ذباب المجتمع النمام

عبدالله بن عمر السحيباني

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/الحث على المحبة بين المسلمين 2/التحذير من التشهير وذكر المعايب 3/المقصود بالنميمة وخطرها 4/بعض صفات النمام 5/الحرص على سلامة القلب واللسان للمسلمين

اقتباس

النمام لئيم زنيم ظالم لنفسه ظالم للناس، يسعى في قطع الأرزاق، وزرع الأحقاد، وتفكيك الأسر، وهدم البيوت، وقطع الأرحام، وإثارة النعرات، وجلب العداوات، وإفساد العلاقات، بل النمام قد يكون سبباً في قتل الأبرياء، وتعذيب...

الخطبة الأولى:

 

دعوة الإسلام لإشاعة المحبة بين المسلمين دعوة في غاية الوضوح، فكم هي النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تدعو المسلم لبذل المحبة والمودة والأخوة وتأليف القلوب، وجمع الكلمة، ذكر الجميل من محاسن الناس وحفظ اللسان عن ذكر المساوئ والعيوب، وعدم تتبع العورات والعثرات والزلات، مما يسبب الفرقة ويجلب البغضاء.

 

أيها المسلمون: ومع وضوح هذا الأمر في شريعة الإسلام إلا أن كثيراً من الناس جهول ظلوم يتلذذ بذكر المعايب والمثالب، ويحب التشهير والفضيحة، ويقتات على تمزيق الأعراض وبث الفرقة، هؤلاء يصح وصفهم بأنهم مثل الذباب، بل هم أسوء حالاً من الذباب الناقل للأمراض الذي يقع على القذر، نمامون بضعتهم نقل الكلام وتلفيق التهم وزرع الفساد، ولذلك قال أهل العلم: النميمة شر من الغيبة، وذلك لأن قصد النميمة هو الإفساد، وربما لا يكون القصد من الغيبة ذلك.

 

أيها المسلمون: قال العلماء: حد النميمة كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو ثالث، سواء كان بقول أو كتابة أو رمز أو إيماء، سواء كان عيبا أو نقصا على المنقول عنه أو لا.

 

والنميمة اليوم زاد انتشارها بسبب ضعف الإيمان والأمانة وضعف الرجولة والمروءة، ومع توفر وسائل التواصل والاتصال زاد خطرها، وعظم أثرها، وتسارع انتشارها.

 

النميمة من الكبائر، وهي حرام بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت على تحريمها الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ -رضي اللهُ عنه- قَالَ: "إِنَّ مُحَمَّدًا -صلى اللهُ عليه وسلم- قَالَ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ" والعظة أو العظة هي البهتان الفاحش الظاهر تحريمه.

 

النمام فتح له طريقاً موصّلة إلى النّار، وأغلق عن نفسه باب الجنة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ هَمَّامِ بنِ الحَارِثِ قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا مَعَ حُذَيْفَةَ -رضي اللهُ عنه- فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ رَجُلٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ: إِنَّ هَذَا يَرْفَعُ إِلَى السُّلْطَانِ أَشْيَاءَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ -إِرَادَةَ أَنْ يُسْمِعَهُ-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ"، ولفظ مسلم :"لا يدخل الجنة نمَّامُ".

 

النمام موعود بالعذاب في قبره، قبل حشره، في الصحيحين مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما- أَنَّهُ قَالَ: "مَرَّ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم- عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ" ثُمَّ قَالَ: "بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ"، ومعنى قوله: "وما يعذبان في كبير" يعني في نظرهما واعتقادهما، ولذلك قال بلى إنه كبير.

 

النمام ضعيف الإيمان والديانة ضعيف الشهامة والرجولة، النمام كالذباب بل هو شر منه فإن في أحد جناحي الذباب شفاء، وليس في جناحي النمام إلا السم والداء، فالنمام شر خلق الله، روى الإمام أحمد بسند حسن: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عليه وسلم- قَالَ: "شِرَارُ عِبَادِ اللهِ الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ للْبُرَآء الْعَنَتَ".

 

النميمة هي بضاعة إبليس التي عرضها على الناس فاشتروها بثمن بخس، ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ"، بل النمام وكيل إبليس المعتمد ففي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ" قَالَ الْأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ: "فَيَلْتَزِمُهُ" أي يضمه إلى نفسه ويعانقه.

 

النمام رسول الشيطان، جاء رجلٌ إلى وهبِ بن مُنبِّه فقال: "إنّ فلانًا يقول فيك كذا وكذا، فقال: أما وجدَ الشيطانُ بريدًا غيرَك؟!".

 

النمام حمال الحطب، وقد قال جماعة من السلف إن معنى قوله تعالى: (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أنها كانت نمامة، حمالة للحديث، من قولهم: "فلان يحطب على فلان إذا حرش عليه".

 

النمام بغيض مقيت لا ينبغي الوثوق به ولا تصديق خبره: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ)[القلم: 10-11].

 

مَنْ نَمَّ فِي النَّاسِ لَمْ تُؤمَنْ عَقَارِبهُ *** عَلَى الصَّدِيقِ وَلَمْ تُؤمَنْ أَفَاعِيهِ

كَالسَّيْلِ بِاللَّيْلِ لا يَدْرِي بِهِ أَحَدٌ *** مِنْ أَيْنَ جَاءَ؟ وَلا مِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِ

 

كلم معاوية الأحنف في شيء بلغه عنه فأنكره الأحنف، فقال له معاوية: "بَلَّغَني عنك الثقةُ فقال له الأحنف: "إن الثقة لا يُبَلِّغُ مكروهاً".

 

النمام سفيه دنيء، جبان ضعيف، قذر خسيس، بضاعته الكيد والدس والتملق والمكر والنفاق.

 

النمام أصله نتن، وفرعه رديء، وطبعه فاسد، ونشأته خبيثة.

 

النمَّامُ صاحب وجهين، مُتلوِّن حسبَ المواقفِ والمصالح، يتزين أمام الناس، ويحب الظهور والسؤدد والعلو على حساب الوقيعة في أعراض الناس وحرماتهم.

 

النمام يفسد دينه من أجل دنيا غيره.

 

إنَّ النَّمِيمَةَ نَارٌ وَيْكَ مُحْرِقَةٌ *** فَفِرَّ عَنْهَا وَجَانِبْ مَنْ تَعَاطَاهَا

 

النمام عدو المحبة والإخاء لا يقر له قرار حتى يفرق الأحباب، ويوغر صدور الأصحاب.

 

النمام يسعى بالوشاية عند الكبراء والوجهاء والمسؤولين ليلحق الضرر والحرمان للعاملين والموظفين.

 

النمام شرٌّ من الساحر، روي عن بعض السلف: "يفسد النمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة".

 

النمام لئيم زنيم ظالم لنفسه ظالم للناس، يسعى في قطع الأرزاق، وزرع الأحقاد، وتفكيك الأسر، وهدم البيوت، وقطع الأرحام، وإثارة النعرات، وجلب العداوات، وإفساد العلاقات، بل النمام قد يكون سبباً في قتل الأبرياء، وتعذيب المظلومين، وقذف الغافلين من المؤمنين.

 

النمام إذا ألبس نميمته لباس النصح والإصلاح فقد جمع مع النميمة الحسد، واختلق لها الكذب، ولبس لباس النفاق، والتحرز من مثل هذا أصعب، وضرره حينئذ أشد وظلمه أعظم، فويل له ثم ويل له: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ)[الهمزة: 1].

 

ويل لكل نمام حين يقف مع خصومه يوم القيامة، عند مليك مقتدر: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة: 18].

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها المسلم الصالح: احمد الله على نعمه التي من أعظمها: أن عصمك من أمراض القلوب وأدوائها البغيضة كالنّميمة، فإن النميمة خصلة قبيحة، ولو كانت صحيحة، حتى قيل: قبحت النميمة الصدق.

 

احمد الله على طهارة قلبك وسلامة لسانك، واحرص على صيانة سمعك، وكن ممن مدح الله في قوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)[الفرقان: 72].

 

وقد أجاد من قال:

 

وسمعَك صُن عن سماع القبيح *** كصَوْن اللسان عن النطق به

 

قال رجل لعمرو بن عبيد: "إن الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر، فقال له عمرو: يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه أن الموت يعمنا، والقبر يضمنا، والقيامة تجمعنا، والله -تعالى- يحكم بيننا وهو خير الحاكمين".

 

 

المرفقات

ذباب المجتمع النمام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات