اقتباس
فرقٌ كبيرٌ بين مَن يؤدّي الصلاةَ لعِلمِه باضطراره إلى هذا السبب الذي يَصِله بربه، يفتح له أبواباً مِن المناجاة والانطراح بين يدي الرب -جل جلاله- فرق بين هذا ـ وبين من يؤديها خوفاً مِن إثم تركها، وفي كلٍّ خير، ولكن بين الاثنين في هذا الأمر كما بين المشرق والمغرب.
كنتُ جالساً معه في مسجد نمرة، هناك حيث يقفُ الحجاجُّ على صعيدِ عرفات الطاهر، إنسانٌ تعرف مِن ملامحه أنه ذو مكانةٍ علمية مرموقة، متفوِّق في عَمَله،ناجح في حياته، كلُّ أسبابِ السعادةِ متوفرةٌ لديه: مالٌ، شهادات، وهو ـ أيضاً ـ شخصيةٌ محبوبة.. فجأة! ـ ونحن في المسجد ـ رأينا شخصاً يدعو، يُلِحُّ في الدعاء، يبتهل، كان قائماً فأجهش في البكاء، فقعد ثم انخرط في بكاءٍ طويل تُقطِّعه الدعوات!
نظَرَ إليّ صاحبي ودمْعُه يتحدّر من عينيه وقال: خذ أموالي، خذ شهاداتي،..وأعطني لحظة روحانية كهذه، ثم سَكَتَ وسَكتّ.([1])
إنه لمَشهدٌ عظيم، يوم ترى العبدَ يعيش حالةَ الذلِّ والافتقار للواحدِ القهار!
إنه لمشهد طالما فقدَه الكثيرون، وتمنَّاه الكثيرون، كيف لاوهو غايةُ العز، وغاية الفخر والشرف!
إنه لمشهد لا يحصل بالأموال.. ولا بالشهادات.. ولا تجلبه المناصب..
إنها لحظات يتمنى مَن في قلوبهم بقيةُ حياةٍ-ممن فقدوا هذه اللحظات- أن يعيشوه كما تمناه صاحبنا هذا!
وأجزم أن هذه اللحظات يتمناها كل مؤمن.. ولكن السؤال: لماذا لا يجدها الكثيرون؟ولماذا فقدوها؟ لماذا أصبحت العبادات -عند كثيرين- مَظهراً بلا مخبَر! وصورةً بلا حقيقة! وجسداً بلا روح؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه ـ باختصار ـ في هذه المقالة، مِن خلال تسليط الضوءِ على أبرز الأسباب التي حالت بيننا وبين الحصول على لذةِ التعبد، هي:
1 ـ الذنوب والمعاصي: فكم أذهبتْ هذه الذنوبُ لذةَ المناجاة! وكم أفقدتْ بهاءَ الضراعة!
يقول ابن القيم ـ وهو يتحدث عن أضرار الذنوب والمعاصي ـ: "ومنها: وِحشةٌ يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله، لا يوازنها ولا يقارنها لذةٌ أصلاً، ولو اجتمعتْ له لذاتُ الدنيا بأسرها لم تَفِ بتلك الوحشة، وهذا أمرٌ لا يُحس به إلا مَنْ في قلبه حياة! وما لجرحٍ بميت إيلامُ! فلو لم يترك الذنوبَ إلا حذراً من وقوع تلك الوحشة لكان العاقل حرياً بتركها، فليس على القلب أمرَّ من وحشة الذنب على الذنب"([2]).
2 ـ ضعف العلم بمنزلة العبادة التي نعملها:فإن تعظيمَ الشيء فرعٌ عن تصوُّر حقيقته، فكيف يُرجى مِن شخصٍ أن يعظِّم أمرَ العبادة التي يمارسها وهو لا يعرف منزلتَها؟ وكيف يُتصوَّر مِن شخصٍ أن يعظِّم قدْرَ الصلاةِ وهو لا يعرف منزلتها في الدين؟أم كيف يُنتَظَر مِن شخصٍ أن يتنعم بالقرآن ويهتدي به؛ومجرد التعظيم الذي عنده قريبٌ من التعظيم النظري، فلا هو بالذي يتلوه ولو مجرد تلاوةٍ أصلاً، فضلاً عن أن يعالج به أمراضَ قلبه! وأدواءَ نفسه!
فرقٌ كبيرٌ بين مَن يؤدّي الصلاةَ لعِلمِه باضطراره إلى هذا السبب الذي يَصِله بربه، يفتح له أبواباً مِن المناجاة والانطراح بين يدي الرب -جل جلاله- فرق بين هذا ـ وبين من يؤديها خوفاً مِن إثم تركها، وفي كلٍّ خير، ولكن بين الاثنين في هذا الأمر كما بين المشرق والمغرب.
3 ـ قلةالعلم بالاضطرار إلى عبادة الله، والإقبال عليه، وتعظيمه، والخضوع له، والتذلل بين يديه، والاستكانة له، وهو ما يُعبِّر عنه العلماءُ بـ(عبودية الافتقار)، والتي نصّت عليها الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر: 15]
تلك المنزلةُ الجليلةُ مِن منازل العبودية، والتي هي سرُّ حياة القلب، وأساسُ إقباله على ربه تعالى؛ فالافتقار حادٍ يحدو العبدَ إلى ملازمةِ التقوى ومداومةِ الطاعة، ويتحقق ذلك بأمرين متلازمين؛ هما:التأمل في عظمةِ الخالق، والتفكر في ضعف المخلوق وعجزه.
أما التأمل في عظمةِ الخالق وقدرته، فكلما كان العبد أعلمَ بالله تعالى وصفاته وأسمائه كان أعظمَ افتقاراً إليه وتذللاً بين يديه، قال الفضيل بن عياض: "رهبةُ العبدِ مِن الله على قدْر عِلمِه باللّه"([3]).
وأما إدراكُ ضعفِ المخلوق وعجزِه: فمَن عرف قدرَ نفسه، وأنَّه مهما بلغ في الجاه والسلطان والمال فهو عاجزٌ ضعيفٌ لا يملك لنفسه صرفاً ولا عدلاً؛ تصاغرت نفسُه، وذهب كبرياؤه، وذلَّت جوارحُه، وعظُم افتقارُه لمولاه، والتجاؤه إليه، وتضرُّعه بين يديه.
إن للافتقار إلى الله علامات، إن وُفِّق لها العبدُ فليحمَدِ الله عليها، وإن وَجَد بعضَها فليبحث عن الباقي، قبل أن يأتي وقتٌ على قلبه لا يبالي ـ حينئذٍ ـ بما فَقَد منها، ولا بالسؤال عنها:
العلامة الأولى:أن تعبد ربَّك بحبٍ عظيم، وذلٍّ تام:مستسلماً لأمره، منقاداً لشرعه، لا تُقدِّم على أمرِ ربك وأمرِ رسوله -صلى الله عليه وسلم- أحداً لا نفسك ولا غيرها، مهتدياً بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب: 36].
العلامة الثانية: مداومةُ الذكر والاستغفار والثناء عليه سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى في كل حالٍ مِن أحواله، وديمومةُ التوبة والاستغفار عن الزلل أو التقصير، تجد لذَّتك وأنس قلبك بتلاوة القرآن، وترى راحتَك وسكينتَك بمناجاة الرحمن، ومقتضى مداومة الذكر والاستغفار أن العبدَ لا يركن إلى نفسه، ولا يطمئن إلى حوْلِه وقوَّته، ولا يَثِق بماله وجاهه وصحته، بل لا يثق بغير ربه، وحسبك أن تتأمل في معاني سيد الاستغفار تجد عجباً.
العلامة الثالثة:الوَجَلُ من عدم قبول العمل: فمع إقبال العبد على الطاعات، والتقرب لربه بأنواع القربات؛ إلا أنه مشفِقٌ على نفسه أشدَّ الإشفاقِ، يخشى أن يُحرَم من القبول، ويطولُ عَجَبُك من حال عمر الفاروق -رضي الله عنه- كيف يخشى النفاقَ على نفسه؟ وهو الذي بشّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة مراراً؟! وسيزول العجب إذا عرفتَ أن العبد كلما ازداد عبوديةً وافتقاراً إلى ربه ازداد ازدراءً للنفس وخوفاً عليها،وتعلَّق قلبُه بربه سبحانه وتعالى.
العلامة الرابعة: خشيةُ اللّه في السرِّ والعلن: فهذه من أعظم آياتِ الافتقار والفاقة إليه سبحانه، فمَن عرف اللهَ تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وتفكَّرفي عظَمَتِه وجبروتِه، وسلطانه الذي لا يُقهَر، وعينِه التي لا تنام؛خاف منه حق الخوف، ومَن كانت هذه هي حالُه رأيتَه متيقِّظ القلب، يرتجف خشيةً وإشفاقاً، دائمَ المناجاة لربه، يستجير به ويستغيث استغاثة المفتقر الذليل.
والله الموفق.
-------
([1]) هذا الموقف ذكره كاتب مقال (خواطر حاج) نشر في مجلة البيان بعنوان: العدد (136)، ص: 107.
([2]) الجواب الكافي: (57-58).
([3]) الزهد لابن أبي الدنيا (ص: 146).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم