خيرات وبركات سلامة القلب وإغاثة المنكوبين

بندر بليلة

2023-02-10 - 1444/07/19 2023-02-10 - 1444/07/19
عناصر الخطبة
1/شرف القلب ووجوب العناية به 2/فوائد وثمرات العناية بالقلب وتطهيره 3/وسائل وأسباب تطهير القلب 4/بعض العبر والعظات من الكوارث والزلازل والمصيبات 5/ضرورة إغاثة المنكوبين ومساهَمة بلاد الحرمين في ذلك

اقتباس

ألم تَروا إلى هذه الأرض التي منها تُخلَقون، وعليها تعيشون، وعلى ظَهرها تَدرُجُونَ، وفي بطنها تُدفَنون، جعَلَها اللهُ بِساطًا ومِهادًا وقرارًا، وقدَّر فيها الأرزاقَ والأقواتَ إنعامًا منه وإفضالًا واقتدارًا، ثم شاء -سبحانه- فزلزَلَها إعذارًا وإنذارًا...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله تفرَّد بكل كمال، وتنزَّه عن أن تكون له صاحبة وآل، أحمده -سبحانه- على نِعَمِه الجِزالِ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الكبير المتعال، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه بديعُ الخِلَالِ، ورفيعُ الخصالِ، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه خير صحب وأكرم آل، والتابعينَ وتابعيهم بإحسان، صلاةً وسلامًا دائمينِ بدوام الأيام والليالي.

 

أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناسُ- ونفسي بتقوى الله -سبحانه-، فاتقوا الله -رحمكم الله-، وإيَّاكم والاغترار بالأماني والآمال؛ فأنتم على وشك النُّقْلَة والارتحال؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18].

 

أيها المسلمون: أشرفُ ما في الإنسان قلبه، وهو سيد أعضائه وقائدها، وصلاحُ قالبِه بصلاحِ قلبِه، وفسادُه بفسادِه، عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "إِنَّ ‌فِي ‌الْجَسَدِ ‌مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"(أخرجه البخاري ومسلم).

 

القلب مصدر القوة، ومستقر الروح، ومستودع الإيمان، وهو موضع نظر الرب ومحل رضاه، وهو عُدَّةٌ لصاحبه إن سَلِمَ يوم الوفود على مولاه، قال سبحانه: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشُّعَرَاءِ: 88-89]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صُوَرِكم وأموالِكم، ولكِنْ ينظُر إلى قلوبكم وأعمالكم"(أخرجه مسلم).

 

عبادَ اللهِ: تعهُّد القلب ورعايته وإصلاحه وتطهيره ووقايته واجب محتم، وأمر عند الله معظَّم، وبه فوز العبد ونجاؤه، وسعده وهناؤه، وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ ألَا وإن لذلك وسائل وأسبابًا، وطرقًا وأبوابًا، فأوَّلُها وأَوْلَاها: الإخلاص لله -تعالى- بأن يُعَلِّق العبدُ قلبَه بربِّه -سبحانه-، ويكون له قوله وعمله وتركه، ويبرأ ممَّا سِوَاهُ من المخلوقات.

وعَيْنُ انطرادِ القلبِ فقدُ الذي له *** أُرِيدَ من الإخلاص والحب فاعلما

 

وممَّا يُصلحُ القلبَ -يا -رعاكم الله- فعلُ الطاعاتِ، مِن فرائضَ وواجباتٍ ومُستحبَّات؛ فإنَّها تُنوِّر القلبَ وتجلُوُه، وتُثَبِّتُه وتُقوِّيه، وبضدِّها المعاصي والذنوب؛ فإنَّها تُظلِمُ القلبَ وتُغويه، وتُمرِضُهُ وتُردِيه، قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "تُعرَضُ الفتنُ على القلوبِ كالحصيرِ عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداءُ، وأيُّ قلبٍ أَنكرها نُكِتَ فيه نكتةٌ بيضاءُ، حتى تصيرَ على قلبينِ: على أبيضَ مثلِ الصَّفا، فلا تضرُّهُ فتنةٌ ما دامتِ السماواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودُ مِربادًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرفُ معروفًا ولا يُنكِرُ مُنكَرًا إلا ما أُشرِبَ مِنْ هَوَاهُ"(أخرجه مسلم).

 

أيها المسلمون: ذِكرُ اللهِ جِلاءٌ للقلب، وروحٌ يَحيا به، ونورٌ يستضيء بقَبَسِه، وهو له كالغِذاء للجسد، والماءِ للزَّرع، قال سبحانه: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرَّعْدِ: 28]، وجاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرَتْ عليَّ، فأَخْبِرْني بشيءٍ أَتَشَبَّثُ به"، فقال عليه الصلاةُ والسلام: "لا يزالُ لسانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ"(أخرجه أحمدُ والترمذيُّ وحسَّنه).

ودَاوِمْ بِسُقْمِ الْقَلْبِ وَاعْمُرْ خَرَابَهُ *** بِذِكْرِكَ مَوْلَانَا فَسَبِّحْ وَهَلِّلِ

 

ومَن عَمِلَ أو ألَمَّ بخطيئة فلْيلْهَجْ بالاستغفار؛ فإنَّه مَمحاةٌ للذنب، ومَطهرةٌ للقلب، قال الحق -سبحانه-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 135]، وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّه لَيُغانُ على قَلبِي، وإنِّي لَأسْتَغْفِرُ اللهَ في اليومِ مئةَ مرةٍ"(أخرجه مسلم).

 

وإذا أقبَل العبدُ على القرآنِ تلاوةً وعملًا وتدبُّرًا رقَّ قلبُهُ وراقَ، وحَفَّه الخيرُ والضياءُ، كيف لا! وكتابُ اللهِ هو الهُدى من الضَّلالة، والمُبدِّدُ لظُلَمِ الجَهالةِ، وهو الشفاءُ من الأسقامِ البدنيَّةِ والقلبيَّةِ، والعِصمةُ في الأمورِ الدنيويَّةِ والدينيَّةِ؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يُونُسَ: 57].

 

ألا فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن منزلة العبد عند ربه بحياة قلبه؛ فبقدر حياة قلب العبد يكون قُربُه مِنْ رَبِّهِ، وبقَدْر قسوةِ قلبِه يكون بُعدُه عنه؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا)[الْإِسْرَاءِ: 25].

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنِي وإيَّاكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتُم، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفِروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله المتفرد بمجده وعظمته، المدبر للأمور بمشيئته وحكمته، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وسنته.

 

أمَّا بعدُ، فيا أيها المؤمنون: لله في أكوانه آياتٌ ظاهراتٌ، ومُعجزاتٌ باهراتٌ، تشهدُ بعظمةِ الخالقِ وجَمالِ الخَلْقِ، وتدعو إلى التدبُّرِ والتبصُّرِ واليقينِ، ألم تَروا إلى هذه الأرض التي منها تُخلَقون، وعليها تعيشون، وعلى ظَهرها تَدرُجُونَ، وفي بطنها تُدفَنون، جعَلَها اللهُ بِساطًا ومِهادًا وقرارًا، وقدَّر فيها الأرزاقَ والأقواتَ إنعامًا منه وإفضالًا واقتدارًا، ثم شاء -سبحانه- فزلزَلَها إعذارًا وإنذارًا، (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ)[الْأَعْرَافِ: 10]، (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا)[غَافِرٍ: 64]، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الْمُلْكِ: 15].

 

ألا إن تَزلزُلَ الأرضَ مَدعاةٌ لتَزَلْزُلِ القلبِ ويَقَظَتِه، ولينِه بعد قَسوتِه، تعظيمًا لله ووَقارًا، وإخباتًا له وانكسارًا، وبُعدًا عن مَناهِيهِ، وتلمُّسًا لمَراضيهِ.

 

لقد فُجِعَ الناسُ بما جرى في بعض ديار المسلمين من الزلازل المدمِّرة، والرَّجَفَات المُروِّعة، وللهِ -سبحانَه- الحمدُ على ما قدَّر وقضى، يَبتَلِي بالسراءِ والضراءِ، ويختبِرُ في المنعِ والعطاءِ، ويَعِدُ الصابرينَ بالرحمةِ والهُدى والصلواتِ، وله الحكمةُ البالغةُ والرحمةُ السابغةُ في البَلايا والمصيباتِ، وإنَّا لَنرجو منه -سبحانه- أن يجعل أولئك المنكوبينَ في حِزْرِه وضَمانِه، وكَنَفِه وإحسانِه، وأَنْ يشفيَ مرضاهم، ويُداويَ جَرحَاهُم؛ ويرحمَ موتاهم.

 

ولقد كانت هذه البلادُ المباركةُ، المملكةُ العربيةُ السعوديةُ، خيَر مِعوانٍ في هذا المصاب الجَلَل، فمَدَّت أياديَ العونِ والعَطاءِ، وغَدَتْ للمضرورينَ منه رَوْضَ خيرٍ وسَحابَ نَدًى، فشَكَر اللهُ لخادمِ الحرمينِ الشريفينِ، وسموِّ وليِّ عهدِهِ على ما أَمَرَا به ووجَّهَا، وأحسَنَ إليهما، وأجزَل لهما الأجرَ والثوابَ، ولا يَفُتْكُم -أيها الموفَّقون- أن تُصيبوا من هذا الخير، برفِدِ المصابينَ في ذاك الحدث ومساعدتهم، من خِلال الجهاتِ الرسميةِ، واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ ما في عون أخيه.

خيرُ الندى وأفضلُ المعروفِ *** فيما يُرى إغاثةُ الملهوفِ

 

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وعلى الآل والأصحاب، التابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب، وعنا معهم بمنك وكرمك يا كريم يا وهاب.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم فَرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.  

 

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد يا رب العالمين، اللهم سَدِّدْ جندَنا المرابطينَ على الحدود والثغور، كن لهم معينًا وظهيرًا، ومؤيِّدًا ونصيرًا.

 

اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا صالحًا متقبَّلًا، اللهم أَحْسِنْ عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 53]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النَّحْلِ: 90-91].

 

 

المرفقات

الوصية بالتوبة والاستغفار والرضا بأقدار الله.pdf

الوصية بالتوبة والاستغفار والرضا بأقدار الله.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات