دليل النخبة إلى أحكام الخطبة (1-2)

عدنان المقطري

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحكام الخطبة

اقتباس

أن النبي -صلى الله عليه وسلم-اختار أن يتولى خطبة الجمعة بنفسه، فالإمامة والخطابة مهام اختار النبي-صلى الله عليه وسلم-أن يتولاها بنفسه، وهذه مزية لخطبة الجمعة أيضاً، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-قال: كان النبي-صلى الله عليه وسلم-يخطب قائماً، ثم يقعد، ثم يقوم كما تفعلون"

 

 

 

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:

 

فإن نعم الله –تعالى-على هذه الأمة عظيمة وكثيرة، قال تعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا...) [إبراهيم: 34].

 

ومن أعظم النعم التي اختص بها دين الإسلام، وتميز بها عن غيره من الأديان؛ الجمعة وخطبتها، فهي موعظة أسبوعية عامة، توقظ القلوب الغافلة، وتشحذ الهمم العالية، وتصل النفوس بخالقها-جل وعلا-لتعبد ربها على علم وبصيرة حتى يأتيها اليقين، كل ذلك وغيره من الفوائد الكثيرة؛ إنما يدل على أهميتها، والحاجة إلى العناية بها. وإنما تتحقق هذه الفوائد وغيرها؛ إذا توفر للخطيب ما هو مطلوب من الشروط والأركان والسنن، وخلت مما لم يشرِّعه الله-تعالى-من الأمور المحرمة والمبتدعة، فكانت وفق هدي النبي-صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه، والسلف الصالح من هذه الأمة.

 

ومن هذا المنطلق كانت هذه السلسلة التي تُعني بأحكام الخطبة، والتي أقدمها لإخواني الدعاة والخطباء الأكارم، صفوة المجتمع، وزبدة المسلمين، راجياً من الله-تعالى-أن يكتب لي الأجر، ويرزقني الإخلاص.

 

تعريف الخطبة:

 

أولا: تعريفها في اللغة: الخُطْبَةُ: هي بضم الخاء، وهي ما يُقال على المنبر، يُقال: خَطَبَ على المنبر خُطْبَة -بضم الخاء -وخَطَابة، وأما خِطْبَة-بكسر الخاء-فهي طلب نكاح المرأة.

 

وهي مشتقة من المخاطبة، وقيل: من الخطب، وهو (الأمر العظيم)؛ لأنهم كانوا لا يجعلونها إلا عنده.

 

قال في تهذيب اللغة: (7 / 246): "والخطبة مصدر الخطيب، وهو يخطب المرأة ويخطِبُها خِطبة وخِطِّيبى . . . قلت: والذي قال الليث أن الخطبة مصدر الخطيب لا يجوز إلا على وجه واحد، وهو أن الخُطبة اسم للكلام الذي يتكلم به الخطيب، فيوضع موضع المصدر، والعرب تقول: فلانٌ خِطْبُ فلانة، إذا كان يخطبها.

 

وقال في القاموس (1/ 65): " وخَطَبَ الخاطب على المِنْبَر خَطابة بالفتح، وخُطبة بالضم، وذلك الكلام خُطبة أيضاً، أو هي الكلام المنثور المُسَجَّع ونحوه، ورجل خَطِيبٌ حسن الخُطبة بالضم ".

 

وقال في مختار الصحاح (76): "خاطَبَه بالسلام مُخَاطَبة وخِطَاباً، وخطب على المنبر خُطْبَة-بضم الخاء-وخَطَابة، وخَطَب المرأة في النكاح خِطْبَة-بكسر الخاء-يخْطُبُ بضم الخاء فيهما، واختَطَبَ أيضا فيهما، وخَطُبَ من باب ظَرُفَ صار خطيباً "

 

وقال في المصباح (1/ 173): "خَاطَبَه مُخَاطَبَة وخِطَابا، وهو الكلام بين متكلم وسامع، ومنه اشتقاق الخُطبَة-بضم الخاء وكسرها-باختلاف معنيين، فيُقال في الموعظة: خَطَبَ القوم وعليهم من باب قتل، خُطبة -بالضم -، وهي فُعلة بمعنى مفعولة، وجمعها خُطب، وهو خطيب القوم إذا كان هو المتكلم عنهم، وخَطَبَ المرأة إلى القوم؛ إذا طلب أن يتزوج منهم، واختطبها، والاسم الخِطْبة -بالكسر -...).

 

وقال في حلية الفقهاء(87): "وأما الخُطْبة فاشتقاقها من المُخاطبة، ولا تكون المخاطبة إلا بالكلام بين المُخاطَبين، وكذلك خِطْبَة النكاح، وقال قوم: إنما سمِّيتْ الخُطبة؛ لأنهم كانوا لا يجعلونها إلا في الخَطْب والأمر العظيم، فلهذا سميت خُطْبة ".

 

ثانيا: تعريفها في الاصطلاح:

 

عرَّفها بعضهم بأنَّها: الكلام المؤلف المُتضمِّن وعظاً وإبلاغاً. ولكن هذا فيه إجمال.

 

وأوضح منه تعريف من قال: إنها قياس مركب من مقدمات مقبولة أو مظنونة، من شخص معتقد فيه، والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم.

 

وعرَّف بعض المعاصرين الخطابة: بأنها فنّ من فنون الكلام، يقصد به التأثير في الجمهور عن طريق السمع والبصر معاً. وقال الشيخ عبد العزيز الحجيلان-بعد ذكره لهذه التعريفات-في كتابه خطبة الجمعة وأحكامها الفقهية(21): "ولكن بعد تأمل ما تقدم ذكره من التعريف اللغوي والتعاريف الأخرى، وبناءً على ما ترجح في أحكامها يمكن أن أعرّفها تعريفاً تقريبياً بأنَّها: ما يُلقى من الكلام المتوالي الواعظ باللغة العربية قبيل صلاة الجمعة بعد دخول وقتها بنية، جهراً، قياماً مع القدرة، على عدد يتحقق بهم المقصود".

 

مكانة خطبة الجمعة في الإسلام:

 

لخطبة الجمعة في الإسلام منزلة عظيمة، يتبين ذلك من خلال ما يأتي:

 

أولاً : كان تشريع خطبة الجمعة في أعظم أيام الأسبوع، وجعلها أيضاً قرينة لصلاة الجمعة، وسابقة لها، بل ونسبتها إلى هذا اليوم الفضيل، وتسميتها بخطبة الجمعة من أول الدلائل التي تدل على مكانة هذه الشعيرة العظيمة، بل عد الإمام ابن القيم-رحمه الله–خطبة الجمعة من خصائص هذا اليوم الكريم فقال-رحمه الله-: "الثانية والعشرون: أنَّ فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولرسوله-صلى الله عليه و سلم-بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنانه، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره ،فهذا هو مقصود الخطبة، والاجتماع لها". زاد المعاد في هدي خير العباد (1/386).

 

ولا خلاف بين العلماء أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وأنه خير يوم طلعت فيه الشمس، فعن أبي هريرة -رضى الله عنه-أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم عليه السلام، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة" [مسلم: 854].

 

ثانياً: القول إنَّ خطبة الجمعة شرط لصحة الجمعة: وبه قال الأئمة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد-رحمهم الله تعالى-وسيأتي تحقيق المسألة إن شاء الله.

 

ثالثاً : أن الله-سبحانه وتعالى-ندب لها، وذم من انشغل عنها بغيرها، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [الجمعة: 9 -11]، فقد رجح الإمام القرطبي وغيره أن المراد بذكر الله في الآية: خطبة الجمعة، حيث قال في تفسير قول الله-سبحانه-: (إلى ذكر الله ): أي الصلاة، وقيل الخطبة والمواعظ، قاله سعيد بن جبير، ابن العربي والصحيح أنه واجب في الجميع ، وأوله الخطبة ، وبه قال علماؤنا).[تفسير القرطبي:10/16].

 

رابعاً: أن النبي-صلى الله عليه وسلم-اختار أن يتولى خطبة الجمعة بنفسه، فالإمامة والخطابة مهام اختار النبي-صلى الله عليه وسلم-أن يتولاها بنفسه، وهذه مزية لخطبة الجمعة أيضاً، فعن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: كان النبي-صلى الله عليه وسلم-يخطب قائماً، ثم يقعد، ثم يقوم كما تفعلون) [البخاري: 920]، و[مسلم: 861].

 

بل تعدت خطب النَّبي-صلى الله عليه وسلم-التي خطبها في أصحابها الألفي خطبة، وبذلك صرح الصحابي الجليل جابر بن سمرة-رضي الله عنه-فقد أخبر "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً. فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة) [مسلم: 862].

 

ثم إن من اهتمام النَّبي-صلى الله عليه وسلم-بالجمعة قبل أن يصل المدينة في هجرته المباركة، حيث أرسل صاحبه مصعب بن عمير-رضي الله عنه-إلى المدينة؛ ليعلمهم الدين، وهناك استقر عند أسعد بن زرارة-رضي الله عنه-وعنده أقيمت أول صلاة للجمعة في المدينة، فعندما بلغوا الأربعين شخصاً أمَّهم مصعب-رضي الله عنه-، فقد روي أنه كتب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أن يجّمع بهم.

 

ثم بعد أن مات النَّبي-صلى الله عليه وسلم-ورثها من بعده خلفاؤه الراشدون، وهم أركان البلاغة، ودعائم البيان، وسادات الفصاحة، ثم من بعدهم ملوك بني أمية وعمالهم، ثم خلفاء بني العباس، ثم اتسعت حتى أصبحت في العلماء والمشايخ، إلى أن اتسع نطاقها لما هو أبعد من ذلك حتى أصبح في مصرٍ واحدٍ في هذا العصر أكثر من ألفي جامع، ولله الحمد والمنة.

 

خامساً: إن المتتبع لمقاصد خطبة الجمعة؛ يجد كثيراً من المقاصد السامية ومن ذلك:

 

1-أن خطبة الجمعة من الدعوة إلى الله، قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل: 125].

 

2-وهي من البلاغ المأمور به، عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: "بلغوا عني ولو آية". [البخاري: 3461].

 

3-وخطبة الجمعة فيها تمثل لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].

 

4-التذكير مقصد آخر من مقاصد خطبة الجمعة، قال تعالى:(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات: 55].

 

5-التعليم والنصح مقصدان عظيمان من مقاصد خطبة الجمعة، عن أبي أمامة الباهلي-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:" إن الله وملائكته، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير"[الترمذي:2685]، وصححه الألباني في [صحيح الجامع: 1838).

 

وغير ذلك من المقاصد العظيمة من الدلالة إلى الخير، والتحذير من الشر، والاجتماع، والتعاون على البر والتقوى، والإصلاح، والتربية، وغير ذلك كثير، فخطبة الجمعة محضن عظيم، تتضمن كل ما فيه صلاح المسلم في دينه ودنياه.

 

سادساً: مكانة الخطبة الرفيعة من مكانة المسجد في الإسلام، فالخطب في المسجد الجامع، والمسجد له مكانته العظيمة في الإسلام، فالمساجد أفضل بقاع الأرض، قال-صلى الله عليه وسلم-: "خير البقاع المساجد" الحديث [رواه الحاكم:277]، عن ابن عمر [صحيح الجامع: 3271]، ومنها انطلق نور الإسلام للبشرية، وكانت ومازالت-لله الحمد-دور العبادة، والطاعة، والعلم، والدعوة.

 

سابعاً: وإن من مكانة خطبة الجمعة؛ أن نُدب المسلم للتبكير للاستماع لها، والتهيئة لذلك، فقد رتب الشارع الحكيم على التبكير للحضور يوم الجمعة أجراً عظيماً، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله-صلى الله عليه وسلّم-قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر"[رواه البخاري: 881]، و[مسلم :850].

 

كما أن الشارع الحكيم حث على الإنصات للخطبة، وحذر من التهاون في ذلك، قال-صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا" [رواه مسلم: 857]، وقال-صلى الله عليه وسلم-:(‏إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد ‏ ‏لغوت) [رواه البخاري: 934] و[مسلم: 851]

 

ثامناً: ومن المعاني التي تستشعر فيها مكانة خطبة الجمعة في الإسلام، أن جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها مكاناً محدداً، ومنبراً خاصاً، فقد ثبت أن النبي-صلى الله عليه وسلم-اتخذ منبراً، وخطب عليه.

 

فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-أن النبي-صلى الله عليه وسلم-: "كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبراً، قال: إن شئتم، فجعلوا له منبراً فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر..." [رواه البخاري: 449].

 

وقد دلت أحاديث كثيرة على ذلك، حتى حكى الإمام النووي الإجماع على ذلك فقال-رحمه الله-في المجموع شرح المهذب(4/446): " أجمع العلماء على أنه يستحب كون الخطبة على منبر؛ للأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها؛ ولأنه أبلغ في الإعلام؛ ولأن الناس إذا شاهدوا الخطيب كان أبلغ في وعظهم "

 

المراجع: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن الترمذي، الجامع لأحكام القرآن ن الكريم للقرطبي، زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، صحيح الجامع للألباني، خطبة الجمعة وأحكامها الفقهية لعبد العزيز الحجيلان، الشامل في فقه الخطيب.

كتبه /أبو مالك عدنان المقطري

اليمن ـ تعز

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات