خير القرون

سليمان بن حمد العودة

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ مكانة وفضل الصحابة رضي الله عنهم 2/ إجماع المسلمين على عدالتهم 3/ فتوح المسلمين بفضل الصحابة رضي الله عنهم 4/ توقف الفتوح بعد تابعي التابعين 5/ موقف أهل السنة فيما شجر بينهم 6/ حرمة سب الصحابة والنيل منهم 7/ حرمة سب الصحابة وعقوبة الساب لهم 8/ الحكمة من العناية بأعراض الصحابة 9/ التنبه لمثل هذه الأفكار المنحرفة

اقتباس

وفي أمة الإسلام نجوم ومصابيح دجى أشرق نورها فترة من الزمن في هذا الوجود، ولئن ماتوا بأجسادهم فلا زال تاريخهم -ولن يزال- غضاً طرياً يستنهض الهمم ويجلو الريب، ويبعث على الجهاد والتضحية في سبيل الله.. إنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير القرون، وأولئك القوم الذين اختارهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ..

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه.

اتقوا الله -عباد الله-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً). واخشوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ).

إخوة الإسلام: وما أحوج الأمة إلى مُثُلٍ ونماذج صادقة تحذو حذوها، ورجالاتٍ ذات همم صادقة وعالية يقتدى بها، ويستضاء بتاريخها.

وفي أمة الإسلام نجوم ومصابيح دجى أشرق نورها فترة من الزمن في هذا الوجود، ولئن ماتوا بأجسادهم فلا زال تاريخهم -ولن يزال- غضاً طرياً يستنهض الهمم ويجلو الريب، ويبعث على الجهاد والتضحية في سبيل الله.

إنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير القرون، وأولئك القوم الذين اختارهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخصهم بفضل الصحبة -دون سواهم- وما كان اختيارهم على غيرهم فرطاً، بل كان قدراً -من عند الله- مقدوراً.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون عن دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء".

هم القوم أعلى شأنهم القرآن، وأثنى الله فيه على المهاجرين والأنصار، ورضي الله عن أصحاب البيعة تحت الشجرة، وتاب على الذين اتبعوه في جيش العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم.

ولئن فضل الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على من أسلم بعدهم، فكلاً وعد الله الحسنى وكفاهم فخراً -أن يقول الله فيهم ومن اتبعهم بإحسان: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنة للأمة، وبذهابهم أتى الأمة ما كانوا يوعدون، قال عليه الصلاة والسلام: "النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".

قال صاحب النهاية: "والأمنة في الحديث جمع أمين وهو الحافظ، وفي الحديث إشارة بالجملة إلى مجيء الشر عند ذهاب أهل الخير".

أمة الإسلام: لقد أخبر الصادق المصدوق عن فضلهم وحكم بعلو منزلتهم فقال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قال عمران بن حصين رضي الله عنه -الراوي- فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة- "ثم إن بعدهم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن".

ونهى عليه الصلاة والسلام وكرر النهي عن سبهم حين قال: "لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".

وأجمع أهل السنة والجماعة على عدالتهم، حتى قال الخطيب في الكفاية: "والأخبار في هذا المعنى تتسع، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم، المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق لهم، فهم على هذه الصفة إلى أن يثبت على أحد ارتكاب مالا يحتمل إلا قصد المعصية، والخروج من باب التأويل، فيحكم بسقوط العدالة، وقد برأهم الله من ذلك، ورفع أقدارهم عنده إلى أن قال: "على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرنا لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين".

أيها المسلمون: ولفضل الصحابة يفتح للمسلمين إذا كانوا فيهم، ويفتح لمن صحبهم، أو صحب من صحبهم، وتلك كانت هي فترات القوة للبعوث الإسلامية، والجهاد إلى بلاد الكفار.

أخرج الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس، فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: نعم، فيفتح لهم" وفي لفظ: "هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وهذا الحديث يستفاد منه عدة أمور ومنها:

أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم بصحبته وعلق برؤيته، وجعل فتح الله على المسلمين بسبب من رآه مؤمناً به، وهذه الخاصية لا تثبت لأحد غير الصحابة، ولو كانت أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ ابن حجر: "ويستفاد من الحديث بطلان قول من ادعى في هذه الأعصار المتأخرة الصحبة؛ لأن الخبر يتضمن استمرار الجهاد والبعوث إلى بلاد الكفار، وأنهم يسألون: هل فيكم أحد من أصحابه؟ .. وكذلك في التابعين، وفي أتباع التابعين.
وقد وقع كل ذلك فيما مضى، وانقطعت البعوث عن بلاد الكفار في هذه الأعصار، بل انعكس الحال في ذلك على ما هو معلوم مشاهد من مدة متطاولة ولا سيما في بلاد الأندلس".

وإذا كان هذا في زمن ابن حجر؛ فكيف لو أبصر حال المسلمين اليوم؟ وقد أصبحت بعوثهم التنصيرية تغزو بلاد المسلمين، وتدرس في السياسات الخارجية للدول الكبرى مشروعات تنصير المسلمين، ومحاولة الضغط عليهم بالمنح والقروض، ولكن (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

اللهم انفعنا بالقرآن، وهدي محمد عليه الصلاة والسلام..

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله رب العالمين، يختص برحمته من يشاء، وهو العليم الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فضل هذه الأمة بالتراحم فيما بينها، فيستغفر اللاحقون للسابقين، على حين كانت الأمم الجاهلية قبلهم يلعن بعضهم بعضاً؟ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أوحى إليه ربه أفضلية قرنه، وشهد لصحابته بالخيرية على من سواهم، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.

أيها المسلمون: ويقول القاضي عياض -يرحمه الله- عن ميزة الصحابة: "وفضيلة الصحبة -ولو لحظة- لا يوازيها عمل، ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بالقياس".

أما عما شجر بينهم، فيقول الذهبي -يرحمه الله-: "كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بينهم، وقتالهم -رضي الله عنهم- أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب؛ فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه؛ لتصفوا القلوب، وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء".. إلى أن يقول: "فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك فلا نُعرِّج عليه، ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب الروافض رواية الأباطيل، أو رَدُّ مافي الصحاح والمسانيد، ومتى إفاقة من به سُكران".

هذه معاشر المسلمين مقتطفات عاجلة من معتقد أهل السنة والجماعة في الصحابة، وتلك قناعات ومنطلقات شرعية لا تهتز بإرجاف المرجفين، ولا تتأثر بتشكيك المشككين.

وإذا كانت أعراض المسلمين -بشكل عام- مصونة في الإسلام، فأعراض الصحابة -وهم أهل الفضل والسابقة والجهاد- أولى بالصيانة والدفاع قربة لله عز وجل، وتقديراً لمآثرهم وجهادهم.

وقد نص العلماء قديماً على تحريم سب الصحابة، وأرشدوا إلى عقوبات تعزيرية لمن فعل ذلك معهم.

قال الإمام النووي -يرحمه الله-: "وأعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره".

وقال الإمام أحمد: "إنه يجب على السلطان تأديبه وعقوبته، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه".

واعتبر القاضي عياض تعزير من سب الصحابة مذهب الجمهور؛ بل نقل عن بعض المالكية؛ أنه يقتل. وحكم الإمام أحمد -يرحمه الله- على نوعية الطاعنين في الصحابة فقال: "فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداً منهم، أو تنقصه أو طعن عليه أو عرض بعيبهم أو عاب أحداً منهم -فهو مبتدع رافضي".

أيها المسلمون: لماذا هذه العناية بأعراض الصحابة؟ ولماذا الدفاع عنهم؟ لأن هناك مكمن خطر في سبهم أو التعريض بهم وعدالتهم، فهم نقلة الدين، والطعن فيهم وسيلة للطعن في الدين.

وهذا ما نبه إليه الإمام أبو زرعة الرازي -يرحمه الله- حين قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة".

عباد الله: لا بد من التنبه لمثل هذه الأفكار المتسللة، التي تحاول بين الفينة والأخرى الطعن في أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كانت بعبارات صريحة أو ملفوفة، أو استخدمت أسلوب التشكيك في وجود هذا الصحابي وأسطوريته.

فتلك -رغم ما فيها من جرأة- تحطم الحجب الواقية لهذا التاريخ المجيد، الذي أجمعت عليه الأمة، هو كذلك إشغال للأمة بقضايا جانبية، لا يحتمله تاريخ الأمة المثقل بكثير من القضايا والهموم، ليس اجتماع الكيد الصليبي مع التطرف اليهودي على العبث بمقدسات المسلمين ومحاصرة وتجويع أبنائهم إلا واحدة من هذه القضايا المؤلمة، التي تحتاج من المسلمين إلى عمل دؤوب وصدق في اللقاء، يدفع الله به كيد الكائدين.

وإذا قدر لهذه القضايا أن تبحث؛ فينبغي أن يوسد الأمر إلى أهله، وأن يتوفر على ذلك علماء متمكنون في عملهم صادقون في توجههم، برآء من أي تهمة في سلامة معتقدهم، وأن يكون على مستوى الخاصة، وألا تفتن به العامة، وألا تكون قضية مطروحة للمزاد، يهرف فيها من لا يعرف، ويظن الجاهل أن من حقه أن يوافق أو يخالف.

وليت شعري كم تنطق الرويبضة ويتصدر السفهاء إذا غاب عن الساحة صوت العلماء، أو توارى خلف الحجب رأي النبلاء!

ومع ذلك؛ فالزبد سيذهب جفاء، ويمكث في الأرض ما ينفع الناس، وكذلك اقتضت حكمة الله في الصراع بين الحق والباطل قديماً وحديثاً؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، وينحاز الصادقون، وينكشف -ولو بعد حين- الكاذبون.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

 

 

 

 

 

المرفقات

1065

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات