأرقت العين فسهرت ولم تنم، فما عسى المسلم حينذاك أن يفعل؟

 

وإذا ما اشتدت الكروب، وأحاطت المصائب والخطوب، وتكاثرت الهموم والغموم، فبأي عمل نقوم لتنقشع من سمائنا الغيوم، وليرجع إلينا صفاء عيشنا؟ أين الدواء المخلص من عضال هذا الداء؟

 

إنه -يا معشر المؤمنين- ذكر الله -عز وجل- الذي يصف لنا ربنا في محكم كتابه حال طائفة من عباده، فيقول: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].

 

أيها المسلمون: إن ذكر الله -عز وجل- من أعظم القربات، وأجلّ الطاعات، وسبب لرفع الدرجات، قال الله -تعالى-: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 239].

 

فذكر الله، هو سر الطاعات وروحها.

 

إن الذاكرين لله، هم أهل الانتفاع بآياته، وهم أولو الألباب والعقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)[آل عمران: 190 - 191].

 

إن ذكر الله مصاحب لجميع الأعمال، ومقترن بها، بل هو روحها، فإنه سبحانه قرنه بالصلاة؛ كقوله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[طه: 14].

 

وقرنه بالصيام والحج ومناسكه، بل هو روح الحج ومقصوده ولبه؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله".

 

كما قرنه جل وعلا بالجهاد في سبيل الله، وأمر بذكره عند ملاقاة الأقران، ومكافحة الأعداء فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الأنفال: 45].

 

إن ذكر الله هو ختام الأعمال الصالحة، فهو ختام الصيام؛ كما قال تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 185].

 

وهو ختام الحج، قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)[البقرة: 200].

 

وهو ختام الصلاة؛ كما في قوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)[النساء: 103].

 

وهو ختام الجمعة، قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الجمعة: 10].

 

بل هو ختام الدنيا؛ فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان آخر كلامه "لا إله إلا الله" دخل الجنة"[رواه أبو داود].

 

الذاكرون الله، هم أهل السبق؛ كما روى مسلم في صحيحه، من حديث العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسير في طريق مكة، فمر على جبل، يقال له: جمدان، فقال: "سيروا هذا جمدان، سبق المفردون" قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "الذاكرون الله كثيراً والذاكرات".

 

ويكفي في شرف الذكر: أن الله يباهي ملائكته بأهله؛ روى مسلم عن معاوية -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج على جلسة من أصحابه، فقال: "ما أجلسكم؟" قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده، على ما هدانا للإسلام، ومنّ به علينا، قال: "آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟" قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: "أما إني لم استحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة".

 

ويكفي -يا عباد الله- شرفاً للذكر: أن الذي يذكر الله يكون بمنـزلة الحي، والذي لا يذكر الله بمنـزلة الميت؛ ففي الصحيحين من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكره، مثل الحي والميت".

 

ذكر الله، هو غراس الجنة؛ روى الترمذي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقيت إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم: أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".

 

ذكر الله يملأ ميزان العبد يوم القيامة؛ فعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله، والحمد لله، تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض"[رواه مسلم].

 

لقد توعد سبحانه من لَهَا عن ذكره بأشد الوعيد، حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[المنافقون: 9].

 

فبالذكر: يستدفع الذاكرون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم المصيبات، فإليه الملجأ إذا ادلهمت الخطوب، وإليه المفزع عند توالي الكوارث والكروب، به تنقشع الظلمات والأكدار، وتحلّ الأفراح والمسرّات.

 

ذكره سبحانه قوت قلوب الذاكرين، وهو قرة عيون الموحدين، وهو عدتهم الكبرى، وسلاحهم الذي لا يبلى.

 

ذكر الله، منشور الولاية، الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنها صارت بوراً.

 

وهو منـزل القوم الذي منه يتزودون وفيه يتجرون، وإليه دائماً يترددون، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق، ودواء أسقامهم التي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب.

 

إذا مرضنا تداوينا بذكركم *** ونترك الذكر أحياناً فننتكس

 

كان السلف إذا أظَلّهم البلاء، فإلى ذكر الله ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مَفزعُهم، فهو رياض جنّتهم التي فيها يتقلّبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتَّجِرون.

 

وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقاً، ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقاً.

 

وإذا واطأ في ذكره قلبه لسانه نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضاً من كل شيء.

 

زيّن الله بالذكر ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين، وفي القلب خلّة وفاقة لا يسدها شيء البتة إلا ذكر الله -عز وجل-.

 

أيها المسلمون: لقد حث الدين الحنيف على أن يتصل المسلم بربه ليحيا ضميره، وتزكو نفسه، ويتطهر قلبه، ويستمد منه العون والتوفيق، ولأجل هذا جاء في محكم التنـزيل، والسنة النبوية المطهرة، ما يدعو إلى الإكثار من ذكر الله -عز وجل- على كل حال، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الأحزاب: 41 - 42].

 

وقال سبحانه: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 35].

 

وقال جل اسمه: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)[العنكبوت: 45].

 

وقال جل شأنه: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)[البقرة: 152].

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها، لكفى بها فضلاً وشرفاً".

 

عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقكم، ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "ذكر الله -تعالى-"[رواه الترمذي].

 

وعن عبدالله بن بسر -رضي الله عنه-: أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به؟ فقال: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله"[رواه الترمذي].

 

وعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت".

 

وعن سعد -رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟" فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: "يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة".

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قال: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه".

 

فحيهلا إن كنت ذا همة فقد *** حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا

 

عن معاذ -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيده، وقال: "يا معاذ والله إني لأحبك" فقال: "أوصيك يا معاذ: لا تدعنّ في دبر كل صلاة، تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك".

 

أيها المسلمون: إن الله قد أمر بالإكثار من ذكره، لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فأي لحظة خلا فيها العبد عن ذكر الله -عز وجل- كانت عليه لا له، وكان خسرانه فيها أعظم.

 

ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد، وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين:  بالذكر والاستغفار.

 

فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته، كان الصدأ متراكماً على قلبه، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل؛ لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم واسود ورَكِبَه الران، فلا يقبل حقاً -عياذاً بالله-.

 

ومن أعظم ما يحيي ذكر الله في القلوب: حضور المساجد، وانتظار الصلاة فيها، وقراءة القرآن واستماعه، وإقامة الصلوات، وحضور مجالس الذكر.

 

ومن أعظم ما يصد عن ذكر الله: الابتعاد عن المساجد، والتكاسل عن الطاعات، وهجر القرآن، وكثرة الاشتغال بالدنيا، واستماع الملاهي، والنظر إليها، والقيل والقال، وكثرة الضحك.

 

وأعظم من ذلك: أكل الحرام.

 

فاتقوا الله -أيها المسلمون- ولازموا ذكر الله وأكثروا منه لعلكم تفلحون.

 

إن أقل قدر من الذكر يلازمه الإنسان: الأذكار المخصصة بأوقات معينة؛ كالأذكار التي تقال في أول النهار، والأذكار التي تقال في آخره، والتي تقال عند أخذ المضجع للنوم، وتقال عند الاستيقاظ من المنام، والتي تقال عند الأكل والشرب واللباس، والتي تقال عند دخول المنـزل والخروج منه، والتي تقال عند دخول الخلاء والخروج منه، والتي تقال عند نزول المطر، وعند سماع صوت الرعد، وهبوب الرياح، والتي تقال عند الركوب وعند السفر والقدوم منه.

 

وقد أُلفت في ذلك كتب مختصرة، بإمكان المسلم أن يقتنيها، ويحفظ منها.

 

عباد الله: العلاقة بين العبد وربه ليست محصورة في ساعة مناجاة في الصباح، أو في المساء فحسب، ثم ينطلق المرء بعدها في أرجاء الدنيا، غافلاً لاهياً، يفعل ما يريد، دون قيد ولا حَكم.

 

كلا، هذا تديّن مغشوش!.

 

العلاقة الحقة: أن يذكر المرء ربه حيثما كان، وأن يكون هذا الذكر مقيداً مسالكه بالأوامر والنواهي، ومشعراً الإنسان بضعفه البشري، ومعيناً له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه.

 

ذكر الله -عز وجل-، باب مفتوح بين العبد وبين ربه، ما لم يغلقه العبد بغفلته.

 

قال الحسن البصري -رحمه الله-: "تفقّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلاّ فاعلموا أن الباب مغلق".

 

الإكثار من ذكر الله، براءة من النفاق، وفكاك من أسر الهوى، وجسر يصل به العبد إلى مرضاة ربه، وما أعده له من النعيم المقيم.

 

ذكر الله -تعالى- أشرف ما يخطر بالبال، وأطهر ما يمر بالفم، وأجمل ما تنطق به الشفتان، وأسمى ما يتألق به العقل المسلم الواعي، والناس بعامة قد يقلقون في حياتهم أو يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم من كل جانب، وهم أضعف من أن يرفعوها إذا نزلت، أو يدفعوها إذا أوشكت.

 

أيها المسلم: لا تخش غماً، ولا يصبك قلق ما دام قرينك هو ذكر الله، يقول جل وعلا في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه"[رواه البخاري ومسلم].

 

أيها المسلمون: إن ذكر الله -عز وجل- له مفهوم واسع شامل في الإسلام، غير المعنى القريب المتبادر إلى الذهن، وهو: أنه عبارة عن ترديد بعض الأوراد ونحوها!.

 

إن ذكر الله يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالجوارح.

 

أما ذكر الله بالقلب؛ فمعناه: أن يكون القلب دائماً يفكر في أسماء الله الحسنى، ومعاني صفاته العليا، وأفعاله التي بهرت العقول، وأحكامه التي بلغت من الحكمة غايتها.

 

وأما ذكر الله باللسان؛ فمعناه: أن ينطق بلسانه بذكر ربه، فالتهليل والتكبير والتسبيح، والحمد والثناء من ذكر الله، ودراسة القرآن والعلوم الدينية وتعليمها وتعلّمها من ذكر الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ذكر الله.

 

وأما ذكر الله بالجوارح؛ فإن كل فعل تفعله متقرباً إلى الله، متبعاً فيه رسول الله؛ فهو من ذكر الله.

 

فالطهارة ذكر، والصلاة ذكر، والسعي إليها ذكر، والزكاة ذكر، والصيام ذكر، والحج ذكر، وبر الوالدين ذكر، وصلة الأرحام ذكر.

 

وكل فعل يقربك إلى الله فهو ذكر؛ لأن التقرب إلى الله لا يكون إلا بنية، ونيتك واستحضارك لها عند الفعل ذكر لله -عز وجل-.

 

المسلم الذاكر يصحو وينام، ويقوم ويقعد، ويغدو ويروح، وفي أعماقه إحساس بأن دقات قلبه، وتقلبات بصره وحركات جوارحه كلها في قبضة الله وتحت قدرته، في أعماقه إحساس وإيمان بأن إدبار الليل وإقبال النهار، وتنفس الصبح وغسق الليل، وحركات الأكوان وجريان الأفلاك، كل ذلك بقدرة الله وأقداره: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 191].

 

الذاكرون المخبتون يعيشون لربهم مصلين، حامدين، مجاهدين، عاملين.

 

قطعوا إغراءات العاجلة، وجواذب الإخلاد إلى الأرض، وساروا في الطريق إلى مراض الله، يبتغون وجهه، ويذكرون اسم الله في جميع أحيانهم وشؤونهم: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162 - 163].

 

أيها المسلمون: إن الله -جل وتعالى- جعلنا خير أمة أخرجت للناس يوم اتبعنا هداية الله، وأقبلنا على ذكره، فجمع شتات العرب بقبائلهم المتحاربة تحت راية واحدة، شعارها: التوحيد، ونشيدها: التكبير والتهليل، في ظل دولة الإسلام، التي أقامها نبينا وقائدنا -عليه أفضل الصلاة والسلام-، وسار على هديه الخلفاء الراشدون، ومن تبعهم من الخلفاء والأمراء والسلاطين الذين حافظوا على دولة الإسلام وعلى دستورها الخالد.

 

فماذا جنت الأمة جرّاء إعراضها عن ذكر الله، وابتعادها عن هدايته؟!

 

إن حالها اليوم يعطي الدليلَ الواضح لكل ذي بصر وبصيرة، لا، بل لكل من له أدنى اطلاع على تاريخ الأمة؛ لأن أمتنا تتجرّع اليوم عقاب الله بضيق الحياة، وذهاب الهيبة والسلطان.

 

لقد تداعت علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وأمعنت في السيطرة على مقدراتنا والعبث في ثقافتنا في غزو عسكري استعماري، يرافقه ويسير في ركابه غزو ثقافي أشدّ فتكًا بقيَم الأمة وأخلاقها، يعمل جاهدًا على طمس معالم حضارتنا، لتعيش شعوب الأمة حالة من ذوبان الشخصية وميوعتها، وهي تلهث وراء سراب المدنية الزائفة، وشعاراتها الخادعة.

 

ولو استعرضنا جانبًا من جوانب حياة الأمة، بقياس حالها اليوم، وتشخيص دائها، لوجدنا الفرق الشاسع بين ماضيها وحاضرها.

 

الماضي الذي أقبلت فيه الأمة على ذكر الله وهدايته، فاستحقت وصف الله لها: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ)[آل عمران: 110].

 

والحاضر الذي انكفأت فيه الأمة عن هذه المنـزلة، وأصبحت تعيش فيه على هامش الأحداث، تتأثر ولا تؤثِّر في هذه الأمم التي غزت وتغزو بلاد المسلمين اليوم، في حرب لا تخفى أهدافها للقضاء على الإسلام، والسيطرة على ديار المسلمين.

 

إن ما يجري اليوم في فلسطين والعراق وأفغانستان، وغيرها من البلاد، من قتل وتشريد، وتنكيل بأبناء شعوب هذه الأقطار، داخل السجون وخارجها، أوضح دليل على استهداف هذه الأمة، ممن يروّجون لحقوق الإنسان، ويمنّون الشعوب المستضعَفة باستقرار في أوضاعها السياسية والاقتصادية.

 

فهيهات للمستجير من الرمضاء بالنار!.

 

فهل من معتبر؟! وهل من مدّكر؟!

 

(فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ)[الحشر: 2].

 

يا خير أمة أخرجت للناس: أما آن لأمتنا أن تفيق من سباتها، وتنهض من غفلتها، وتعود إلى رحاب هدي ربها؟!

 

فإنه سبيل الخلاص من هذا الواقع المُرّ، والحال الضنك الذي وصلت إليه الأمة اليوم.

 

أما آن الوقت بعد كل هذا الهوان: أن تبحث الأمة، وأن تتلمس شعوبها سُبل العزة باستئناف الحياة الإسلامية في ظل حكم الإسلام، ودولة المسلمين؟!

 

فنحن أمة أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.

 

نفعني الله وإياكم بهدي ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: للذكر فوائد كثيرة وعظيمة، لا يدركها إلا القلة:

 

من ذلك: أنه يطرد الشيطان، ويرضي الرحمن، ويزيل الهم والغم عن القلب، ويجلب للقلب الفرح والسرور، ويقوي القلب والبدن، وينور الوجه، ويجلب الرزق، ويكسب المهابة، ويورثه المحبة التي هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين، ومدار السعادة والنجاة، ويورثه المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه، ويورثه الإنابة، وينجي من عذاب الله -تعالى-، وهو سبب تنـزيل السكينة، وغشيان الرحمة.

 

من فوائد الذكر: أنه يورث محبة الله -سبحانه وتعالى-، فالذكر باب المحبة، وشارعها الأعظم، وصراطها الأقوم.

 

فكلما ازداد العبد لله ذكرًا؛ ازداد له حبًا، فمن أراد أن يفوز وينال محبة الله -تعالى-، فليلهج بذكره.

 

والذكر يورث، ذكر الله -تعالى- للعبد؛ كما قال سبحانه: (فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)[البقرة: 152].

 

وفي الحديث القدسي: "فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم".

 

والذكر يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه -تبارك وتعالى-، فإن الغافل بينه وبين الله حجاب كثيف، ووحشة لا تزول إلا بالذكر.

 

وهو سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة، والكذب والفحش والباطل، فإن العبد لا بد له من أن يتكلم، فإن لم يتكلم بذكر الله -تعالى- تكلم بالمحرمات، ولا سبيل إلى السلامة منها البتة إلا بذكر الله -تعالى-.

 

والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك، فمن عوّد لسانه ذكر الله، صان لسانه عن الباطل واللغو، ومن يبس لسانه عن ذكر الله ترطب بكل باطل ولغو وفحش -ولا حول ولا قوة إلا بالله-.

 

ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، ولا بد.

 

الذكر يعين على طاعة الله، ويسهل المصاعب، وييسر العسير، ويخفف المشاق، فما ذُكِر الله على صعب إلا هان، ولا على عسير إلا تيسر، ولا على شاق إلا خف، ولا على شدة إلا زالت، ولا كربة إلا انفرجت، وذلك؛ لأن الذكر يذهب عن القلب المخاوف كلها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن، فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله -عز وجل-: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].

 

الذكر يَحُطّ الخطايا ويُذهِبُها، فإنّه من أعظم الحسَنات، والله -تعالى- يقول: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هود: 114].

 

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرّة؛ حُطّت خطاياه، وإن كانت مثل زبَد البحر"[رواه البخاري].

 

الذكر ينوب عن كثير من الطاعات، ويقوم مقامها؛ كما جاء ذلك صريحاً في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ -أي الأغنياء- مِنْ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؛ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ"[رواه البخاري].

 

أيها المسلمون: أين المتاجر عند ربه بالحسنات؟ أين من يريد تكفير السيئات ورفعة الدرجات؟ أين من يريد انشراح الصدر وطعم الإيمان وحلاوة المناجاة ولذة العبادة ورضى الله؟ أين من يريد الخلاص من معاصيه؟ وأين من يريد حرب الشيطان الذي عشعش في القلوب وغطاها بإغوائه، فأوردها موارد الهلاك والبوار، فحرمت رضا الله، وصدت عن ذكره، وأعرضت عن هديه، فلم تعش حياة المتقين السعداء، الذاكرين الشاكرين، الذين أنعم الله عليهم بالهدى والرضا واليقين؟

 

قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)[طه: 124 - 126].

 

فلا عجب أن يرتاح الذاكرون، ولكن العجب العجاب كيف يعيش الغافلون الساهون عن ذكره: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)[النحل: 21]؟

 

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ...

 

 

 

المرفقات

الله (2)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات