اقتباس
من أجل تلك المنافسة بنى الفاطميون أساطيل بحرية قوية وكثيرة من أجل التوسع شرقًا للقضاء على الدولة العباسية الضعيفة وغربًا للإطاحة بالدولة الأموية في الأندلس، وكان لفشل الأساطيل الفاطمية عدة مرات في الاستيلاء على مصر وهزيمتها أمام أساطيل طرسوس العباسية أثر كبير في توجيه الخلفاء الفاطميين كل عنايتهم بالبحرية.
الدولة الفاطمية أو العبيدية (نسبة لمؤسسها عبيد الله المهدي الضال ) نشأت بعد سلسلة من المعارك العنيفة في المغربين الأدنى والأوسط ابتداء من سنة 296هـ، وورثت تلك الدولة الجديدة العديد من الدويلات الموجودة في المغرب مثل دولة الأغالبة، ودولة الأدارسة، ودولة الرستميين الإباضية، ودولة بني مدرار وهم خوارج صفرية، وأحكمت قبضتها على المغرب العربي كله، وحاولت ضم مصر منذ سنة 301هـ، ولكنها لم تنجح في ذلك إلا سنة 357هـ، ثم ما لبثت أن ضمت مع مصر بلاد الشام، لتكون بذلك من أكبر الدول الموجودة في المنطقة العربية والإسلامية في أواخر القرن الرابع الميلادي.
ونحن في هذه السلسلة التاريخية لن نعرض للعقائد الضالة والإلحاد والزندقة التي كان عليها الفاطميون العبيديون، فمحل هذا الكلام في أماكن ومؤلفات أخرى، ولكن سيتم التركيز هنا على العمليات البحرية التي قام بها الفاطميون في سواحل مصر والشام والشمال الإفريقي وعطاؤهم البحري الكبير الذي بوأهم مكانة شامخة في سلم الدولة البحرية، بحيث وضعهم كثير من المؤرخين في مرتبة تالية للأمويين في الاهتمام والتقدم البحري. كما أن الفاطميون قد تعلموا من العواقب الوخيمة لفرض آرائهم وعقائدهم الضالة على الناس مما جرى لهم بأرض المغرب والشمال الأفريقي، فلما استقروا في مصر تركوا الناس وعقائدهم واستعملوا من أهل السنّة الكثير من القادة والعمال، وباستثناء فترة الحاكم الفاطمي ( ت 411هـ ) لم يقم الفاطميون بإجبار الناس على عقائدهم إلا في حالات نادرة.
عوامل تفوق البحرية الفاطمية:
1- منافسة الدولة العباسية، الدولة الفاطمية العبيدية عندما قامت سنة 296هـ بالمغرب رفعت شعار دولة آل البيت ودخلت في منافسة حامية مع الدولة العباسية في المشرق والدولة الأموية في الأندلس وروجت لنفسها كبديل عن الدولة العباسية، ومن أجل ذلك تبنى خلفاء الدولة الفاطمية مبدأ الجهاد من أجل إقامة الحق ورد المظالم بزعمهم، مستغلين بذلك ضعف خلفاء الدولة العباسية وتقاعسهم عن الدفاع عن الثغور الإسلامية إزاء العدوان البيزنطي المتكرر عليها، بل إن المؤرخين أو بعضهم يعلل احتلال الفاطميين لبلاد مصر بأن الروم قد احتلوا معظم ثغور الشام، يقول ابن تغري بردي «كان الروم قد استولوا على الشام والثغور وطرسوس وأنطاكية وأذنة وعين زربة والمصيصة وغيرها». وفي سنة 358هـ تمكن نقفور فوكاس إمبراطور الدولة البيزنطية من احتلال الكثير من مدن الشام، فتغلب على حلب ومعرة النعمان وكفر طاب وشيزر وحماة وحمص وجبلة، فاستغل الفاطميون العبيديون الهجوم البيزنطي لتبرير استيلائهم على بلاد مصر بحجة مقارعة البيزنطيين وطردهم من الشام، وقد عبر عن ذلك المعز لدين الله الفاطمي عندما وصل إلى الإسكندرية واستقبله وجوه الناس وفيهم قاضي مصر أبو طاهر الذهلي فأعلمهم بأنه لم يقدم إلى مصر لزيادة في ملك أو استكثار لرجال، إنما رغبة في الجهاد ونصرة للمسلمين .
من أجل تلك المنافسة بنى الفاطميون أساطيل بحرية قوية وكثيرة من أجل التوسع شرقًا للقضاء على الدولة العباسية الضعيفة وغربًا للإطاحة بالدولة الأموية في الأندلس، وكان لفشل الأساطيل الفاطمية عدة مرات في الاستيلاء على مصر وهزيمتها أمام أساطيل طرسوس العباسية أثر كبير في توجيه الخلفاء الفاطميين كل عنايتهم بالبحرية.
وأمام قوة وثبات الدولة الأموية في الأندلس وتفوقها البحري المعروف لم يجد الفاطميون اتجاه لتوسيع حدودهم الإقليمية سوى ناحية الشرق، فكان احتلال مصر ثم الشام والحجاز.
2- توافر المهارات والخبرات البحرية، وهذا أمر قد أدركه كل من خالط أو نزل بأرض المغرب والشمال الإفريقي، فالنشاط البحري جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية والاقتصادية لسكان تلك البلاد، فامتداد الساحل الإفريقي أثر في طبيعة السكان جعلهم خبراء ومهرة في شئون البحر وأموره قال ابن خلدون:
"والساكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحوال ما لا تعانيه أمة من أمم البحار، فقد كانت الروم والفرنجة والقوط بالعدوة الشمالية من هذا البحر الرومي، وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السفن، فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله ".
3- توافر المواد الخام ودور الصناعة، من الأمور التي ساعدت الفاطميين على إقامة بحرية قوية توافر المواد الخام اللازمة لصناعة السفن من أخشاب وحديد وألياف وقطران ونفط، وهي المواد التي كان الفاطميون يحضرونها من شتى أنحاء دولتهم الكبيرة، فالأخشاب من أشجار صقلية وقبرص وأودية بجاية والعديد من بلاد كتامة [وسط وجنوب الجزائر الآن].
أما دور صناعة السفن فبإضافة لدار الصناعة في تونس والقائمة منذ أيام الأمويين بنى الفاطميون دار صناعة في المهدية سنة 305هـ، دار صناعة في سوسة، ودار صناعة في مدينة مرسى الخرز.
4- كثرة القواعد البحرية في بلاد المغرب، كان لامتداد السواحل التونسية والجزائرية واتصالها شرقًا بسواحل برقة وطرابلس وغربًا بسواحل المغرب الأقصى، أثر كبير في تعدد الموانئ التي تصلح لاتخاذها قواعد بحرية هامة، بالإضافة إلى كثرة الخلجان التي تتعمق في الداخل، مما يجعل القواعد البحرية في حماية من الرياح والتيارات المائية.
5- سيطرة الفاطميين على جزر البحر الأبيض، يتميز البحر الأبيض بانتشار الجزر التي تتراوح بين الكبر والصغر، تلك الجزر كانت من النقاط الإستراتيجية الهامة التي حسمت التفوق البحري لصالح المسلمين ضد البيزنطيين والفرنجة، وقد استطاع الفاطميون السيطرة على عدد كبير من جزر البحر الأبيض في حوضه الغربي، مثلت تلك الجزر ستارة أمامية، أو خطًا دفاعيًا متقدمًا ضد خصوم الدولة على السواحل المغربية، وفي نفس الوقت تكون قواعد هجومية تهدد جنوب أوروبا كله.
فلقد سيطر الفاطميون على صقلية وسردانية وقرشقة ومالطة وقوصرة وملطية وقرقنة وجربة وقملارية، وجزائر الكرات والجامورفي والزرقاء والأحاسي وغير ذلك من الجزر التي ضمت للفاطميين سيطرتهم على البحر المتوسط الغربي.
بعد انتقال الدولة الفاطمية إلى مصر وتمكنها من ضم بلاد الشام حتى حلب وأنطاكية في الشمال سنة 365هـ/976م أصبحت الدولة الفاطمية تمتد من حدود آسيا الصغرى إلى حدود إقليم تلمسان، وقد قسمت الدولة إدارية إلى ستة أقسام:
1- مصر وحدودها تمتد من رفح إلى عقبة السلوم.
2- الشام وتمتد سواحلها من رفح إلى أنطاكية.
3- ليبيا ومراقية، وقد ضمت بعد ثورة أبي ركوة الأموي سنة 396هـ/1005م إلى مصر.
4- طرابلس وتمتد من سرت إلى قابس.
5- إفريقية [تونس] والمغرب الأوسط.
6- صقلية وكانت تابعة لمصر بعد سنة 361هـ، وكانت طرابلس هي مركز اتصالها بالفاطميين في مصر، وكان الأسطول الفاطمي المكلف بحماية وسط البحر المتوسط مركز طرابلس.
كل قسم من تلك الأقسام الست كانت تحمي سواحله أساطيل خاصة به ودور صناعة وديوان بحرية، بحيث يكون كل قسم مستقل بقواته البحرية تقوم بدورها القتالي دفاعًا وهجومًا.
من الأمور التنظيمية التي اعتمدها الفاطميون في إدارة عملياتهم البحرية، إنشاء ديوان الجهاد أو العمائر كان مقره دار الصناعة بمصر، ويختص ذلك الديوان بكل ما يخص الأساطيل الفاطمية من عدد للسفن وأنواعها ورؤساء الطواقم العاملة ورجالها لكل سفينة ونفقة كل واحد منهم، والولاة والمحتسبين والنواب.
إضافة دار صناعة جديدة للدور الأربعة القائمة من قبل عصر الفاطميين، الدار الجديدة كانت في المكس بالإسكندرية، والدار الأخيرة كانت الأضخم والأكثر إنتاجًا للسفن الجديدة، وقد بناها المعز الفاطمي سنة 362هـ لتحمي السواحل المصرية من هجمات البيزنطيين من الشمال والقرامطة من الشرق.
وقد تخصصت كل دار في إنتاج نوع معين من السفن، فدار الصناعة بالروضة كانت متخصصة في بناء السكنديات والحربيات، أما دار الصناعة في دمياط فكانت تنتج المسطحات والأشرعة، ودار الصناعة في الإسكندرية فكانت متخصصة في العلابيات والعشاريات وقوارب الخدمة.
الجدير بالذكر أن دار صناعة المكس تعرضت لحريق مروع في 24 ربيع الآخر سنة 386هـ دُمر فيه الأسطول الكبير الذي كان يتأهب للرحيل إلى طرابلس الشام لوقف تقدم البيزنطيين داخل بلاد الشام، وقد اتضح أن جماعة من الروم المقيمين بالإسكندرية هم من كان وراء الحادث الفظيع، فهاج بحارة الأٍسطول ومعهم العوام وانقضوا على الروم المتآمرين وفتكوا بمعظمهم.
أهم أعمال البحرية الفاطمية:
1- رد هجوم القرامطة، فقد كانت الدولة الأخشيدية تتقي شر قرامطة البحرين بدفع الإتاوة السنوية لهم، فلما حل الفاطميون محل الأخشيدين في الشام رفضوا دفع أي أموال للقرامطة، فاعتزم القرامطة محاربة الفاطميين، وساعدهم في ذلك البويهيون والحمدانيون [لاحظ كلهم من الفرق الشيعة الغالية الضالة التي كانت مثل الأورام السرطانية في جسد الأمة الإسلامية]، وانتصر القرامطة على الفاطميين وأجلوهم عن دمشق ومعظم الشام، وتحركوا نحو مصر وتوغلوا فيها سنة 361هـ حتى صاروا على مشارف القاهرة، فتحركت الأساطيل الفاطمية من المغرب لمساعدة الأساطيل الموجودة بمصر، واستطاعت الأساطيل من استرداد يافا وبعض أجزاء الشام، وقامت بعملية نقل الجنود والإمدادات للجيوش الفاطمية المقاتلة في مصر والشام، حتى انتصر الفاطميون وأجبروا القرامطة على الانسحاب إلى الإحساء .
2- إخماد الثورات في مصر والشام، لم يكن دخول الفاطميين إلى بلاد مصر والشام على هوى سكان البلاد للزندقة والضلال الذي عليه الفاطميون، فاستغل أهل مصر فرصة الحرب بين القرامطة والفاطميين وثاروا في عدة مواضع ضد الحكم الفاطمي، فثار أهل تنيس ضد الوالي الفاطمي سنة 361هـ ورفعوا شعار الدولة العباسية، وثار أهل الفيوم من صعيد مصر، فأرسل الفاطميون أسطولاً نيليًا مكونًا من أربعين سفينة بالرجال والسلاح فقضى على تلك الثورة، وفي سنة 387هـ ثار أهل مدينة صور بقيادة أحد البحارة ولقبه [العلاَّقة] واتخذت ثورتهم شكل الحرب المفتوحة، إذ أرسلت إليهم الدولة الفاطمية عدة أساطيل بحرية من طرابلس وصيدا، وأرسلت جيوشًا برية من دمشق، فاستنصر الثوار بالبيزنطيين، فأرسلوا إليهم أسطولاً كبيرًا، فاشتبكت الأساطيل الفاطمية مع الأسطول البيزنطي وانتصرت عليه، ثم انتصرت على الثوار.
3- محاربة الدولة البيزنطية، لم يكن الأمر يستقر للفاطميين في مصر والشام حتى دهم البيزنطيون بلاد الشام بجيوش جرارة سنة 365هـ بقيادة الإمبراطور حنا تزيمسك الذي تسميه المراجع العربية "الشمشيق" فاحتل البيزنطيون شمال الشام، ثم زحفوا نحو جنوبها فاحتلوا قيسارية وبيروت وجبيل، ولكنهم وقفوا عند طرابلس وفشلوا في اقتحامها بسبب الأسطول الفاطمي المدافع عن المدينة والذي حقق انتصارًا كبيرًا على الأسطول البيزنطي، مما حدا بالأعداء لئن ينسحبوا من جنوب الشام، وفي سنة 383هـ انتصر الأسطول الفاطمي على البيزنطي في مياه الإسكندرية، وأرغمه على الفرار من المعركة، فطارده الأسطول الفاطمي حتى خارج المياه الإقليمية، وعندما حاصر البيزنطيون مدينة طرابلس الشام سنة 389هـ برًا وبحرًا، تصدى الأسطول الفاطمي لفك الحصار، واشتبك مع الأسطول البيزنطي سنة 390هـ وأجبره على الانسحاب وفك الحصار.
ومنذ طليعة القرن الخامس الهجري ساد السلام بين الفاطميين والبيزنطيين بسبب ظهور قوة السلاجقة الأتراك، وتوقف القتال بين أساطيل الدولتين حتى دهم الصليبيون الفرنجة بلاد الشام.
البحرية الفاطمية والحملات الصليبية:
لم تظل البحرية الفاطمية على نفس مستوى القوة والسيادة البحرية طوال عمر الدولة، بل بدأ الضعف يدخلها مع بداية ضعف الدولة الفاطمية في عهد خليفتهم المستنصر بالله [427هـ - 487هـ[، بسبب ظهور السلاجقة الأتراك على الساحل ووصول نفوذهم إلى بلاد الشام، مما أدى لزعزعة سلطان الفاطميين بالشام، وتعتبر سنة 462هـ سنة النكبة للدولة الفاطمية، إذ أعلنت معظم مدن الشام الداخلية والساحلية استقلالها عن الدولة الفاطمية، وحاول الأمير بدر الجمالي صاحب الأمر والنهي الحقيقي في الدولة الفاطمية استرجاع بعض السواحل الشمالية ولكنه فشل ونجح ولده الأمير الأفضل بن بدر في استرجاع بيت المقدس وصور، وفي تلك الفترة هجمت الحملات الصليبية على الشام.عندما هجم الصليبيون على الشام لم يكن للفاطميين أي قواعد بحرية بالشام سوى عسقلان وفي البداية فرح الفاطميون بما جرى لأهل الشام على يد الصليبيين تشفيًا وحقدًا منهم لخروجهم عن طاعة الفاطميين، بل اعتبر الفاطميون الصليبيين حلفاء لهم ضد السلاجقة الأتراك، لذلك ذهب بعض المؤرخين للقول أن الفاطميين هم من استدعى الصليبيين إلى بلاد الشام لوقف زحف السلاجقة نحو مصر.
أفاق الفاطميون من سكرة تشفيهم بأهل الشام وشعروا بفداحة خطئهم بعدم التحرك لنجدة أهل الشام، وخرج الأمير الأفضل بجيش كبير بقصد استرداد بيت المقدس، ونزل بظاهر عسقلان انتظارًا لقدوم الأسطول الفاطمي من الإسكندرية فانتهز الصليبيون الفرصة وهجموا عليه وهزموه شر هزيمة، ومع ذلك حاول الفاطميون بعد ذلك عدة مرات استرجاع بعض بلاد الشام انطلاقًا من عسقلان القاعدة البحرية المتبقية للفاطميين بالشام، وحاولت الأساطيل الفاطمية الإغارة على يافا سنة 497هـ لاستردادها ولكن فشلت، ولما حاصر الصليبيون طرابلس سنة 500هـ قام الأسطول الفاطمي المصري بتزويد المدينة بالأقوات والمؤن، ثم قام الأسطول نفسه بالدفاع عن صيدا سنة 501هـ، ثم الدفاع عن بيروت سنة 503هـ، وصور سنة 518هـ، ولكنها كلها كانت محاولات يائسة فشل فيها الأسطول الفاطمي في منع سقوط تلك المدن كلها بيد الصليبيين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم