عناصر الخطبة
1/ عبد الرحمن بن عوف وتوجهه إلى السوق 2/ حث الشباب الذي لا يجد وظيفة على التجارة 3/ من مميزات التجارة 4/ التزام الخلق الحسن عد البيع والشراءاقتباس
فيا من لم يَجدْ وظيفةً، ويا من لا يكفيه راتِبُه، عليكَ بالسوقِ: فلَأَن تبدأَ صغيراً، خيرٌ من حاجتِك للناسِ، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ". وإياكَ وأصواتَ المُثبِّطينَ، فتارةً يقولونَ: الزمان تغيَّر، وتارةً يقولونَ: الأنظمة مُعقَّدةٌ، وتارةً يقولونَ: تحتاجُ إلى رأسِ مالٍ كبيرٍ، وتارةً يذكرونَ لك تجاربَ الخاسِرينَ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الأوّلِ والآخرِ، والظاهِرِ والباطنِ، له مقاليدُ السّماواتِ والأرضِ، يَبسُطُ الرزقَ لمن يشاءُ من عبادِه ويقدِر، له الحمدُ في الضَّرَّاءِ كما له الشّكرُ في السَّرَّاءِ.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، اُبتُلِيَ فصبرَ، وأُنعِمَ عليه فشكرَ، بلَّغَ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأمَّةَ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِه، فصلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى آلِه الطيِّبينَ الطاهرينَ وعلى أصحابِه والتابعينَ ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ).
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَآخَى النَّبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: "بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ". فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى زِنَةِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ.
حتى ذُكرَ في سِيرتِه أنه تَصَدَّقَ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَطْرِ مَالِهِ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ، وَحَمَلَ عَلَى خَمْسمَائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيْلِ اللهِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى خَمْسمَائَةِ رَاحِلَةٍ فِي سَبِيْلِ اللهِ، وَكَانَ عَامَّةُ مَالِهِ مِنَ التِّجَارَةِ.
وبَلَغَ مِنْ مَالِهِ أَنَّ بَاعَ أَرْضاً لَهُ مِنْ عُثْمَانَ بِأَرْبَعِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ، فَقَسَمَهُ فِي فُقَرَاءِ بَنِي زُهْرَةَ، وَفِي المُهَاجِرِيْنَ، وَأُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ.
قَالَ المِسْوَرُ: فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- بِنَصِيْبَهَا، فَقَالَتْ: مَنْ أَرْسَلَ بِهَذَا؟! قُلْتُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ. قَالَتْ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُوْلُ: "لاَ يَحْنُو عَلَيْكُنَّ بَعْدِي إِلاَّ الصَّابِرُوْنَ"، سَقَى اللهُ ابْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيْلِ الجَنَّةِ.
وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَوْصَى بِحَدِيقَةٍ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِيعَتْ بِأَرْبَعمِائَةِ أَلْفٍ.
بَلْ قَالَ طَلْحَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَوْفٍ: "كَانَ أَهْلُ المَدِيْنَةِ عِيَالاً عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ: ثُلُثٌ يُقْرِضُهُمْ مَالَهُ، وَثُلُثٌ يَقْضِي دَيْنَهُمْ، وَيَصِلُ ثُلُثاً".
ولما ماتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ تركَ ثروةً عظيمةً في زَمانِه تُقدَّرُ بثلاثةِ ملايينَ ومائتيْ ألفِ دينارٍ.
هذه باختصارٍ قصةُ رجلٍ دُلَّ على السوقِ، فذهبَ إليه مُستعيناً باللهِ تعالى مُتوَكِّلاً عليه.
فأينَ نحنُ اليومَ من السوقِ؟! وأين من يشتكي من قِلَّةِ الوظائفِ عن أفضلِ الكَسْبِ في البيعِ والشراء؟! سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: أيُّ الكَسْبِ أطْيَبُ؟! قالَ: "عَمَلُ الرُّجُلِ بِيَدِهِ، وكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ".
فيا من لم يَجدْ وظيفةً، ويا من لا يكفيه راتِبُه، عليكَ بالسوقِ: فلَأَن تبدأَ صغيراً، خيرٌ من حاجتِك للناسِ، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ".
وإياكَ وأصواتَ المُثبِّطينَ، فتارةً يقولونَ: الزمان تغيَّر، وتارةً يقولونَ: الأنظمة مُعقَّدةٌ، وتارةً يقولونَ: تحتاجُ إلى رأسِ مالٍ كبيرٍ، وتارةً يذكرونَ لك تجاربَ الخاسِرينَ، ويضعونَ أمامَك ألفَ عائقٍ بينكَ وبينَ السوقِ يَحجِزُ، فاحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ، استخرْ خَيْرَ الرَّازقِينَ، واستشرْ التُّجَّارَ الحاذِقينَ، فغيرُك بدأَ بأَقلَ من القليلِ، ثم أصبحَ من أصحابِ المالِ الجَزيلِ، يقولُ ابنُ الجوزي -رحمَه اللهُ-: "فانهضْ وبادرْ، ولا تَستصعبْ طريقَهم، فالـمُعينُ قادرٌ، تَعرَّض لمن أَعطاهم، وسَلْ، فمَولاكَ مَولاهُم، رُبَّ كَنزٍ وقَعَ بِه فقيرٌ، ورُبَّ فضلٍ فاز بِه صغيرٌ".
ليسَ المقامُ مقامَ ذِكْرٍ للمشاريعِ الصغيرةِ والكبيرةِ، ولا المَقصدُ ذِكْرٌ لقَصَصِ الناجحينَ، بل كلُ من أرادَ التجارةَ والعملَ، وجدَ طريقاً يناسبُ إمكاناتِه الماليِّةِ والمعرفيِّةِ، حتى من لا يملكُ مالاً ولا معرفةً، فيدخلُ مُتدرِّباً أو عامِلاً أو شريكاً ببدنِه، فيكتسبُ خِبرةً، ويتعلمُ تجارةً، أو يُتقنُ صَنْعةً، أو يُجيدُ حِرفةً، يبدأُ بها حياتَه العمليَّةَ، واعلم أن اللهَ تعالى قالَ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، وانظرْ إلى قائمةِ أغنياءِ العالمِ، هل هم أصحابُ التِّجارةِ، أم هم أصحابُ الوَظائفِ؟! نعم، هناك مُعوِّقاتٌ كثيرةٌ، ولكنها ليست عسيرةً، وهناك متطلباتٌ ثَقيلةٌ، ولكنها ليستْ مُستحيلةً.
هناكَ عبادةٌ عظيمةٌ يمتازُ بها أهلُ التِّجارةِ عن غيرِهم، وهي التوكلُ على اللهِ تعالى، ففي الوقتِ الذي يتطَلَّعُ فيه الموظفُ إلى آخرِ الشهرِ إذا أصابَه العناءُ، يتَطَلَّعُ التَّاجرُ كلَ يومٍ إلى السماءِ، فهو لا يعلمُ هل سيرجعُ إلى أهلِه بعَشاءٍ، فيتَوَجَّهُ إلى خالقِه بالدُّعاءِ، فيتحقَّقُ فيه قولُه تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، فإذا كانَ الكافي هو العَزيز الرَّزَّاق، جاءتْ الأرباحُ بما لا تُحصِيه الأوراقُ، وقد قَالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم-: "لَوْ أنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ على اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُم كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا".
نحتاجُ في أسواقِنا إلى التَّاجرِ الأمينِ الصادقِ، الذي قالَ فيه النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ"، وواللهِ إن الصدقَ في البيعِ والشراءِ من أعظمِ أسبابِ البركةِ في الرزقِ، كما جاءَ في الحديثِ: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا".
كانَ جَريرُ بنُ عبدِ اللهِ البَجَلي -رضيَ اللهُ عنه- إذا أرادَ أن يبيعَ سِلعةً بَصَّرَ بعيوبِها ثم يقولُ للمشتري: إن شئتْ فخُذْ، وإن شئتْ فاتركْ، فقِيلَ له: إنَّك إذا فعلتْ مثلَ هذا لم يَنفُذْ لك بيعٌ، فقالَ: إنَّا بايعْنا رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ- على النُّصحِ لكلِّ مسلمٍ.
نحتاجُ إلى التَّاجرِ الناصحِ في هذا الزمانِ، الذي يشتكي فيه الناسُ طمعَ كثيرٍ من التُّجارِ، فالربحُ هو الهدفُ الوحيدُ، بِضاعاتٌ مغشوشةٌ، وأخرى ضارَّةٌ، وغيرُها مُحرَّمةٌ، احتكارٌ للسِّلعِ، غلاءٌ في الأسعارِ، عُيوبٌ مَكتُومةٌ، أجهزةٌ سيِّئةُ الجَودةِ، إعلاناتٌ خادعةٌ، والزبونُ المسكينُ، بينَ حاجةٍ قاصِمةٍ، ودُيونٍ مُتراكِمةٍ، فلا تاجرٌ يَرحَمُ، ولا وَزارةٌ تحكُمُ، فأينَ نحنُ من قولِه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
كانَ عندَ يونسَ بنِ عبيدٍ حُلَلٌ مختلفةُ الأثمانِ، بعضُها بأربعمائةٍ وبعضُها بمائتينِ، فمرَّ إلى المسجدِ يُصلي نافلةً وخَلَّفَ ابنَ أخيه في الدُّكانِ، فجاءَ أعرابيٌ وطلبَ حُلَّةً بأربعمائةٍ، فعرضَ عليه من حُلَلِ المائتينِ، فاستحسنَها واشتراها ومضى بها، فاستقبلَه يونسُ فعرفَ حُلَّتَه، فقالَ للأعرابيِ: بكم اشتريتَ؟! فقالَ: بأربعمائةٍ، فقالَ: لا تساوي أكثرَ من مائتينَ فارجعْ حتى تردَّها، فقالَ الأعرابيُ: هذه تساوي في بلدِنا خمسمائة، وأنا ارتضيتُها، فقالَ له يونسُ: إنَّ النُّصحَ في الدِّينِ خيرٌ من الدُّنيا بما فيها، ثمَّ ردَّ عليه مائتي درهمٍ، وخاصمَ ابنَ أخيه في ذلك وقال له: أمَّا استحييتَ؟! أمَّا اتَّقيتَ اللهَ؟! تربحُ ضِعفَ الثَّمنِ وتتركُ النُّصحَ للمسلمينِ؟! فقالَ: واللهِ ما أخذَها إلا وهو راضٍ بها، فقالَ له كلمةً غابتْ عن معجم كثيرٍ من التُّجار: "فهَلا رضيتَ له بما ترضاه لنفسِك".
نحتاجُ إلى التاجرِ السَمْحِ، سهلاً في بيعِه، لَيِّناً في شرائِه، وهذه من أسبابِ رحمةِ اللهِ تعالى، كما قالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى"، نحتاجُ من يَتجاوزُ عن الفقيرِ، ويُنظرُ المُعسرَ، عن حُذيفةَ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أُتِيَ اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟! قَالَ: (وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ، وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي".
نستغفرُ اللهَ العظيمَ الذي لا إله إلا هو الحيُ القيومُ ونتوبُ إليه، اللهم اغفر لنا ما قدمْنا وما أخرْنا، وما أسررْنا وما أعلنْا، وما أنت أعلمُ به منا، أنت المقدمُ وأنت المؤخرُ، لا إله إلا أنت، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الغنيِ الكريمِ، (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ)، نحمدُه حمدًا يليقُ بجلالِه وعظيمِ سُلطانِه، فما من خيرٍ إلا وهو مانحُه، وما من ضُرٍّ إلا وهو كاشفُه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه إلى يومِ الدِّينِ.
أما بعد:
فالتَّاجرُ الصالحُ، هو أعظمُ ما نحتاجُ إليه في زمانِنا، والذي يجمعُ كلَ الأخلاقِ الفاضلةِ، الذي لا تُلهيِه تجارتُه عن طاعةِ ربِّه، كما وصفَهم اللهُ تعالى عندَ ذِكرِ أهلِ المساجدِ: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)، فمن كانَ يخافُ يومَ الحسرةَ، فلن تجدَ في معاملتِه غِشَّاً أو خِدَاعاً أو غَدْرةً.
نحتاجُ إلى مَنْ إذا فتحَ اللهُ تعالى عليه أبوابَ الرِّزقِ، لم ينسَ نفسَه من الباقياتِ الصالحاتِ، ولم ينسَ غيرَه من العطايا والصَدَقاتِ، ولم يكنْ عوناً لأهلِ الفَسادِ والفُجورِ والانحرافاتِ، كما قالَ أهلُ العلمِ لقارونَ: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).
أين ذلك التَّاجرُ الذي قد فتحَ بابَه للناسِ، يُطعمُ مسكيناً، يُعطي فقيراً، يَكفلُ يتيماً، يُنظرُ مُعسراً، يُساعدُ مُحتاجاً، يُوظفُ عاطلاً، يُزوِّجُ أعزباً، يَقضي دَيْناً، يُعينُ أخرَق، يُغيثُ ملهوفاً، يَكشِفُ همّاً، يَعولُ أُسرةً، ويُنَفِّسُ كُربةً، فهذا من أفضلِ الناسِ عندَ اللهِ تعالى، كما قالَ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ"، قَالَ: "إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ...". ومن كانَ هذا حالُه فإنه ممدوحٌ هو ومالُه على لسانِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- كما جاءَ في الحديثِ: "نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ".
اللَّهُمَّ إنا نسألُك عَيْشاً قارّاً، ورِزقاً دارّاً، وعملاً بارّاً، اللَّهُم إِنَّا نسْألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضبِ وَالرِّضَا، وَنسْألُكَ الْقَصدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَنسْألُكَ نَعيماً لا يَنْفَدُ، وَقُرًّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وَنسْألُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَنسْألُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَنسْألُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَنسْألُكَ الشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةً، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم