عناصر الخطبة
1/السيرة النبوية معين خير وهدى وفلاح 2/فوائد ودروس وعبر من صلح الحديبية 3/قد يكون الخير فيما يظنه المرء شرا 4/نعمة الأمن من أجلّ النعماقتباس
مِن تلكم العِبَر والدروس أن هذا الدين دين الرحمة والمصالَحة، وشريعة الإسلام شريعة المحبة والمسامَحة، كما أنَّه دين الأمانة والوفاء وحفظ العهود؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتردد في قَبول ذلك الصلح على الرغم مما فيه من بنود متحيِّزة في سبيل حقن الدماء والموادَعة...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أما بعدُ: فاعلموا -معشرَ المؤمنينَ والمؤمناتِ-: أن التقوى هي سندكم الأقوى، منهلكم الأروى، وزادكم الأبقى؛ (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[الْبَقَرَةِ: 197].
إخوةَ الإيمانِ: إنَّ سيرةَ سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- مَعِين لا تُكدِّره دِلاءُ الواردينَ، وروضةٌ فيحاءُ لا تَضِيق بالرائحينَ والغادينَ، فلنقطف من ثمار رياضها، ونعُلَّ من سلسال حياضها، ونتفيَّأ ظِلالَها، ونرتع خلالَها، برهةً من عمر الزمان.
في مِثل هذه الأيام، من مِثل هذا الشهر المحرَّم عزَم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على زيارة البيت العتيق معتمِرًا، على إثر رؤيا حق رآها -ورؤيا الأنبياء وحي-، أنَّه يدخل المسجد الحرام هو وأصحابُه آمنينَ محلِّقينَ ومقصرينَ، فبشَّر بذلك أصحابَه، وتحرَّكَت لواعجُ أشواقهم إلى البيت العتيق، بعد ست سنوات من البُعْد والنَّوَى.
خرَج -صلوات الله وسلامه عليه- في زهاء أربعمائة وألف من أصحابه، في مستهل ذي القعدة، ميممًا راحلته شطرَ البيت الحرام، يَسوقُها إلى تلك الربوع سوقًا، ويحثُّها إلى مهوى قلبِه شوقًا، فسار لا يلوي على غير البيت العتيق ولا يَقصِد إلى غيره، ليس معه ومع أصحابه من سلاحٍ إلا سلاح المسافر، فتحرَّك الركبُ الميمونُ حتى إذا بلَغ ذا الحليفة أَحرَم بالعمرة، وقلَّد الهديَ وأشعَرَه؛ ليعلَمَ الرائي أنَّه رَكبٌ وافدٌ على البيت لا يريد القتالَ، فمَضَوْا سراعًا تطوي رواحِلُهم البيدَ طيًّا، فلمَّا اقترب من الحديبية بركت ناقته القصواء، فقال بعض الناس: خَلَأَتِ القصواءُ! فقال صلى الله عليه وسلم: "ما خلأتِ القصواءُ، وما ذاك لها بخُلُق، ولكِنْ حبَسَها حابسُ الفيل... والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطةً يُعظِّمون فيها حرماتِ اللهِ إلَّا أعطيتُهم إيَّاها"، ثم زجَرَها فوثبت، حتى نزل بأقصى الحديبية، فبَلَغَه أن أهل مكة قد أرصدوا له ليصدوه عن البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين"، فأَبَوْا أن يدخل مكة لئلَّا يتحدث العربُ أنَّه دخَلَها عنوةً، وبعد مراسَلات ومداوَلات بين الفريقين جنَحُوا للصلح؛ على أن يرجع ذلك العامَ ويعود من العام القابل، فيُقيم بمكة ثلاثًا ليس معه ومع أصحابه إلا سلاحُ الراكب، وتمَّ أمرُ الصلح على ما رَغِبَ أهلُ مكة، فشقَّ ذلك على بعض الصحابة مشقةً عظيمةً؛ لِمَا حِيلَ بينَهم وبينَ البيت الحرام، ولِمَا تضمَّنَتْه بنودُ ذلك الصلح من شروط مُجحِفة، فأنزَل اللهُ في ذلك سورةَ الفتح، منصَرفَه من الحديبية، واستهلَّها باستهلال عجيب واستفتاح مهيب: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[الْفَتْحِ: 1-4]، ... في تسلسُل بديع يستلِب القلوبَ.
إنَّها واقعةٌ من وقائع سيرته العطرة، وحادثةٌ من حوادث أيامه النَّضِرة، تَحمِل في طياتها من العظات واللطائف ما تضيق عنه بيضُ الصحائف، تستوجب النظرَ بعين الاعتبار إلى مَعالِم آثارها، واستنطاق العبرة واستدرار العَبرة من أسرار أخبارها، من تلكم العبر والدروس: أنَّه ربما تَشرَقُ النفوسُ بالأمر وتغصّ به لِمَا يبدو لها في ظاهره، ولكنَّ اللهَ يقضي للمؤمن القضاءَ الذي يَحمَد مآلَه، فينجلي غبار المكروه عن محبوب، ويَبسِم وجهُ النهار بعد غمرة الدجى، فقد سمَّى الله ذلك الصُّلحَ مع ما في ظاهره ممَّا تكرهه النفوسُ وتأباه سمَّاه فتحًا مُبِينًا ؛ وذلك أنَّه حين يَنفُذ نظرُ الاعتبار من ظاهرِ أمرِ ذلك الصلح إلى ما آل إليه، ويستشرفُ عاقبتَه، ويطمح ببصره إلى غايته، يتحقَّق صدقُ ربنا في محكم تنزيله حيث يقول: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النِّسَاءِ: 19]، عَنِ الْبَرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ"، وقال الزهري: "ما فُتِحَ في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه".
فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس كلم بعضهم بعضًا، فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
ومن تلكم العبر والدروس أن ذلك الصلح كان مظهرًا جليًّا من مظاهر حكمة الله -تعالى- البالغة، ودلالةً بيِّنةً من دلائل نبوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كان ذلك الصلح مثارَ الدَّهَش ومبعثَ العجبِ في مبدئه ومنتهى أمرِه؛ فإنَّه -صلى الله عليه وسلم- جرى في أمر ذلك الصلح على خلاف ما أَلِفَ منه أصحابُه -رضي الله عنهم- في استشارتهم، وعَرْض الأمر عليهم في مثل هذه النوازل معرضَ النظر والمراجَعة؛ امتثالًا لأمر ربه في ذلك حيث يقول: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)[آلِ عِمْرَانَ: 159]، وتشريعًا لأمته، لكنَّه في هذه الحادثة جاءه الوحيُ الإلهيُّ من العليم الخبير، بإبرام ذلك الصلح على ما تمَّ عليه أمرُه، فانجلَتْ عاقبتُه إلى ما دوَّنَه التاريخُ من انقلاب الموازين لصالح رسول الله ومَنْ معه من المسلمين.
وفيه درسٌ بليغٌ لكلِّ مَنْ يُصادِم الوحيَ الصحيحَ الثابتَ حين يَقصُر عقلُه عن دَرْكِ مراميه وتعقُّل معانيه، بأن يَعرِف بأنَّ للعقل البشري حدودًا هي حدود بشريته القاصرة، فليس من حَمَلة العِلم على الحقيقة مَنْ يَرُدُّ الأثرَ ولا من أهله، والمتجاسِر على ذلك إنما يُزري بنفسه وينادي بجهله، على أن مِنَ المقرَّرات المسلَّمات عندَ أرباب العلم وأهل الرسوخ أنَّه لا يتعارض صحيحُ النقل مع صريح العقل.
ومِن تلكم العِبَر والدروس أن هذا الدين دين الرحمة والمصالَحة، وشريعة الإسلام شريعة المحبة والمسامَحة، كما أنَّه دين الأمانة والوفاء وحفظ العهود؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتردد في قَبول ذلك الصلح على الرغم مما فيه من بنود متحيِّزة في سبيل حقن الدماء والموادَعة، كما أنَّه وفي لهم بذلك -صلوات الله وسلامه عليه-.
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، وجعل تقواه لنا عدة وذخيرة وجنة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفِروه، إنَّه كان غفورًا رحيمًا.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ أهلِ الحمدِ ومستحِقِّه، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له في إبداء خلقه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والشاهدين بصدقه، ما سح غيث بوابله وودقه.
أمَّا بعدُ، أيها المؤمنون والمؤمنات: وإن من تكلم العبر التي فاضت بها تلك الحادثة: أن الله -تعالى- حين أخبَر بأنَّه صدَق رسولَه الرؤيا التي رآها -صلى الله عليه وسلم- أقسَم على دخوله هو وأصحابه المسجدَ الحرامَ آمنينَ، ثم أكَّد ذلك بنفي الخوف عنهم من كل وجه، فلا يُداخِل قلوبَهم شيءٌ منه، قال -جل شأنه- في خواتيم السورة: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)[الْفَتْحِ: 27]، وفيه إشارةٌ إلى عظيمِ نعمةِ الأمنِ في ذلك المقام المهيب، والمشهد الرهيب الذي يُصوِّر عظمةَ الإسلامِ وجلالَه وسموَّ مباديه ومبانيه، في ملتَقًى للمسلمين تلتَحِم فيه الأجسامُ وتتعانق القلوبُ؛ لإعلان شعار التوحيد، وتحقيق العبودية الخالصة لله -تعالى-، تنصهر فيه كلُّ الفوارق البشريَّة وتتلاشى، فلا يبقى إلا التفاضلُ بالإيمان والتقوى؛ فإنَّها لا تتحقَّق مقاصدُه ولا يستقيم أمرُه، ولا تَحصُل غايتُه التي شُرع لأجلها إلا حينما تَغشاهُ السكينةُ، ويحفُّه الأمن، وتُظلِّله الطمأنينةُ، وهو أمرٌ يسَّره اللهُ للمسلمين، وهيَّأه لهم في ظل هذه البلاد المباركة، فيقضي المسلمون مناسِكَهم ويؤدون شعائرَهم راتعينَ في أفياء من السَّكِينة والأمن والرخاء، فلله الحمدُ والثناء الحسن على ما أَنعَم وأَولَى وأسدى، كما يحب ربنا من الحمد والثناء ويرضى.
معشر المؤمنين والمؤمنات: إن هذا اليوم من الأيام تندب فيه كثرة الصلاة والسلام على صفوة الخلق وخير الأنام، قال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي".
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على سيدنا ونبينا محمد، عدد ما أحصاه كتابك وخطه قلمك ووسعه علمك، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض اللهم عَنَّا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا ربَّ العالمينَ.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودَمِّر أعداءَ الدِّينِ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى يا سميع الدعاء، اللهم اجعل في أعمالهما الخير والبركة والسداد، ووفقهما لما فيه صلاح العباد والبلاد، وعم بذلك ولاة أمور المسلمين أجمعين يا ربَّ العالمينَ.
اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله يا ربَّ العالمينَ.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
عبادَ اللهِ: استنزلوا فضل ربكم بشكره، واحفظوا نعمته باتباع أمره، والهجوا بدعائه وذكره؛ سبحان ربنا رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم