دعوة لرعاية العلم والعلماء وحقن الدماء

الشيخ محمد سرندح

2023-08-11 - 1445/01/24 2023-08-14 - 1445/01/27
عناصر الخطبة
1/فضل العلم والعلماء 2/التحذير من سفك الدماء والحث على لم شمل أهل فلسطين 3/أرض فلسطين أرض العلماء وشواهد على ذلك 4/وصية أهل فلسطين بطلب العلم النافع والحرص عليه

اقتباس

لقد اهتمَّ أهلُ فلسطينَ بشتى العلوم، وخاصةً العلوم الشرعيَّة والفقهيَّة؛ نساءً ورجالًا، ففي القدس خرَج مئات بل آلاف العلماء الذين وروثوا العلم وتركوا مؤلَّفاتهم شاهدةً على إسلاميَّة أرضنا، وأنها منتِجةٌ للعلماء؛ لأنَّ القدسَ هي نواةُ العلم والعلماء، ونواة الثبات والرباط...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله؛ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)[الْبَقَرَةِ: 30-32].

 

الحمد لله؛ (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فَاطِرٍ: 28]، الحمد لله؛ (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)[النِّسَاءِ: 113]، قال صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا".

 

اللهُمَّ يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك بأسرارك المودعة وبعزة عرشك، وبعناية قدرك، وببسط قدرتك، بسلطان مشيئتك، بعظمة ذاتك، أن تجعل الأقصى بعناية مجدك، وأن تحفظ المرابطين بمنتهى رحمتك، وبجزيل برك، وأن تبعد كل دنس عن مسرانا بشامخ أفعالك، وبسيادة ألوهيتك يا ربَّ العالمينَ.

 

وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم، أحاط علمُه بما في بَرِّه وبَحرِه، فلا تخفى عليه الطلائعُ، ولا تضيع عنده الودائعُ، أَوكَلَ إلى أُولي العلم الشهادةَ بالقسط، فإن رعوها كانوا مع الكرام البررة؛ (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آلِ عِمْرَانَ: 18].

 

وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، وصَفِيُّه من خَلقِه وخليلُه، مَنَّ اللهُ عليه بالعِلْم؛ (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)[النِّسَاءِ: 113]، فكانت أُمتُه من ذلك البحر مُغتَرِفةً، "إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا دينارًا، إنما ورَّثُوا عِلمًا".

وكُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مُلْتَمِسٌ *** غَرْفًا مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ

 

خلافة الإنسان في الأرض لا تتوافق مع سفك الدماء، خلافة الإنسان في الأرض لا تتوافق مع الإفساد فيها؛ (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)[الْبَقَرَةِ: 30]، (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)[الْبَقَرَةِ: 31]، لا فضلَ يُضاهي منزلةَ العلم والعلماء، وأفواج الخريجين تتوالى في نهاية كل عام دراسي، من الجامعات والمدارس، والكليات بأعداد هائلة، وأعداد الجرائم وسفك الدماء تزداد في مجتمعنا.

 

الأمة الإسلاميَّة أمة العلم، على مدار ألف سنة في صدر الإسلام، وأمتنا لها الريادة على الأمم، حينما حقق العلم أهدافه، وعندما أخذ الخريجون العلم مجرَّدًا عن أهدافه أصبحنا في ذيل الأمم مع وفرة العلم والمُتعلِّمين.

 

أرض فلسطين أرض بيت المقدس، أرض العلم والعلماء، وليست أرضًا لسفك الدماء، أرض فلسطين أرض العلم والعلماء، وليست مسرحا للجريمة، الوسائل التعليميَّة التي تسعى إليها المؤسَّسات التعليميَّة، من وسائل الإيضاح والمختبرات لا بدَّ منها، ولا شكَّ أنَّها تؤدِّي دورها العلميّ، ولكن لا يصح لنا أن نهتم بهذه الوسائل ونقدمها على الأهداف، وليس تبريرًا أن أتلقَّى الدعمَ الماليّ لتوفير هذه الوسائل على حساب مناهج تهدم معتقد الأمة وفكرها؛ فأي مسيرة تعليميَّة تخرج الطلاب بدرجة الامتياز، وتمحق هُويَّة الطالب تجاه دينه وأخلاقه ووطنه، شوارعنا، وحاراتنا، تعاني من الجريمة، وتعاني من الانحلال، وتتأثر بالمخدرات، والاختراقات الأخلاقيَّة، غرس أراد الغرب وأعوانه زراعته في أرضنا، وها نحن نجني كل عام مئات القتلى في المجتمع الفلسطيني، ففي هذا العام حتى اللحظة بلَغ عددُ القتلى في الداخل الفلسطيني وحده مئة وواحدًا وأربعين قتيلًا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

العلم لا ينفكّ عن الدين، العلم لا ينفك عن الانتماء للهوية، والدين لا ينفك عن أي نوع من أنواع العلم بشتى تخصصاته، المؤسَّسات التي ترصد العنف الأُسريّ بين الأزواج رصدت آلاف الحالات وللأسف أغلبهم من الطبقة المتعلمة، شكاوى الآباء والأمهات، من عقوق الأبناء والبنات، وللأسف أغلبهم ممن تحصلوا على الشهادة العِلميَّة.

 

أرض فلسطين أرض العلم الممزوج بالإيمان، ونحن لسنا أحفادًا للقتلة وسفَّاكي الدماء، أجدادنا على مرّ تاريخنا الإسلامي هم أهل علم وإيمان، فمن عسقلان خرج العالم الجليل محمد العسقلاني، والمحدث أبو زرعة الخزامي، الفلسطيني، في القرن الأول الهجري، ثم علماء اللُّغة والخطاب: ابن أبي الشخباء العسقلاني، وابن فتوح في القرن الرابع والسادس الهجري، نعم إنَّها عسقلان المرابطة، وتبعهم العالم الجليل نصر الله الكماني العسقلاني، في العام السبعمائة للهجرة، كلها أفواج من أهل فلسطين، من العلم والعلماء، جذورنا في يافا، في القرن الأول الهجري حيث برز العالم هانئ الكندي، ومن الرملة الإمام الحافظ ضمرة الرملي، وتبعه محمد الرملي المُحدِّث، سنة ثلاثمائة وستين للهجرة.

 

وفي الهندسة والإعمار برز المهندس والعالم النحرير ابن حيوة المقدسي، سنة مئة واثنتي عشرة للهجرة، الذي ساهم في هندسة الصخرة المشرفة، وأمَّا الذي ملأ الأرض علمًا وفقها فقد نبت من غزة هاشم محمد بن إدريس الشافعي، سنة مئة واثنين وخمسين للهجرة، ثم إلى النقب العالم الجليل عمر بن إبراهيم الكناني النقبي، في القرن السابع الهجري.

 

إننا أهل فلسطين، لسنا طفرة من الشعوب، إننا هنا متأصلون، أرضنا أرض العلم والإيمان، وليست أرضًا للجريمة، فكم مر على أرض بيت المقدس من الغزاة والغاصبين، لم يمهلهم التاريخ طويلًا، بل فَنَوْا وأصبحوا كالصريم، وبقيَتْ فلسطينُ تُنجِب العلماءَ والصالحين على ممر القرون.

 

اسمحوا لي أن أُسهِب بعض الشيء، بذكر بعض من هذه الكوكبة، من علماء أرضنا؛ أرض الرباط، رجوعا إلى قيسارية، المحتلة، فمنها شيخ الإسلام الفرياني القيساري، سنة مائتين للهجرة، وأبو قاسم الواسطي في القرن الثالث للهجرة، مرورًا بعلماء صفد، فقد أنجبت صفد رجالًا لمع اسمهم في تاريخ العلم والعلماء؛ كيوسف بن علي الصفدي، وحسن الصفدي الخياط، في القرن الثامن الهجري، وإلى ميناء عكا، الذي بناه المهندس الفلسطيني ابن البنا، في القرن الثالث الهجري، ومن كفر سابا المحتلة خرج العالم الجليل أحمد بن عيسى، ومن رأس العين خرج العالم الجليل علي بن محمد الرسغي النشاب، سنة سبعمائة للهجرة، ومن صفورية خرج صاحب التراجم جلال الدين الصفوري.

 

أئمة الحديث الشريف بقيت آثارهم في العالَم الإسلاميّ أجمع؛ فمن طبرية المغتصبة: الإمام الطبراني صاحب المسنَد، سنة ثلاثمائة وستين للهجرة؛ إنَّه زرع فلسطين، ومن سلالة هؤلاء العلماء ورثنا العلم والأدب والأخلاق والإيمان، هذه الصورة المشرقة لعلمائنا المرابطين عبر التاريخ، هذه أرضنا، وهذه روايتنا أجدادنا ذوو الريادة من الفاتحين والعلماء، والصالحين والمصلحين، وأنتم من سلالتهم؛ لذلك من الله عليكم بالرباط، ولا زلتم على الحق ظاهرين، وعلى إثر أجدادكم كونوا مقتفين، لعدوكم قاهرين، لا يضركم من خالفكم إلى يوم الدين، افتحوا صفحات التاريخ لبلادكم، التي تعيشون على أرضها؛ لتتعرفوا على علمائها الذين أنجبتهم أرض الرباط؛ لترسموا هذه الصورة المشرقة في أذهان أبنائكم والأجيال الصاعدة، قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "تعلَّمُوا العلمَ؛ فإن تعلمه لله خشية، ومدارسته عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد"، قال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله -تعالى- فيغفر لهم" وادعوا الله مستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسانَ ما لم يعلم، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله، -صلى الله عليه وسلم- القائل: "مَنْ تعلَّم العلمَ ليباهي به العلماءَ، ويماري به السفهاءَ، ويَصرِفَ به وجوهَ الناس أدخَلَه اللهُ جهنمَ".

 

لقد اهتمَّ أهلُ فلسطينَ بشتى العلوم، وخاصةً العلوم الشرعيَّة والفقهيَّة؛ نساءً ورجالًا، ففي القدس خرَج مئات بل آلاف العلماء الذين وروثوا العلم وتركوا مؤلَّفاتهم شاهدةً على إسلاميَّة أرضنا، وأنها منتِجةٌ للعلماء؛ لأنَّ القدسَ هي نواةُ العلم والعلماء، ونواة الثبات والرباط، وعنوان التأصل في هذا البلد المبارك، وقد برز فقهاء كثر، من المذهب الحنبلي في فلسطين وقراها، وحيث زاد علماء فلسطين المذهب الحنبلي إثراء؛ ففي نابلس وحدها كان أكثر من مئة امرأة تفتي على مذهب الإمام أحمد في القرن الثامن الهجري.

 

لقد حاول الأعداء طمس هذه الهُوِيَّة، ومسح هذا التاريخ من أذهاننا، وأصبح الكثير جاهلًا ببلده، وتاريخها، وعلمائها، إنَّها سياسة التجهيل؛ لذلك لا بدَّ لنا من وقفة مع التاريخ، ولا بد لأولي الأمر والمسؤوليَّة من وقفة كي يتدارك شعبنا بأكمله هذا الانحدار في منظومة التعليم التي خلت من الإيمان؛ فمن أي منطلق إيماني وعلمي تزداد الفُرْقة بين أطياف شعبنا المرابط؟ ! ولمصلحة من هذا الانقسام؟ ! بأي معادلة علميَّة وإيمانية ينخرط أبناء شعبنا مع المنبطحين والمعتدين؟ ! فهل هذا الانبطاح والعدوان دافعه العلم والدين والمروءة؟ ! أم هو مصالح ومنافع شخصيَّة أم انسلاخ عن الدين؟ !

 

أما آن الأوان لنتدارك الفجوة الحاصلة بين التحصيل العلميّ والوازع الإيماني؟ ! وممَّا يدمر المجتمع ويزيد من انهياره غياب الوازع الدينيّ لدى المسؤولين، حينما يوظفون غير الكفء في المناصب والوظائف تبعًا للمحسوبية.

 

إن أثر العلم يظهر جليًّا بين الناس حين ينشب الخلاف، وتتعارض الآراء، فإن تحول الخلاف في الآراء إلى عراك بالجوارح والإيذاء انتفت صفة العلم عن المؤمن، وأصبح أقرب إلى البهيمية الوحشية.

 

إن الأمة إن سارت على خطى أسلافها بركائز العلم والدين، والعمل الصالح المتوَّج بالأخلاق استحقت خلافة الله في الأرض والتمكين؛ فالعلم ليس للتجارة، ولا للاستغلال، فلا ترهقوا طلابنا بالأقساط الباهظة، جاء في الأثر عن الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: "لولا العلم لصار الناس مثل البهائم".

 

اللهُمَّ اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهُمَّ ارزقنا علمًا نافعًا، ولسانا ذاكرا، وقلبًا خاشعا، اللهُمَّ إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، اللهُمَّ ارزقنا العلم النافع، الذي يُقرِّبنا منك، ويؤنسنا في وحدتنا، وزدنا علمًا، اللهُمَّ ارحم شهداءنا، وداو جرحانا، وشاف مرضانا، وأطلق سراح أسرانا، وفك الحصار عن محاصرينا.

 

اللهُمَّ احفظ المسجد الأقصى من كيد الغاصبين، واجعله عامرًا بالإسلام والمسلمين، اللهُمَّ اجز عَنَّا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير الجزاء، واجز عَنَّا علماءنا ومشايخنا خير الجزاء.

 

اللهُمَّ اغفر لنا وارحمنا، وسامحنا وتجاوز عن سيئاتنا، اللهُمَّ يا مَنْ جعلتَ الصلاةَ على النبي من القُرُبات، نتقرب إليك بكل صلاة صليت عليه، من أول النشأة إلى ما لا نهاية للكمالات؛ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182]. وأَقِمِ الصلاةَ.

 

 

المرفقات

دعوة لرعاية العلم والعلماء وحقن الدماء.doc

دعوة لرعاية العلم والعلماء وحقن الدماء.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات