دعاء الخطيب في خطبة الجمعة

عصام خضر - عضو الفريق العلمي

2023-05-15 - 1444/10/25
التصنيفات: أحكام الخطبة

اقتباس

فيمكن الجواب عنه: أنه لا يفيد الوجوب؛ لأن (كان) تحتمل أنه يحافظ على أمر مندوب، وتحتمل أنه يحافظ على أمر واجب، ولا دليل على التخصيص، فيسقط به الاستدلال؛ لأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال...

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلة وصحبه أجمعين.

 

أما بعد:

 

فإن من نعم الله تعالى على عباده أن أذن لهم في دعائه وسؤاله، ورغبهم فيه وحثهم عليه، ووعدهم بإجابة سؤالهم، وقضاء حوائجهم، وامتن على من فعل ذلك بالأجر العظيم والثواب الجزيل والسعادة في الدنيا والآخرة.

 

والدعاء نعمة عظيمة امتن الله بها على عباده، فبه تستجلب النعم، وبه تستدفع النقم، وهو سمة العبودية، ولبها وروحها، وهو دليل صدق الإيمان وعلامة الإخلاص.

 

فبالدعاء يحصل قرب الله سبحانه من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.

 

وفيه رفع الواسطة بين العبد والرب في مقام الدعاء وبه يحصل الرشد، الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة.

 

والدعاء: هو التضرع إلى الله والافتقار إليه بطلب تحقيق المطلوب أو دفع المكروه بصيغ السؤال والخبر.

وهذا التعريف وإن كان ظاهرًا في دعاء المسألة إلا أنه متضمن لدعاء العبادة؛ لأن كل سائل راغب راهب فهو عابد للمسئول وكل عابد له فهو أيضا راغب وراهب يرجو رحمته ويخاف عذابه فكل عابد سائل وكل سائل عابد([1]).

 

والدعاء أخص من العبادة ([2])، والعبادة أعم من الدعاء؛ لأن الدعاء داخل في العبادة. وعلى هذا فكل داع عابد، وليس كل عابد داعيًا([3])، هذا إذا أريد بالدعاء دعاء المسألة أما دعاء العبادة فهو والعبادة سواء. أو يقال: إن العلاقة بين العبادة والدعاء الترادف والتوافق إذا افترقا، وإذا اجتمعا فرق بين معنييهما؛ بأن المراد من الدعاء دعاء المسألة، والمراد بالعبادة امتثال الأوامر واجتناب المناهي؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: كل عابد سائل وكل سائل عابد، فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما؛ فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال([4])

 

وقد اتفق الفقهاء([5])-رحمهم الله- على مشروعية الدعاء في خطبة الجمعة.

واستدلوا بأدلة منها:

ما جاء عن عمارة بن رؤيبة -رضي الله عنه- قال: رأى بشر بن مروان على المنبر رافعًا يديه، فقال: قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يزيد على أن يقول بيده هكذا وأشار بأصبعيه المسبحة([6]).

 

وجه الدلالة: أن عمارة -رضي الله عنه- لم ينكر عليه أصل الدعاء في الخطبة، وإنما أنكر عليه رفع يديه فقط، فدل على إثبات الدعاء في الخطبة([7])، وكراهية رفع اليدين.

 

ومن ذلك ما جاء عن سمرة بن جندب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات كل جمعة"([8]).

وجه الدلالة: فيه دليل على مشروعية الدعاء للخطيب؛ لأنها موضع الدعاء. قال الإمام الصنعاني: وفيه دليل على مشروعية ذلك للخطيب؛ لأنها موضع الدعاء([9]).

 

وقد اختلف الفقهاء- رحمهم الله- في حكم الدعاء للمسلمين في الخطبة على قولين:

القول الأول: يستحب الدعاء للمسلمين والمسلمات في الخطبة الثانية بأمور الآخرة.

وهذا مذهب الحنفية([10])، والمالكية([11])، وقول عند الشافعية([12])، ومذهب الحنابلة([13]).

 

واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:

أن النبي-صلى الله عليه وسلم-: "كان يستغفر للمؤمنين كل جمعة".

وفيه دليل على استحباب الدعاء للمسلمين في خطبة الجمعة.

ولأن الدعاء لهم مسنون في غير الخطبة، ففيها أولى([14]).

ولأنه من سنة الخطيب أن يختم الخطبة بقوله: "واستغفر الله لي ولكم"([15])، وعمل الأكثر عليه([16]).

 

القول الثاني: أن الدعاء للمسلمين والمسلمات في الخطبة واجب وركن لا تصح الخطبة إلا به. وهذا الصحيح من مذهب الشافعية([17]).

 

واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:

أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يستغفر للمؤمنين كل جمعة.

وجه الدلالة: قوله: "كان يستغفر .." تدل على مواظبته على الدعاء للمؤمنين، والمواظبة دليل على الوجوب.

قال الصنعاني –رحمه الله-: وقد ذهب إلى وجوب دعاء الخطيب لنفسه وللمؤمنين، والمؤمنات أبو طالب والإمام يحيى وكأنهم يقولون: إن مواظبته صلى الله عليه وسلم دليل الوجوب كما يفيده " كان يستغفر " ([18]).

 

ولأن المشروط هو الخطبة، والخطبة في المتعارف اسم لما يشتمل تحميد الله والثناء والصلاة على النبي-صلى الله عليه وسلم-، والدعاء للمسلمين والوعظ لهم والتذكير، فينصرف المطلق إلى المتعارف([19]).

 

ولنقل الخلف عن السلف أنهم كانوا يدعون للمسلمين في الخطبة.

 

قال الشربيني: (والخامس ما يقع عليه اسم دعاء للمؤمنين) بأخروي لنقل الخلف له عن السلف ويكون (في) الخطبة (الثانية) لأن الدعاء يليق بالخواتم([20]).

 

ناقش القائلون باستحباب الدعاء للمسلمين أدلة القائلين بالوجوب:

أما قوله في الحديث: "كان يستغفر ..".

فيمكن الجواب عنه: أنه لا يفيد الوجوب؛ لأن (كان) تحتمل أنه يحافظ على أمر مندوب، وتحتمل أنه يحافظ على أمر واجب، ولا دليل على التخصيص، فيسقط به الاستدلال؛ لأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.

 

وأما قولهم: (أن المشروط هو الخطبة، والخطبة ما تعارف عليه ..)

فالجواب عنه: أن مقصود الخطبة الوعظ، لا الدعاء([21]).

 

وأما نقل السلف ...

فيمكن الجواب عنه: أن نقلهم لا يفيد الوجوب.

 

والذي يترجح والله -تعالى- أعلم مشروعية الدعاء في خطبة الجمعة واستحبابه للمسلمين والمسلمات وهو من مكملات الخطبة، وليس من شروطها ولا من أركانها؛ لأن القول بأنه ركن لا تصح إلا به سواء تركه عمدًا أو سهوًا فيه نظر ظاهر ...

 

والدعاء في خطبة الجمعة سواء قلنا بوجوبه أو باستحبابه لم يرد دليل على رفع اليدين إلا في صلاة الاستسقاء، وهو قول مالك([22])، والشافعية([23])، ونقل شيخ الإسلام أنه أصح الوجهين عند الحنابلة([24]).

قال الزهري: "رفع الأيدي يوم الجمعة محدث"([25]).

 

وقال طاووس: "كان يكره دعاءهم الذي يدعونه يوم الجمعة، وكان لا يرفع يديه"([26]).

 

عن إبراهيم قال: "رفع اليدين والقنوت في الجمعة بدعة"([27]).

 

وقال شيخ الإسلام: ويكره للأمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة، وهو أصح الوجهين لأصحابنا؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يشير بإصبعه إذا دعا. وأما في الاستسقاء فرفع يديه لما استسقى على المنبر([28]).

 

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان يشير بأصبعه السبابة في خطبته عند ذكر الله -تعالى- ودعائه"([29]).

وذهب الشوكاني إلى كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء، وأنه بدعة([30]).

 

فأما دعا الإمام للاستسقاء في خطبة الجمعة، فقد سن له رفع اليدين، اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك يرفع المأمّنون على دعائه لما جاء من حديث أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: "أصابت الناس سنة (جدب) على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فبينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب في يوم جمعة، قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه، وما نرى في السماء جزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحاذر على لحيته -صلى الله عليه وسلم-"([31]).

 

وقال ابن باز –رحمه الله-: لا يشرع رفع اليدين في خطبة الجمعة لا للإمام ولا للمأمومين؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لم يفعل ذلك ولا خلفاؤه الراشدون، لكن لو استسقى في خطبة الجمعة شرع له وللمأمومين رفع اليدين؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -، لما استسقى في خطبة الجمعة رفع يديه ورفع الناس أيديهم، وقد قال الله -سبحانه-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)([32]).

 

وأما التأمين من المأمومين على دعاء الإمام في الخطبة فلا أعلم به بأسا بدون رفع صوت، وبالله التوفيق([33]).

قال الشربيني-رحمه الله-: (والخامس ما يقع عليه اسم دعاء للمؤمنين) بأخروي لنقل الخلف له عن السلف ويكون (في) الخطبة (الثانية) لأن الدعاء يليق بالخواتم([34]).

 

والذي يترجح والله -تعالى- أعلم أنه يشرع للخطيب أن يدعو في وسط الخطبة أو آخرها، فهذه الأوقات مظنة إجابة الدعاء؛ لأن في الجمعة ساعة إجابة، لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرًا إلا أعطاه الله إياه، وقد قيل إن هذه الساعة من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة.

 

وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: دعاء الإمام في الخطبة للمسلمين مشروع، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك، ولكن ينبغي للإمام أن لا يلتزم دعاًء معينًا، بل ينوع الدعاء بحسب الأحوال، أما كثرته وقلته فعلى حسب دعاء الحاجة إلى ذلك، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكرر الدعاء ثلاثًا في بعض الأحيان، وربما كرره مرتين، فالسنة في الخطيب أن يتحرى ما كان يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبته ودعواته([35]).

 

وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين-رحمه الله-: ليس من السنة أن يحرك يديه، وإن كان بعض الخطباء بلغني أنهم يفعلون ذلك.. إلى أن قال: أما خطبة الجمعة فإن المغلب فيها التعبد؛ ولهذا أنكر الصحابة على بشر بن مروان، حيث رفع يديه في الدعاء، مع أن الأصل في الدعاء رفع اليدين، فلا يشرع فيها إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم([36]).

 

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(([1] ينظر: مجموع الفتاوى (10/240).
([2]) فتح الباري (11/95)، وينظر: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (2/44).
([3]) الدعاء المأثور وآدابه (ص: 39).
([4]) الفتاوى (10/240).
([5]) ينظر: المبسوط (2/26)، والبحر الرائق (2/159)، والمدونة (1/150) ، والذخيرة (2/343)، ومغني المحتاج (1/286)، وشرح الزركشي (1/172).
([6]) صحيح مسلم (2/595).
([7]) ينظر: السنن الكبرى (3/210).
([8]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي (2/225) رقم: (3161)، قال الهيثمي: رواه البزار والطبراني في الكبير وقال البزار: لا نعلمه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بهذا الإسناد، وفي إسناد البزار يوسف بن خالد السمتي وهو ضعيف. وقال الصنعاني رواه البزار بإسناد لين. بلوغ المرام (1/83).
([9]) سبل السلام (2/438).
([10]) بدائع الصنائع (1/263).
(([11] المدونة (1/381).
([12]) المجموع (4/517).
(([13] المغني (2/156).
(([14] الممتع في شرح المقنع (1/549).
(([15] المجموع (4/529).
(([16] حاشية الروض المربع (3/434).
(([17] روضة الطالبين (1/530).
(([18] سبل السلام (2/438).
(([19] بدائع الصنائع (1/262).
(([20] مغني المحتاج (1/286).
(([21] المجموع (4/521).
([22]) إكمال المعلم (3/277).
(([23] شرح مسلم للنووي (3/428).
(([24] الفتاوى الكبرى (5/354).
([25]) مصنف ابن أبي شيبة (2/55).
(([26] مصنف ابن أبي شيبة (2/55).
([27]) مصنف عبدالرزاق (3/194).
([28]) الفتاوى الكبرى (5/354).
([29]) زاد المعاد (1/411).
([30]) نيل الأوطار (3/333).
([31]) صحيح البخاري (92/15) رقم: (933).
([32]) الأحزاب: 21.
([33]) مجموع فتاوى العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله (30/250).
([34]) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (1/286).
([35]) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (8/232).
([36]) الشرح الممتع (5/ 64، 65).

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات