اقتباس
بعض الخطباء لا يعد للخطبة إلا في صبح الجمعة أو قبلها بسويعات والذي يفعل ذلك إن كان فعله له سبب يبيح ذلك له فالضرورة لها أحكامها، أما إذا كان ديدنه ذلك أو يقتلع إحدى الخطب؛ ثم يلقيها من على المنبر، فهذا ممن لا يحمل دعوة ولا رسالة وإنما اتخذ المنبر عادةً أو تكسباً فلا حول ولا قوة إلا بالله. فالواجب على الخطيب أن يضع جل همه وتفكيره في خطبة الجمعة ويفرغ لها الوقت الطويل؛ لإعدادها الإعداد المناسب حتى يبرأ الذمة ويحصل...
كنا قد شرعنا في الجزأين السابقين بالحديث عن بعض الخواطر والتوجيهات التي تهم الخطيب في خطبته، وإليك ما تبقى من تلك الوصايا والإرشادات فأقول مستعينا بالله تعالى:
1-الإخلاص والمتابعة:
فالذي ينبغي للخطيب في ذلك أن يكون منشأ الخطبة والسعي إليها وطلبها من باب الإخلاص لله-عز وجل-وتبليغاً للدين ودعوة إلى التمسك بالعقيدة الصحيحة والشريعة السمحة عملاً بقول النبي-صلى الله عليه وسلم:" بلغوا عني ولو آية " ولكن هذا العمل لا يتم قبوله بعد الإخلاص لله-عز وجل-إلا بمتابعة النبي-صلى الله عليه وسلم-فهذان هما شرطا قبول العبادة؛ لقوله تعالى "ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً"[الملك:2]. قال الفضيل بن عياض: أي أخلصه وأصوبه أهـ.
واعلم بأن الأجر ليس بحاصل *** إلا إذا كانت له صفتان
لابد من إخلاصه ونقائه *** وخلوه من سائر الأدران (2)
2- قد يبدأ الخطيب مشوار الخطابة بداية متواضعة؛ يحقر فيها نفسه، ولكن ما إن تقف قدماه على منبر الخطباء النجباء-لذين يملكون قلوب الناس قبل أسماعهم-إلا وتبقى نفسه عرضة للانزلاق في مهاوي العجب الذي يحمله على الإعجاب برأيه دون غيره؛ فيقع فريسة للأخطاء ومجانبة الصواب، لاسيما في الأمور المعضلة، والنبي-صلى الله عليه وسلم-ذم هذه الصفة بقوله : "إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك نفسك "[ أبو داود والترمذي وحسنه]، وأحسن ما يداوي المعجب بنفسه نفسه هو أن ينظر إلى من فوقه علماً وتواضعاً من سلفنا الصالح وعلمائنا الكرام (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)[يوسف: 76].
قال الشاعر:
من شـاء عيشاً هنياً يستفد بـه *** في دينه ثم في دنياه إقبالا
فلينظرن إلى من فوقـه أدبـاً *** ولينظرن إلى من دونه مـالا
3- ينبغي للخطيب أن ينتبه لناحية مهمة تعد مدخلاً واسعاً من مداخل الشيطان لا سيما إذا كان الخطيب ممن يتجمهر حوله الناس، ويكثر محبوه، وهذا الأمر المهم هو إرضاء الناس فالخطيب المشهور تعتريه-غالباً-حالتان: إما أن يرضي جمهوره بخطبة فيها تشنج وقوة نقد، دون روية أو تسيُّس، أو يرضي طرفاً آخر-غير الجمهور- وكلا الأمرين خطأ فادح، ولا أدل على خطأ ذلك، من قول النبي-صلى الله عليه وسلم: " من التمس رضاً الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس، ومن التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضا عنه الناس " هذا إن أرضاهم بأمر خاطئ، أما إذا أرضى أحد الطرفين بأمر صواب وهو يقصد إرضاءهم بذلك فهو من باب الرياء وهو الشرك الخفي.[وميض الحرم: 1].
4-بعض الخطباء لا يعد للخطبة إلا في صبح الجمعة أو قبلها بسويعات والذي يفعل ذلك إن كان فعله له سبب يبيح ذلك له فالضرورة لها أحكامها، أما إذا كان ديدنه ذلك أو يقتلع إحدى الخطب؛ ثم يلقيها من على المنبر، فهذا ممن لا يحمل دعوة ولا رسالة وإنما اتخذ المنبر عادةً أو تكسباً فلا حول ولا قوة إلا بالله. فالواجب على الخطيب أن يضع جل همه وتفكيره في خطبة الجمعة ويفرغ لها الوقت الطويل؛ لإعدادها الإعداد المناسب حتى يبرأ الذمة ويحصل المقصود. [وميض الحرم1].
5-مفهوم الموعظة:
أخطأ بعض الناس من الخطباء وغيرهم في مفهوم الموعظة فبعضهم قصرها على التخويف وآخرون قصروها على الترغيب ونتيجة القولين؛ أحدثت نقداً من البعض بسبب قصور هذا الفهم على بعض الخطباء الذين يتكلمون في خطبهم عن بعض الأحداث المعاصرة أو نحو ذلك، والتعليق عليها بما ينفع المسلمين ومن ثم فقد يوجه اللوم على من يسير على هذه الطريق بأنك لا تهتم بالوعظ في الخطب ولو أنك فعلت كذا وكذا ... إلخ.
وأقول بياناً لهذا المفهوم البعيد عن الحق:
الوعظ في اللغة: الأمر بالطاعة والوصية بها قال ابن سيده في المصباح المنير: وعظه يعظه وعظاً وعظة ً: أمره بالطاعة ووصاه بها وعليه قوله تعالى:(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ...) [سبأ:46] أي أوصيكم وآمركم فاتعظ أي ائتمر وكف نفسه، والاسم: الموعظة وهو واعظ والجمع وعاظ.اهـ
وقال الرازي في مختار الصحاح: وعظ (لوعظ): النصح والتذكير بالعواقب. اهـ.
والوعظ في الاصطلاح : قال عنه العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ما نصه :" تنبيه : فإن قيل يكثر في القرآن إطلاق الوعظ على الأوامر و النواهي كقوله هنا ( يعظكم لعلكم تذكرون ) مع أنه ما ذكر إلا الأمر والنهي في قوله (إن الله يأمر بالعدل - إلى قوله وينهى عن الفحشاء ) وكقوله في سورة البقرة بعد أن ذكر أحكام طلاق الرجعة (ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ) وقوله في النهي عن مثل قذف عائشة رضي الله عنها (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً ) مع أن المعروف-عند الناس-أن الوعظ يكون بالترغيب والترهيب، ونحو ذلك لا بالأمر والنهي فالجواب: أن ضابط الوعظ هو الكلام الذي تلين له القلوب، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء : أوامر ربهم و نواهيه، فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله، وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه، فحداهم حادي الخوف إلى الامتثال فلانت قلوبهم للطاعة خوفاً و طمعاً " إ هـ.
قلت [القائل الشيخ سعود الشريم]: وبهذا يتضح غلط من قصر الوعظ على الترغيب أو الترهيب أو عليهما جميعاً، وبه تبين-كذلك-أن كل ما أوصل إلى التذكر أو تصحيح الخطأ في كل شأن من شئون الناس الدينية أو الدنيوية ولذلك جاء الوعظ حتى في الأمر والنهي كما ذكر ذلك صاحب أضواء البيان آنفاً ... إلخ [وميض الحرم 3].
قال الشيخ السعدي عليه -رحمة الله-:
في تفسير قوله تعالى: (ذلكــم توعظون بـه) (ذلكم): أي الحكم الذي ذكرناه لكم (توعظون بـه): أي يبين لكم حكمه مع الترهيب المقرون به لأن معنى الوعظ: ذكر الحكم مع الترغيب والترهيب. [تيسير الكريم الرحمن للشيخ السعدي].
قال ابن القيم عليه -رحمة الله-:
الموعظة الحسنة هي: -الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب [التفسير القيم لابن القيم]
6-التزام كثير من الخطباء ببعض الألفاظ في الخطبة على الديمومة:
إن المتتبع لكثير من خطباء المسلمين لا يكاد يجدهم متفقين على بعض الألفاظ في الخطب وقلّ أن تترك هذه العادة بل ولربما ظن كثير من العامة أن مثل هذه الألفاظ من صلب الخطبة أو أن الخطبة تكون ناقصة من دون إيرادها أو أن يحصل النكير من بعض العامة إذا تركت وما ذلك إلا لكثرة مداومة الخطباء عليها.
وأذكر على سبيل المثال بعض الألفاظ كقولهم مثلاً: -
1. اختتام الخطبة الأولى بآية وقبل أن يختم بهذه الآية يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في حين أنه لا يستعيذ في إيراد غيرها من الآيات.
2. المواظبة على ختم الخطبة بقول بعضهم: أقول قولي هذا واستغفر الله .... إلخ
3. قول بعضهم على سبيل الديمومة: هذا وصلُّوا رحمكم الله .... إلخ في آخر الخطبة الثانية. أو جعل محل الصلاة على النبي-صلى الله عليه وسلم-في هذا الموضع دائما.
4. قول بعضهم في آخر الخطبة على سبيل الديمومة: عباد الله اذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم .... إلخ
فهذه الألفاظ قلّ أن تختفي لدى كثير من الخطباء. والذي ينبغي للخطيب أن ينوع في مثل هذا لئلا يظن الناس أن هذا من الواجب بل إن ترك الشيء لتوضيح الحقيقة مما يجب على المسلم الذي يُقتدى به بل لو ترك السنة أحياناً إذا ظن بعض الناس من خلال المواظبة عليها أنها من الواجب فإن هذا الترك يكون مشروعاً ومثل هذا منقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في قوله: فإنه إذا ظن العامة أن المواظبة على قراءة السجدة والإنسان في فجر الجمعة من الواجب فإنه يستحب تركها أحياناً لإزالة هذا اللبس.
وقد قال ابن القيم-رحمه الله-في مثل هذا أيضاً: ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة – يعني سورة السجدة – دفعاً لتوهم الجاهلين.
وقال شيخنا العلاّمة محمد بن عثيمين-رحمه الله-في شرحه على زاد المستقنع ما نصه:" وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم