عناصر الخطبة
1/ أعظم الواجبات على العباد 2/ دليل الفطرة على وجود الله تعالى 3/ العقل يثبت وجود الله 4/ قادة العلوم التجريبية يقرون بوجود الله.اقتباس
إن من أعظم الواجبات على العباد الإقرار بوجود الله ومعرفته وتوحيده بأسمائه وصفاته وعبادته؛ وإنّ وجود الله تعالى أغنى من أن يحتاج إلى بيان أو يتوقّف على برهان, إذ أدركه كلّ ذي عقل, وأحسّ به كلّ ذي شعور, وفهمته كلّ فطرة...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب: 70 -71]، أما بعد:
معاشر المؤمنين: إن من أعظم الواجبات على العباد الإقرار بوجود الله ومعرفته وتوحيده بأسمائه وصفاته وعبادته؛ وإنّ وجود الله -تعالى- أغنى من أن يحتاج إلى بيان أو يتوقّف على برهان, إذ أدركه كلّ ذي عقل, وأحسّ به كلّ ذي شعور, وفهمته كلّ فطرة؛ ففطرة الإنسان تدل على وجود الله؛ ويقصد بالفطرة ذلك الشعور الغـامر الذي يملأ نفس الإنسان، إقراراً بخالقه، وتألهـاً له، والالتجاء إليه لا يستطيع دفعه ولا يملك رَدّه، قال -تعالى-: (أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)[إبراهيم:10].
روي أن فخر الدين الرازي كان يمشي في طريق وخلفه تلاميذ له، فمروا على عجوز فاستغربته وقالت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو عبد الله الرازي العالم الجليل يحفظ ألف دليل على وجود الله -تعالى- قالت العجوز: أفي الله شك؟! وصدق الله إذ يقول: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى)[إبراهيم: 10].
وخطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فكـان مما جاء في خطبته: "إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا: كل مال نحلته عبادي حلال, وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطـاناً"(رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كل مولود يولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"(متفق عليه).
إن البشرية قاطبة مقرة بوجود الله -سبحانه وتعالى- إلا من انتكست فطرتهم؛ فالإقرار بوجود الخالق الحكيم يولد مع الإنسان، ويظل معه في مختلف مراحل حياته، ما لم تفسد فطرته وتنحرف بفعل العوارض والأهواء؛ فالكفر طارئ عارض لإنه مخالف للفطرة، فإذا تاب منه صاحبه فقد رجع إلى فطرته السليمة, وإلى الأصل الذي خلقه الله -تعالى- عليه.
قال شيخ الإسلام: "إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة", حتى المشركين والكفار مقرون بوجود الله؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)[العنكبوت:61-63], وقال الله -عز وجل-: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[لقمان: 25].
قال أحد المؤرخين الغربيين: "لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا مدارس، ومدن بلا قصور، ولكن لم توجد مدن بلا معابد".
وهذه الفطرة -عند كثير من المفسرين- هي الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم قبل أن يوجدوا، وجعلها حجة قائمة عليهم, لا عذر لهم بتقليد الآباء والأجداد في الانتكاس عنها، قال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)[الأعراف: 172-173].
أيها المسلمون: إن دلالة الفطرة على وجود الله أقوى من أي دليل آخر، علميا كان أو عقليا؛ فالفطرة هي الأساس التي تبنى عليه المعارف الإنسانية جميعها، وعلى رأسها معرفة الخالق –سبحانه-, وكل مخلوق مقر بالتوحيد بفطرته، قال -جل وعز-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الروم: 30].
يقول الكاتب الإنجليزي كولن ولسون: "الساعة الثانية ليلاً، وقد أنهيت كتابة مقال أنكر فيه وجود الله، وحين خلدت إلى النوم لم أستطع إطفاء الضوء، خوفًا مما سيفعله الله بي"؛ إنها فطرة الله في نفوس العباد.
أيها الناس: إن العدم لا يخلق شيئاً وإن فاقد الشيء لا يعطيه؛ وإن من الحقائق الكونية والعقلية والعلمية أن لكل مصنوع صانع, هذا الهاتف أو الجوال بما فيه من مواصفات وخدمات واتقان، أو هذا الساعة وهذا الكمبيوتر وهذه السيارة؛ هل جاءت هذه الأشياء من العدم؟! كلا؛ بل هناك من صنعها وأوجدها، وهذا دليل العقل قائم على وجود الله.
ولذا جاءت طائفة ممن عميت بصيرتهم ممن ينكرون وجود الله إلى أبي حنيفة -رحمه الله-، فناظروه في إثبات الخالق -عز وجل-، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين، فجاءوا، قالوا: ماذا قلت؟ قال أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء, حتى أرست في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون.
قالوا: تتفكر بهذا؟! قال: نعم. قالوا: إذاً ليس لك عقل! هل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟! فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه.
فهذا الكون الفسيح المترامي الأطراف بما فيه مخلوقات وأرض وسماوات دليل على أن هناك خالق أوجدها في تناسق دقيق وعمل متقن, وابداع ليس له نظير ولم تكن محض صدفه, وإذا كان هناك من يؤمن بأن الكون بما فيه من مخلوقات قد أوجدت نفسها بنفسها, فمن البديهي أن يؤمن أيضًا أن هذا الجوال والكمبيوتر الذي بين يديه والساعة والسيارة؛ كل هذه الأشياء أوجدت نفسها بنفسها وهذا محال ولا يتصوره العقل!.
قال -تعالى-: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون)[الطور: 35]؛ إذاً هناك أله عظيم خلق هذا الكون وأوجد ما فيه, وخلق الإنسان والجان والطير والحيوان, وأرسل الرسل وأنزل الكتب وخلق الجنة والنار.
ولقد أدرك هذه الحقيقة البدوي البسيط الذي عاش يرعى إبله في مجاهل الصحراء فكان يقول: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج ؟! ألا تدل على العزيز العليم؟!".
اللهم ارزقنا الإيمان الكامل واليقين الصادق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرًا, أما بعد:
عباد الله: لقد أقر ذلك قادة العلوم التجريبية وأساطينها في واقعنا المعاصر، وعبروا عنها بقانون السببية، وخلاصته أنه ليس لشيء من المُمكنات أن يحدث بنفسه من غير شيء, ولا أن يستقـل بإحداث شيء؛ لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئاً لا يملكه.
يقول " كلودم هزاوي" مصمم العقل الإلكتروني: "طُلب مني قبل عدة سنوات القيام بتصميم آلة حاسبة كهربائية، تستطيع أن تحل الفرضيات والمعادلات المعقدة ذات البعدين، واستفدت لهذا الغرض من مئات الأدوات واللوازم الإلكتروميكانيكية، وكان نتاج عملي وسعيي هذا هو "العقل الإلكتروني", وبعد سنوات متمادية صرفتها لإنجاز هذا العمل، وتحمل شتى المصاعب وأنا أسعى لصنع جهاز صغير، يصعب عليّ أن أتقبل هذه الفكرة, وهي أن يوجد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى مصمم.
إن عالمنا مليء بالأجهزة المستقلة لذاتها والمتعلقة بغيرها في الوقت ذاته، وتعتبر كل واحدة منها اعقد بكثير من العقل الإلكتروني الذي صنعته، وإذا استلزم أن يكون للعقل الإلكتروني هذا مصممٌ، فكيف يمكننا إذن أن ننفي هذا القول بالنسبة إلى أجسامنا بما فيها من خواص حياتيّة وأعمال فيزيائية وتفاعلات كيميائية، فلا بد من وجود مصمم حكيم خالق لهذا الكون والذي أنا جزء حقير منه"، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)[فاطر:3].
أيها المؤمنون: إن أدلة وجود الله كثيرة ومتعددة وأكثر من أن تحصى في خطبة جمعة, فينبغي للمسلم أن يتفكر ويتدبر فيها؛ ليس لأن لديه شك, ولكن ليزداد إيماناً ويقيناً وعبادة وإخلاصاً لله -سبحانه وتعالى- ويعلم علم اليقين ما يستحقه الرب من الإجلال والإكرام والتقدير والهيبة والرهبة؛ وحتى يكون داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منير.
هذا؛ وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وثلث بكم -أيها المؤمنون- فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم