دور التاريخ الإسلامي في تثبيت العدل وتحقيقه

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-07-28 - 1445/01/10 2023-08-03 - 1445/01/16
عناصر الخطبة
1/الإسلام دين العدل 2/تاريخ الإسلام في إقامة العدل والحث على تحقيقه 3/بعض صور عدالة الإسلام 4/ثمار ترسيخ الإسلام للعدل.

اقتباس

إِنَّ قِصَصَ الْعَدْلِ فِي الْإِسْلَامِ عَجِيبَةٌ!, وَلَوْلَا أَنْ دَوَّنَتْهَا كُتُبُ التَّارِيخِ؛ لَقِيلَ: إِنَّهَا ضَرْبٌ مِنَ الْخَيَالِ, فَهَلْ سَمِعْتُمْ -عِبَادَ اللهِ- فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ يَجْلِسُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ مَعَ أَحَدٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ؛ بَلْ مَعَ رَجُلٍ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ, ثُمَّ يَحْكُمُ الْقَاضِي عَلَى...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- بَعَثَ رُسُلَهُ لِتَحْقِيقِ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ؛ (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد: 25]؛ "(وَالْمِيزَانَ) وَهُوَ الْعَدْلُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. وَالدِّينُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ كُلُّهُ عَدْلٌ وَقِسْطٌ؛ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي, وَفِي مُعَامَلَاتِ الْخَلْقِ، وَفِي الْجِنَايَاتِ وَالْقِصَاصِ, وَالْحُدُودِ وَالْمَوَارِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ"[تفسير السعدي].

 

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: "أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ, وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي بِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ, فَإِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْعَدْلِ وَتَبَيَّنَ وَجْهُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ؛ فَثَمَّ شَرْعُ اللهِ وَدِينُهُ".

 

إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ صِدْقٍ وَعَدْلٍ؛ صِدْقٌ فِي أَخْبَارِهِ, عَدْلٌ فِي أَحْكَامِهِ؛ (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لِكَلِمَـاتِهِ)[الأنعام:115], وَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ بِالْعَدْلِ: (وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)[الشورى:15]، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)[النحل: 90], وَالْعَدْلُ مَطْلُوبٌ حَتَّى فِي الْأَقْوَالِ؛ (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)[الأنعام:152], كَمَا أَنَّهُ مَطْلُوبٌ فِي الْأَفْعَالِ؛ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)[النساء:58], فَلَا أَحْكَمَ وَلَا أَعْدَلَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ, يَسَعُ عَدْلُهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ, الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ, الرَّاعِيَ وَالرَّعِيَّةَ, الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ, الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ, وَكُلُّ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ قِسْطٌ وَعَدْلٌ؛ فِي الْعِبَادَاتِ, وَالْمُعَامَلَاتِ, وَالْحُقُوقِ وَالتَّشْرِيعَاتِ.

 

الْعَدْلُ مَأْمُورٌ بِهِ الْمُسْلِمُ وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ لِخَصْمِهِ, قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)[النساء:135]؛ "أَيِ: اشْهَدْ بِالْحَقِّ  وَلَوْ عَادَ ضَرَرُ الشَّهَادَةِ عَلَيْكَ, وَإِذَا سُئِلْتَ عَنِ الْأَمْرِ فَقُلِ الْحَقَّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَضَرَّةً عَلَيْكَ... وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى وَالِدَيْكَ وَقَرَابَتِكَ، فَلَا تُرَاعِهِمْ فِيهَا، بَلِ اشْهَدْ بِالْحَقِّ وَإِنْ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْهِمْ!"[تفسير ابن كثير].

 

عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ حَثَّ نَبِيُّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَى الْعَدْلِ, وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ خَيْرًا؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ, الَّذِينَ يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأَهْلِيْهِم وَمَا وَلُوا"[رواه مسلم], وَكَانَتْ سِيرَتُهُ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- مِثَالاً عَظِيمًا فِي تَحْقِيقِ الْعَدْلِ وَتَثْبِيتِهِ وَإِشَاعَتِهِ, عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي، فَقَالَ: "أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟", قَالَ: لَا, قَالَ: "فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي؛ لا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ؛ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ"[متفق عليه].

 

وَيُعْلِنُهَا نَبِيُّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِلنَّاسِ جَمِيعًا؛ أَلَّا مُحَابَاةَ وَلَا مُجَامَلَةَ فِي تَطْبِيقِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ, وَلَوْ عَلَى أَحَبِّ النَّاسِ إِلَى قَلْبِهِ؛ فَإِنَّ قرَيشًا لمَّا أهَمَّهُمْ شَأنُ المَرأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ, كَلَّمُوا فِي شَأْنِهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ, فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى؟!", ثُمَّ قامَ فَاخْتَطَبَ, ثُمَّ قَالَ: "إنَّمَا أهْلَك مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ, وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ, وَايْمُ اللهِ, لَوْ أَنَّ فَاطمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"[متفقٌ عَلَيْهِ]؛ فَمَا أَعْظَمَ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ!

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: بِعَدْلِ الْإِسْلَامِ سَادَ أَجْدَادُكُمُ الدُّنْيَا, وَأَقَامُوا دَوْلَةَ الْعَدْلِ الَّتِي أَمِنَ فِيهَا النَّاسُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ, وَفَتَحَ أَهْلُ الْبُلْدَانِ لَهُمُ الْقُلُوبَ قَبْلَ الْأَبْوَابِ, فَهَا هُوَ الْخَلِيفَةُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُعْلِنُ لِلنَّاسِ أُسُسَ حُكْمِهِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فِي خِلَافَتِهِ قَائِلاً: "أَيُّهَا النَّاسُ! الضَّعِيفُ مِنْكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُزِيحَ عِلَّتَهُ إِنْ شَاءَ اللهُ, وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ مِنْهُ الْحَقَّ إِنْ شَاءَ اللهُ"[البداية والنهاية].

 

وَأَمَّا الْفَارُوقُ عُمَرُ فَقَدْ صَارَتْ سِيرَتُهُ عُنْوَانًا لِلْعَدْلِ, فَمِنْ عَدْلِهِ: أَنَّ إِيَاسَ بْنَ سَلَمَةَ يَحْكِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: "مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي السُّوقِ وَمَعَهُ الدِّرَّةُ، فَخَفَقَنِي بِهَا خَفْقَةً، فَأَصَابَ طَرَفَ ثَوْبِي، فَقَالَ: أَمِطْ عَنِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ لَقِيَنِي, فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ! تُرِيدَ الْحَجَّ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى مَنْزِلِهِ؛ فَأَعْطَانِي سِتَّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: اسْتَعِنْ بِهَا عَلَى حَجِّكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهَا بِالْخَفْقَةِ الَّتِي خَفَقْتُكَ، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَا ذَكَرْتُهَا! قَالَ: وَأَنَا مَا نَسِيتُهَا"[تاريخ الطبري].

 

عُمَرُ الْفَارُوقُ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي فَتَحَ فَارِسَ وَالرُّومَ, تَأْتِيهِ غَنَائِمُهَا وَخَيْرَاتُهَا, فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيُوَزِّعَهَا عَلَى النَّاسِ, وَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْ رَعِيَّتِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الرَّفَهِ وَالْبَذَخِ؛ لَا قَصْرَ وَلَا مَلْبَسَ وَلَا مَرْكَبَ وَلَا حَرَسَ! يَأْتِي الْهُرْمُزَانُ رَسُولُ كِسْرَى إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُقَابِلَ الْخَلِيفَةَ الَّذِي مَلَأَ صِيتُهُ الْأَرْضَ, فَيَسْأَلُ: "أَيْنَ عُمَرُ؟ فَقَالُوا: هُوَ ذَا نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ, وَجَعَلَ الْهُرْمُزَانُ يَقُولُ: وَأَيْنَ حُجَّابُهُ؟ أَيْنَ حَرَسُهُ؟! فَقَالُوا: لَيْسَ لَهُ حُجَّابٌ وَلَا حَرَسٌ، وَلَا كَاتِبٌ وَلَا دِيوَانٌ؛ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا!"[البداية والنهاية]. لَقَدْ أَذْهَلَهُ مَا رَأَى مِنِ اطْمِئْنَانِهِ وَتَوَاضُعِهِ وَبَسَاطَةِ عَيْشِهِ, وَكَانَ يَظُنُّ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَرَى الْخَلِيفَةَ فِي قَصْرِهِ الْمُنِيفِ, بَيْنَ خَدَمِهِ وَحَرَسِهِ؛ كَمَا هُوَ الْحَالُ عِنْدَ مُلُوكِ فَارِسَ وَالرُّومِ!.

 

فَهَانَ فِي عَيْنِهِ مَا كَانَ يُكْبِرُهُ***مِنَ الأَكَاسِرِ وَالدُّنْيَا بِأَيْدِيهَا

وَقَالَ قَوْلَةَ حَقٍّ أَصْبَحَتْ مَثَلًا *** وَأَصْبَحَ الْجِيلُ بَعْدَ الْجِيلِ يَرْوِيهَا

أَمِنْتَ لَمَّا أَقَمْتَ الْعَدْلَ بَيْنَهُمُ*** فَنِمْتَ نَوْمَ قَرِيرِ الْعَيْنِ هَانِيهَا

 

إِنَّ قِصَصَ الْعَدْلِ فِي الْإِسْلَامِ عَجِيبَةٌ!, وَلَوْلَا أَنْ دَوَّنَتْهَا كُتُبُ التَّارِيخِ؛ لَقِيلَ: إِنَّهَا ضَرْبٌ مِنَ الْخَيَالِ, فَهَلْ سَمِعْتُمْ -عِبَادَ اللهِ- فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ يَجْلِسُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ مَعَ أَحَدٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ؛ بَلْ مَعَ رَجُلٍ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ, ثُمَّ يَحْكُمُ الْقَاضِي عَلَى الْخَلِيفَةِ لِصَالِحِ خَصْمِهِ؛ فَيَرْضَى بِالْحُكْمِ دُونَ أَنْ يَحْمِلَ حِقْدًا أَوْ ضَغِينَةً, أَوْ يُبَيِّتَ لِخَصْمِهِ شَرًّا فِي نَفْسِهِ!, "خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى السُّوقِ, فَإِذَا هُوَ بِنَصْرَانِيٍّ يَبِيعُ دِرْعًا، فَعَرَفَ عَلِيٌّ الدِّرْعَ؛ فَقَالَ: هَذِهِ دِرْعِي، بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: وَكَانَ قَاضِيَ الْمُسْلِمِينَ شُرَيْحٌ... فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَا شُرَيْحُ، هَذِهِ دِرْعِي ذَهَبَتْ مِنِّي مُنْذُ زَمَانٍ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: مَا تَقُولُ يَا نَصْرَانِيُّ؟ فَقَالَ: الدِّرْعُ هِيَ دِرْعِي, فَقَالَ شُرَيْحٌ: مَا أَرَى أَنْ تُخْرَجَ مِنْ يَدِهِ، فَهَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ؟, فَقَالَ عَلِيٌّ: صَدَقَ شُرَيْحٌ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: أَمَّا أَنَا أَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الْأَنْبِيَاءِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَجِيءُ إِلَى قَاضِيهِ، وَقَاضِيهِ يَقْضِي عَلَيْهِ, هِيَ وَاللهِ -يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- دِرْعُكَ، اتَّبَعْتُكَ مِنَ الْجَيْشِ وَقَدْ زَالَتْ عَنْ جَمَلِكَ الْأَوْرَقِ، فَأَخَذْتُهَا، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَمَّا إِذَا أَسْلَمْتَ فَهِيَ لَكَ"[السنن الكبرى].

 

اللهُ أَكْبَرُ! وَاللهِ لَا نَدْرِي مِمَّا نَعْجَبُ؛ أَنَعْجَبُ مِنْ مَوْقِفِ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ أَمْ مِنْ خَلِيفَتِهِمْ؟! إِنَّهُ قَضَاءُ الْإِسْلَامِ وَعَدْلُهُ؛ لَا ظُلْمَ فِيهِ وَلَا هَوًى, لَا تَزَلُّفَ وَلَا مُحَابَاةَ!.

 

لَقَدْ فَهِمَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّ رِسَالَةَ الْإِسْلَامِ رِسَالَةُ عَدْلٍ لِلْبَشَرِيَّةِ؛ فَفِي غَزْوَةِ الْقَادِسِيَّةِ سَأَلَ رُسْتُمُ رِبْعِيَّ بْنَ عَامِرٍ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَقَالَ: "اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ"[البداية والنهاية]. هَكَذَا هِيَ فُتُوحَاتُ الْمُسْلِمِينَ؛ عَدْلٌ وَرَحْمَةٌ.

 

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المائدة:8].

 

أَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْحِصْنُ الْحَصِينُ لِلْأُمَّةِ, يَحْفَظُ لَهَا سِيَادَتَهَا عَلَى الْأُمَمِ, وَيَنْعَمُ فِي ظِلِّهِ النَّاسُ بِالْأَمْنِ, وَبِهِ تَرْتَفِعُ الضَّغَائِنُ وَالْأَحْقَادُ, وَتَجْتَمِعُ الْقُلُوبُ وَتَتَآلَفُ, "كَتَبَ بَعْضُ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ مَدِينَتَنَا قَدْ خَرِبَتْ، فَإِن رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقْطَعَ لَهَا مَالًا يَرُمُّهَا بِهِ فَعَلَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَمَّا بَعْدُ؛ قَدْ فَهِمْتُ كِتَابَكَ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَحَصِّنْهَا بِالْعَدْلِ، وَنَقِّ طُرُقَهَا مِنَ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّهُ مَرَمَّتُهَا, وَالسَّلَامُ"[حلية الأولياء].

 

بِالْعَدْلِ يَعُمُّ الْخَيْرُ, وَتَحُلُّ الْبَرَكَةُ, وَيَكُونُ الرَّخَاءُ, "وُجِدَ فِي خَزَائِنِ بَعْضِ بَنِي أُمَيَّةَ صُرَّةٌ فِيهَا حِنْطَةٌ, أَمْثَالُ نَوَى التَّمْرِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: هَذَا كَانَ يَنْبُتُ أَيَّامَ الْعَدْلِ"[زاد المعاد].

 

إِنَّ الْعَدْلَ أَسَاسُ الْمُلْكِ, بِهِ تَبْقَى الدُّوَلُ, وَبِدُونِهِ تَزُولُ, قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "إنَّ اللَّهَ يُقِيمُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً, وَلَا يُقِيمُ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً".

 

عَلَيْكَ بِالْعَدْلِ إِنْ وُلِّيتَ مَمْلَكَةً***وَاحْذَرْ مِنَ الجَوْرِ فِيهَا غَايَةَ الحَذَرِ

فَالْمُلْكُ يَبْقَى عَلَى عَدْلِ الْكَفُورِ وَلَا***يَبْقَى مَعَ الجَوْرِ فِي بَدْوٍ وَلَا حَضَرِ

 

وَلَمَّا رَأَى النَّاسُ عَدْلَ الْفَاتِحِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا, وَفَدَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ سَمْرَقَنْدَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَشَكَوْا إلَيْهِ أَنَّ قُتَيْبَةَ دَخَلَ مَدِينَتَهُمْ وَأَسْكَنَهَا الْمُسْلِمِينَ عَلَى غَدْرٍ -أَيْ: افْتَتَحَهَا دُونِ أَنْ يَدْعُوَ أَهْلَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْجِزْيَةِ، ثُمَّ يُمْهِلَهُمْ ثَلَاثًا كَعَادَةِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الْقِتَالِ-, "فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَامِلِهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَنْصِبَ لَهُمْ قَاضِيًا يَنْظُرُ فِيمَا ذَكَرُوا، فَإِنْ قَضَى بِإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ أُخْرِجُوا, فَنَصَبَ لَهُمْ جُمَيْعَ الْبَاجِيَّ، فَحَكَمَ بِإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يُنَابِذُوهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، فَكَرِهَ أَهْلُ مَدِينَةِ سَمْرَقَنْدَ الْحَرْبَ، وَأَقَرُّوا الْمُسْلِمِينَ، فَأَقَامُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِم"[فُتوحِ البُلْدان]. فَلَمَّا رَأَوْا هَذَا الْعَدْلَ الْعَجِيبَ دَخَلَ أَغْلَبُهُمْ فِي دِينِ اللهِ!.

 

أَلَا طُوَبى لِلْمُقْسِطِينَ؛ حَيَاتُهُمْ كُلُّهَا طَيِّبَةٌ, أَمَانٌ فِي الدُّنْيَا وَرَخَاءٌ, وَأَمْنٌ فِي الْآخِرَةِ وَعَلْيَاءٌ!  

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

المرفقات

دور التاريخ الإسلامي في تثبيت العدل وتحقيقه.doc

دور التاريخ الإسلامي في تثبيت العدل وتحقيقه.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات