عناصر الخطبة
1/ عظمة الأشهر الحرم والتعريف بها وشناعة الذنوب فيها 2/ فضل صيام عاشوراء والذنوب التي يكفرها 3/ إتفاق أديان الأنبياء على الدعوة إلى التوحيد 4/ التحذير من دعوة تقارب الأديان ووحدتها 5/ نصر الله قادم لا محالة 6/ بعض بدع الشيعة في عاشوراء 7/ ثناء القرآن على الصحابة ومدحه لهم 8/ الاتباع وترك الابتداع 9/ مخالفة الكفار وعدم التشبه بهماقتباس
من هذه المناسبة المباركة نستخلص عددا من الدروس والعبر التي أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها: الدرس الأول: أن نعرف فضل الله -تعالى- علينا في أن جعل لنا مواسم نتوب فيها ونرجع إلى الله، فيكفر عنا الخطايا، ولكن مع ذلك لا بد أن نعلم أن الخطايا التي تكفر إنما هي...
الخطبة الأولى:
فإن شهر الله المحرّم شهر عظيم مبارك، وهو أول شهور السنّة الهجرية وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) [التوبة: 36].
وقال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حُرُم، ثلاثة متواليات ذو القعدةِ وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان".
والمحرم سمي بذلك تأكيداً لتحريمه.
وقوله تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيْهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنها آ كد وأبلغ في الإثم من غيرها، قال ابن عباس: (فَلا تَظْلِمُوا فِيْهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراماً وعظّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
وقال قتادة في قوله: "الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصّيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم".
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحقُّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه".
وفي رواية مسلم قال: "هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً لله -تعالى- فنحن نصومه"، ورواه الإمام أحمد وزاد فيه: "وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكراً".
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بصيامه، فقال لأصحابه: "أنتم أحق بموسى منهم فصوموا".
وصيام عاشوراء كان معروفاً حتى على أيام الجاهلية قبل البعثة النبويّة، فقد ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه".
قال القرطبي: "لعل قريشاً كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم -عليه السّلام-".
وقد ثبت أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة، فلما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يحتفلون به، فسألهم عن السبب فأجابوه كما تقدم في الحديث، وأمر بمخالفتهم في اتّخاذه عيداً؛ كما جاء في حديث أبي موسى -رضي الله عنه- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ما رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرّى صيام يوم فضله على غيره إلاَّ هذا اليوم يومَ عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".
روى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "حين صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، قال: فلم يأتِ العام المقبل حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن هذه الأحاديث مجتمعة، ومن هذه المناسبة المباركة نستخلص عددا من الدروس والعبر التي أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها:
الدرس الأول: أن نعرف فضل الله -تعالى- علينا في أن جعل لنا مواسم نتوب فيها ونرجع إلى الله، فيكفر عنا الخطايا، ولكن مع ذلك لا بد أن نعلم أن الخطايا التي تكفر إنما هي الصغائر، فليحذر الكثير من الناس الذين يرتكبون الموبقات، ويتركون الفرائض، وينتهكون الحرمات، ويظنون أن ذلك يكفر بصيام هذا اليوم، وينسون أن أمر الكبائر يحتاج إلى توبة وعزم على عدم الرجوع، قال الإمام النووي -رحمه الله-: "يكفر كل الذنوب الصغائر، وتقديره يغفر ذنوبه كلها إلا الكبائر"، ثم قال رحمه الله: "صوم يوم عرفة كفّارة سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة، وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفَّره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات، ورفعت له به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغائر رجونا أن تخفف من الكبائر".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وتكفير الطّهارة، والصّلاة، وصيام رمضان، وعرفة، وعاشوراء للصّغائر فقط".
وقال ابن القيم: "لم يدرِ هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفّر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة لا يقويان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر".
ومن المغرورين من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه؛ لأنه لا يحاسب نفسه على سيئاته، ولا يتفقد ذنوبه، وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها، كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرّة، ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم، ويتكلم بما لا يرضاه الله طول نهاره، فهذا أبداً يتأمّل في فضائل التسبيحات والتهليلات ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذّابين والنمّامين، إلى غير ذلك من آفات اللّسان، وذلك هو الغرور.
الدرس الثاني: نأخذ من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نحن أحق بموسى منكم" أن هذه الأمة المباركة هي امتداد للأنبياء والصالحين، وأن كل نبي وكل صالح من الأمم السابقة فإنما هو تابع لهذه الأمة، ونحن أحق بكل نبي من قومه الذين كذبوه وعصوه... وأن الأنبياء -عليهم السلام- امتداد لتاريخنا، وقد قال الله -تعالى- بعد أن ذكر قصص الأنبياء: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92].
(هَذِهِ أُمَّتُكُمْ) أمة الأنبياء (أُمَّةً وَاحِدَةً)، تدين بعقيدة واحدة، وتتجه اتجاها واحدا، هو الاتجاه إلى الله وحده دون سواه، (أُمَّةً وَاحِدَةً) وفق سنة واحدة، تشهد بالإرادة الواحدة في الأرض والسماء، (أُمَّةً وَاحِدَةً) في الأرض، ورب واحد في السماء، لا إله غيره ولا معبود إلا إياه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أولى الناس بعيسى ابنِ مريمَ في الدُّنيا والآخرة، والأنبياء إِخْوة لعَلاّتٍ أمَّهاتُهم شَتّى ودِينهم واحد".
وللأسف -أيها الإخوة-: فإن أعداء الإسلام من اليهود والنصارى قد علموا هذه الحقيقة، وعرفوا كيف أن المسلمين يحترمون الأنبياء السابقين، فأرادوا بمكر منهم وخبث ودهاء أن يستغلوا هذه الحقيقة لتمييع المسلمين وكسر تميزهم ومحاولة تحطيم اعتزازهم بهذا الدين.
وهذا الأمر هو الحدث المهم الذي يجري الآن على الساحة دون أن يتفطن له كثير من المسلمين، فالمنظرين في الغرب يعملون الآن بجد بالتعاون مع اليهود لهدم التميز الإسلامي من خلال عقد المؤتمرات لبحث وحدة الأديان، والمحاولات الجادة لتقريب وجهات النظر بين أصحاب الأديان الثلاثة وإغراء عدد من علماء السوء وكثير ممن يسمونهم بالمفكرين الإسلاميين بتقديم تنازلات في العقيدة لدمج الأديان الثلاثة، حتى ظهرت الدعوة الجديدة التي تدعو إلى العودة إلى دين إبراهيم.
وأصبحت هناك منتديات مشتركة يحترم كل واحد فيها عقيدة الآخر، ويقر فيها المسلم بعقائد الشرك وطقوس الوثنية، والأدهى من ذلك أن يؤخذ طلبة المدارس الإسلامية لزيارة الكنائس والمعابد والمشاركة في الصلوات الشركية.
وهذا الأمر أمر خطير جدا ينبغي على كل مسلم الحذر من مكائد ما يبثه أولئك الماكرين والكافرين، ولنحذر من الكافرين مرة، ولنحذر من المنافقين ألف مرة.
الدرس الثالث: أن نعلم أن دين الأنبياء واحد ولكن شرائعهم متعددة، فالله -تعالى- أرسل الرسل كلهم بالتوحيد الخالص وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25]، ولكنه مع ذلك جعل لكل نبي شريعة مختلفة بحسب ما تحتاجه أمته، حتى جاء هذا النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فأكمل له الشرع الحنيف، وألغى كل شريعة قبله، ولم يقبل من الدين إلا ما جاء عن طريقه، وحذر من اتباع أي شرع سوى هذا الشرع المطهر، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة: 48]، فلا يجوز لأي مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتقد أن غير دين الإسلام يمكن أن يكون صحيحا.
الدرس الرابع: نأخذ من هذا اليوم عبرة عظيمة حيث نصر الله -تعالى- فيه موسى على الطاغية فرعون، فإن الله -تعالى- يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، والمسلم يعلم أن النصر قادم وأنه ليس عليه إلا أن يستعين بالله ويفعل ما أمر به ثم يصبر لحكم الله -تعالى-: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 128 - 129].
إنها رؤية النبي لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه، رؤية النبي لحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه، ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون.
إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد، وهو الملاذ الحصين الأمين، وليس لهم إلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين، وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه، وألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير، وإن الأرض لله، وما الفراعنة وطواغيت الأرض إلا نزلاء فيها، والله يورثها من يشاء من عباده -وفق سنته وحكمته- فلا ينظر الدعاة إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها، فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها!
وإن العاقبة للمتقين، طال الزمن أم قصر، فلا يخالج قلوب الدعاة قلق على المصير، ولا يخيل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد، فيحسبونهم باقين.
الدرس الخامس: يجب علينا أن نحمد الله -سبحانه- بأن جعلنا من أتباع السنة المطهرة وأن نجانا من اتباع طريق أهل البدع الذين اتخذوا ضرب أنفسهم وتسويد وجوههم دينا يدينون الله -تعالى- به، وجعلوا اللعن وسب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قربة يتقربون بها إلى الله، وهي في الحقيقة تقربهم إلى جهنم وبئس المصير؛ لأن الله -تعالى- قد أثنى على صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في آيات كثيرة الله.
فهاهو الله -تعالى- يعلن رضاه عنهم فيتفضل عليهم برضوانه وبشرياته وامتنانه وتثبيته، ويبلغهم أنه عنهم راض، وأنه كان حاضرهم وهم يبايعون في مكان بعينه: (تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح: 18]، وأنه اطلع على ما في نفوسهم، وأنه رضيهم ورضي عنهم، وأنه كتب لهم النصر في المستقبل والغنائم والفتوح: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [الفتح: 18- 19]، أفهؤلاء الذين رضي الله عنهم يتطاول عليهم حثالة البشر وبقية عباد النار؟
واستمع إلى قول الله -تعالى-: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 29].
قال الإمام مالك -رحمه الله-: "من غاظه أصحاب محمد فقد أصابته هذه الآية" يعني قوله تعالى: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) فالذي يغيظه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هم الكفار".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن ذكر مقتل الحسين -رضي الله عنه-، وماذا فعل الناس بسبب ذلك، فقال: "فصارت طائفة جاهلة ظالمة؛ إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهليّة من لطم الخدود، وشق الجيوب، والتَّعزي بعزاء الجاهلية، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصّدق فيها ليس فيه إلاّ تجديد الحزن، والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتّوسل بذلك إلى سبِّ السَّابقين الأولين، وشرُّ هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرّجل الفصيح في الكلام.
فعارض هؤلاء قوم إمّا من النّواصب المتعصّبين على الحسين وأهل بيته، وإما من الجُهّال الّذين قابلوا الفاسد بالفاسد، والكذب بالكذب، والشَّرَّ بالشَّرِّ، والبدعة بالبدعة، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والاختضاب، وتوسيع النفقات على العيال، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسماً كمواسم الأعياد والأفراح، وأولئك يتخذونه مأتماً يقيمون فيه الأحزان والأفراح، وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة" انتهى.
أهل السنة لا يفرحون بمقتل الحسين ولا بمقتل أي رجل من المسلمين، ولكن ذلك لا يخرجهم إلى حد الغلو والابتداع في الدين، ولو جاز لهم فعل شيء من ذلك لكانت وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم مصيبة من قتل الحسين -رضي الله عنه-.
ولو أن هؤلاء المبتدعة يحبون الحسين حقا لاتبعوه واهتدوا بهديه في هذا اليوم، ولكانوا صياما كما كان صائما رضي الله عنه.
ولا يفوتني هنا أن أذكر إخواني بأهمية صيام هذا اليوم فالذي لم يصم هذا اليوم فلا يفرط في صيام الغد فهو يوم عاشوراء فقد سمعتم ما فيه من الأجر وتكفير الذنوب.
الدرس السادس: نأخذه من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بمخالفة اليهود، والأحاديث التي جاءت في النهي عن التشبه بالكفار في كل شيء كثيرة جدا ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء: "لئن عشتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع".
يقول هذا عليه الصلاة والسلام مع أن صيام اليهود كان صياما صحيحا على شرع موسى -عليه السلام-، ولكنه التأكيد على المخالفة التي طالما أظهر تأكيدها النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى قال اليهود: "مَا يُرِيدُ هذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئاً إِلاَّ خَالَفَنَا فِيه".
لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يريد لنا الرفعة عن مشابهة الكفار، ويريد لنا العزة، ويريد لنا التميز، فلماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟
النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد لنا الرفعة فلماذا نرضى الخضوع؟
النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد لنا العزة فلماذا نرضى بالذل والخنوع؟
النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد لنا التميز فلماذا نرضى بالتميع؟
نحن أمة مرفوعة فلم نكون خاضعين؟ نحن أمة متبوعة فلم نكون تابعين؟ نحن أمة الجهاد فلم نخاف الأذلة الصاغرين الذين غضب الله عليهم وضرب عليهم الذلة والمسكنة؟
عجبا لكم -أيها المسلمون-: يا من دانت لكم الدنيا وأنتم جياع, كيف استعبدتكم وأنتم شباع قد حزتم أموال الدنيا وتربعتم على أسباب الحياة؟ يا من قصمتم القياصرة, وكسرتم الأكاسرة، وحطمتم الجبابرة، كيف جبنتم عن ملاقاة ثلة ضائعة حائرة من أحفاد القردة والخنازير؟
عجبا -أيها المسلمون-: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ كيف رضيتم بالدنيا وتركتم الجهاد، وقد سمى الله ترك الجهاد وموالاة اليهود والنصارى ردة، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54].
نعوذ بالله أن نكون ممن قال الله فيهم: (رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ) [التوبة: 87].
وإذا لم يكن من الموتُ بدٌ *** فمن العار أن تموت جبانا
فإذا لم تتيسر أسباب الجهاد فليس هناك أقل من أن تبغض الكفار، وتتجنب طريقهم، وتحذر مكائدهم، ونحذر منهم أهلينا ومن لنا ولاية عليه، مع العلم بأن الجهاد يكون بالسنان وباللسان، ويكون بالنفس وبالمال، ويكون بكل وسيلة مشروعة، ويكون للكفار والمنافقين، والله -تعالى- يحرض نبيه -صلى الله عليه وسلم- فيقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التوبة: 73].
نسأل الله أن يجعلنا من أهل سنة نبيه الكريم، وأن يحيينا على الإسلام ويميتنا على الإيمان، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية:
لم ترد...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم