دروس من قصة موسى وفرعون

ياسر دحيم

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ الصراع بين الحق سنة ماضية 2/ قصة موسى وفرعون كما أوردها القرآن 3/ مقارنة بين فرعون بني إسرائيل وفرعون اليوم 4/ بعض الدروس المستفادة من قصة موسى وفرعون

اقتباس

إن فرعون الذي غدا اسمه علماً على الطغيان والاستبداد والتسلط والاستكبار، قد بسط القرآن الحديث عنه وبين سياسته وبرامجه وخططه الإجرامية الخاطئة في...وما أحوجنا اليوم مع ما تمر به مصر من أحداث إلى التدبر والتأمل في هذه السياسات الإجرامية المتكررة في تاريخ البشرية، ففرعون قد يتكرر باسم آخر بنفس المنهج الفرعوني من...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا بأن الأيام دول بين الناس، وأن الصراع بين الحق والباطل جولات: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آل عمران: 140].

 

ولذا أمر الله تعالى نبيه بتذكير المؤمنين بها، فقال: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم: 5].

 

اذكروا أيام الله بنصر أنبيائه وأتباعهم وما حصل لهم من النعم، واذكروا أيام الله بخذلان أعدائه ومن والاهم وما حصل لهم من النقم.

 

إن الصراع بين الحق والباطل، التي جرت سنة الله فيها دون تبديل أو تغيير: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح: 23].

 

ومهما علا وساد الباطل في نظر بعض الناس، فإنه لابد له من زوال، قال جل جلاله: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)[الأنفال: 8].

 

ولكي نعرف ما يفعله الحق بالباطل فلنتأمل قول الله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء: 18].

 

هذه هي نهاية الباطل، يدمغه الحق فإذا هو زاهق، أي مضمحل، هالك، لا ثبات له مع الحق ولا بقاء.

 

وإن من أيام الله تعالى العظيمة التي قصها الله علينا في كتابه وتبين انتصار الحق على الباطل قصص الأنبياء مع أقوامهم، ولذا أمر الله تعالى بذكرها والتنبيه عليها فقال: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 176].

 

ومن تلك القصص قصة موسى عليه السلام مع فرعون ذكرها في كثير من سور القرآن بأساليب متنوعة، وهي في الحقيقة تبين الصراع بين الحق والباطل، وتوضح المعركة بين أولياء الرحمن وحزب الشيطان، ولكن النصر للإيمان والمؤمنين، والخذلان للطغاة والظالمين: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[القصص: 3].

 

إن فرعون الذي غدا اسمه علماً على الطغيان والاستبداد والتسلط والاستكبار، قد بسط القرآن الحديث عنه وبين سياسته وبرامجه وخططه الإجرامية الخاطئة في قهر الشعوب واستذلالها.

 

وما أحوجنا اليوم مع ما تمر به مصر من أحداث إلى التدبر والتأمل في هذه السياسات الإجرامية المتكررة في تاريخ البشرية، ففرعون قد يتكرر باسم آخر بنفس المنهج الفرعوني من الطغيان والاستكبار.

 

عباد الله: إننا حين ننظر في قصة فرعون وجبروته وبطشه ثم موقف الشعب المستضعف ثم كيف تكون النهايات إذا تأملنا ذلك بتدبر، سندرك جيداً فعل الله عز وجل وتقديره في دك الظلم والطغيان وتدمير البغي والعدوان، وكيف ينصر الله المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة.

 

وقبل أن يبعث الله نبيه موسى عليه السلام رسولاً إلى فرعون وقومه، يخبرنا تعالى في كتابه الكريم عن الجو الذي كان سائداً، والذي كانت تدور فيه الأحداث والظروف العصيبة التي كان يعيشها بنو إسرائيل.

 

يقول الله عز وجل في سورة القصص: (طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ)[القصص: 1- 4].

 

إن أول شيء أخبر الله به عن فرعون: أنه علا في الأرض، وتجاوز فيها الحد وبغى واستكبر ومن طغيانه إنه جعل أهلها شيعاً وأحزاباً يستعين ببعضهم على بعض، ويذل بكل حزب ما عداه من الأحزاب، ويأمنهم جميعاً بواسطة ذلك التحزب، الذي غرسه فيهم، حتى إذا تحرك حزب لمناوأته قام حزب آخر ليدافع عنه، وعلى هذه السياسة الفرعونية نرى فرعون مصر المعاصر يستخدم البلطجية، وخريجي السجون، وأصحاب الحشيش والمخدرات، ليفتكوا بالمستضعفين المسالمين الذين قاموا لمجابهته، فإذا نحن نعود إلى العصور القديمة لنرى الهجوم بالخيل والجمال والسيوف والحجارة، إنها العودة إلى العصر الفرعوني في منهج البطش وأشكاله وصوره.

 

إن فرعون على ما أوتي من القوة والجبروت كان يتخوف من ظهور الحق على يد خصومه من بني إسرائيل، فعمل كل ما في وسعه من الاحتياطات، فجعل يستضعف خصومه، ويفرق بينهم، ويقتل أبنائهم، ويستحي نساءهم، ولكن مشيئة الله نافذة وقدرته قاهرة، فشاء الله سبحانه أن يولد موسى عليه السلام في بني إسرائيل وأن ينجو من القتل، وأن يتربى في بيت فرعون ليكون هلاك فرعون على يديه وآتاه الله من حيث لا يحتسب، موسى في بيت الطاغية فرعون تحرسه عناية الله، وتحوطه القدرة الربانية حتى كبر وبلغ أشده ثم كلمه الله بوحيه، وبعثه برسالته إلى فرعون وآتاه من الآيات ما يدل على صدقه، ولكن فرعون عاند وكابر.

 

وادَّعى أن ما جاء به موسى من الآيات إنما هو سحر، وأن عنده من السحر ما يبطله وجمع السحرة من جميع مملكته. 

 

(قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَاناً سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)[طه(57- 56].

 

شن فرعون حربا إعلامية شرسة ليشكك ويطعن في نية نبي الله موسى وأول هذه الحرب أن قال لهم: (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26]. سبحان أكبر! إذا كان موسى يفسد في الأرض فماذا تسمي أنت قتلك الأبرياء وسفكك الدماء، هل هذا إصلاح؟

 

والقرآن يحكي لنا كيف أن الإعلام الفرعوني ملأ البلاد تحريضًا على موسى وهارون -عليهما السلام- كما يفعل إعلام الفرعون المعاصر اليوم باستخدام كافة وسائل الإعلام، ومحاربة الإعلام المضاد، لكي لا يترك فرصة لبيان الحقيقية للناس.

 

قال الله: (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ) [الشعراء: 39- 40].

 

ثم يأتي التحريض المستمر: (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) [طه: 63].

 

معاشر المؤمنين: ولمزيد من التحريض ودعم الباطل يجتمع فرعون بالسحرة ويعدهم ويمنيهم ويطلبون منه الأجر والمال والمنصب كحال أولئك البلطجية الذين يستلمون المال لمحاربة المسالمين: (فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الشعراء : 41- 42].

فعرضوا ما عندهم من السحر، وعرض م

وسى عليه السلام ما عنده من الآيات فوقع ما لم يكن يتوقعه فرعون: (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)[ الشعراء: (118-22 ].

 

فكان الاتهام الفرعوني جاهزا لهؤلاء السحرة الذين عرفوا الحق: (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) [الشعراء: 49].

 

واليوم يتهم المتظاهرون وهم بالملايين بأنهم متطرفون أو إسلاميون أو عملاء للدولة الفلانية إنه المنهج الفرعوني نفسه باتهام السحرة بأنهم اتباع لموسى وهو كبيرهم الذي علمهم ونلحض نفس المنهج الفرعوني اليوم حينما نرى فرعون يتهم السحرة بالتآمر: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 123].

 

إنه الباطل حينما لا يجد حجة يرمي بالاتهامات جزافاً وكذباً كل هذا من أجل أن يبقى له ملك مصر ثم يأتي التهديد والوعيد الفرعوني البطش والتعذيب سلاح من لا حجة له: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى)[طه: 71].

 

فماذا كان جواب هؤلاء الذين كانوا قبل قليل يسألون عن الأجر من فرعون؟

 

أسمعوا ماذا قالوا: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [طه: 72].

 

إن هذا الموقف الشجاع من التهديد والوعيد ليذكر بموقف أولئك الأبطال الشجعان الصامدين في ميدان التحرير، فرعون الطاغية الذي كان اسمه يملأ القلوب رعباً ها هم السحرة اليوم لا يلقون له بالاً حيث نزع الله من القلوب مهابته والخوف منه ومن جنده وأبدل الله ذلك شجاعة وجرأة في نفوس السحرة والمؤمنين ما كان الفرعون القديم ولا الجديد ليظن أن هيبته ستؤول إلى هذا المنحى.

 

فيقف فرعون حائراً، وهنا تأتي البطانة الفاسدة أصحاب المصالح من بقاء فرعون في سلطته فيحرضونه: (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف: 127].

 

فيشتاط غيضا ويصدرا قرارا عشوائيا في حالة عدم استقرار وهكذا هي القرارات المتخبطة في حال الغضب والخوف من فقدان الملك والسلطة تأتي القرارات المتناقضة والمتخبطة غير العقلانية: (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف: 127].

 

هكذا يظن ولا زال يعتقد أنه قاهر وغالب, ولكن هذا التهديد لم يثن موسى عن دعوته ولم يثن من آمن معه عن التمسك بإيمانهم، حتى أتاه أمر الله بالخروج، إنهم لا يريدون المواجهة؛ لأنهم قوم مسالمون, فيخرج موسى والذين آمنوا معه في جنح الظلام مستخفين من بطش فرعون وجنده، وفي صباح اليوم التالي، ينظر فرعون، فلم يجد موسى ولا أحدا من المؤمنين، فيجمع جنوده، ويصدر أوامره: (إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ) [الشعراء: 54- 55].

 

وهكذا يقلل الإعلام الفرعوني عدد المؤمنين المعارضين لفرعون كما يقلل الإعلام المصري اليوم عدد المعارضين والمتظاهرين إتباعا للمنهج الفرعوني: (إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) [الشعراء: 54].

 

ثم ينطلق فرعون بجنده في إثر موسى وقومه يسير بجنوده مع طلوع الشمس، قال تعالى: (فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ) [الشعراء: 60- 61] أي نظر كل من الفريقين إلى الآخر موسى ومن معه وفرعون ومن معه، قال تعالى: (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: (61- 62].

 

موسى موقن بنصر الله، موسى موقن بتوفيق الله؛ لأن معية الله لا تتخلف عن المتقين: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل: 128].

 

موسى موقن بنصر الله؛ لأنه لم ينس ما قال الله له ولأخيه حينما أمرهما بالذهاب إلى فرعون لدعوته، حينما قال الله لهما: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 46].

 

يأتي الوحي من الله إلى موسى، يأتي في لحظات حرجه، البحر أمامهم بأمواجه المتلاطمة، وفرعون من خلفهم بجنده، في هذه اللحظات الحرجة أتى الوحي من الله إلى موسى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء: 63].

 

انشق البحر نصفين بعصا فكان كل شق منه كالجبل العظيم في ارتفاعه، فلا اله إلا الله ما أعظم قدرة الله، ثم يقول سبحانه: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى) [طه: 77].

 

أي لا تخاف دركا من فرعون أن يدركك وقومك ويقتلوكم أو يأسروكم، ولا تخشى من البحر أن يغرقك وقومك, انفلق البحر حتى أصبح كالجبل العظيم، فيرسل الله الريح على أرض البحر الواحلة فييبسها بعد أن كانت طينا لا يمكن المسير عليها، وهل هذا إلا نصر من الله وهل هذا إلا معونة من الله: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى) [طه: 77].

 

يمر موسى ومن معه وكأنهم يمشون على أرض لم تعرف البحر يوما من الأيام، ويتبعهم الشقي وجنوده، يتبعهم فرعون ومن معه من المجرمين، فلما تجاوز موسى ومن معه من المؤمنين البحر أراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ليعود البحر كما كان ليمنع فرعون من السير، ولكن موسى أراد شيئاً والله أراد شيئا آخر، قال تعالى لموسى: (وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ) [الدخان: 24].

 

اتركه يا موسى كما هو ليدخل فرعون وقومه فيطبقه الله عليهم، اتركه كما هو ليعلم فرعون عاقبة مكره وكيده، اتركه يا موسى لنرى فرعون إن كان رباً فلينقذ نفسه وقومه، دخل فرعون البحر فيجد تلك الأمواج الهائلة تغشاه من فوقه وقومه، فيصيح بأعلى صوته وهو تحت أمواج البحر المتلاطمة: (آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس: 90].

 

ويأتي النداء الإلهي الأخير, الذي يقطع نياط قلبه: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)[يونس: 91- 92].

 

أقول ما سمعتم، واستغفر الله..

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله رب العالمين.

 

عباد الله: قد أكثر الله ذكر قصة موسى في القرآن؛ لأنها من أعجب القصص ففيها إشارة إلى مصارع الظالمين، وعواقب الطغاة المجرمين في كل زمان، هكذا كانت نهاية فرعون الذي علا في الأرض واستعبد الناس، وطغى في البلاد، وأكثر فيها الفساد، وقال أنا ربكم الأعلى.

 

إن العلوَّ في الأرض بالفَسادِ، وقهرَ العباد، سبَبُ المهالك والضياع والدمار .

 

عندما أعلن عن اكتشاف المقبرة العظيمة لتوت عنخ أمون بادر أمير الشعراء أحمد شوقي بنشر قصيدة في هذه المناسبة خاطب فيها فرعون الصغير ليؤكد له أن زمانه ولى حتى وإن خرج من قبره بعد آلاف السنين، وقال أمير الشعراء:

 

زمان الفرد يا فرعون ولَّى *** ودالت دولة المتجبرينا 
وأصبحت الرعاة بكل أرض *** على حكم الرعية نازلينا

 

هذه رسالة أمير الشعراء لكل طواغيت العالم وكل المتكبرين والمتغطرسين بأن العالم يتغير، وأن زمن الفرد قد تغير وأصبحت للشعوب كلمة تنخفض يوماً إلا أنها تعلوا وتصدح وتطيح بكل من قد تجبر.

 

إنها رسالة أمير الشعراء كانت واقعية وواضحة قالها قبل ثمانين عاماً، خاطب فيها: "مومياء فرعونية" قاصداً فيها مومياءات عصرنا الحالية التي ما إن تمسك بكرسي الحكم حتى تتشبث به خوفاً عليه.

 

 

 

 

المرفقات

من قصة موسى وفرعون

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات