عناصر الخطبة
1/مكانة العدل في الإسلام وأمره به 2/حث الإسلام على العدل 3/فضل العدل 4/مجالات العدل 5/جريمة الظلم 6/نصرة الله للمظلوماقتباس
ولقد فطَر الله النفوسَ على محبّة العدل، فاتَّفقت على حسنِه الفطَر السليمَة والعقولُ الحكيمة، وتمدّح به الملوك والقادةُ والعظماء والسّادَة، وجاءت به الرِّسالات السّماوية (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وقد جاءَ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: يهنَأ العيش وتصفو الحياةُ حين يستوفي الإنسانُ كاملَ حقوقه، وتعمُر البلاد وتقوم الحضارات في ظلّ العدلِ والمساواة واستيفاءِ الحقوق.
ولقد فطَر الله النفوسَ على محبّة العدل، فاتَّفقت على حسنِه الفطَر السليمَة والعقولُ الحكيمة، وتمدّح به الملوك والقادةُ والعظماء والسّادَة، وجاءت به الرِّسالات السّماوية (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد:25].
وقد جاءَ دينُ الإسلام العظيم؛ لإخراج الناس من جَور الأديان إلى عدلِ الإسلام، حيث إنّه بالعدلِ قامت السماوات والأرض، واتَّصف الحقّ -سبحانه- به، ونفَى عن نفسه ضدَّه (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)[النساء:40].
وقامَ دين الإسلام على العدلِ: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً)[الأنعام:115]؛ فهو صِدق في أخباره، عَدل في أحكامه، لا يقِرّ الجورَ والظلم ولا العدوان، بل هو -دائمًا- مع الحقِّ أينما كان، يأمر بالوفاء بالعقودِ والعهود حتى مع الكفّار (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ)[الأنفال:58]، (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة:8]، أي: لا يحمِلَنّكم بُغضُ قوم على تركِ العدل؛ فإنّ العدلَ واجب على كلّ أحد وفي كلّ حال.
إن العدل هو وضع الأمور في مواضعها الصحيحة وإعطاء كل ذي حق حقه بالقسط, وقد أمَر الله به رسولَه في قوله: (وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)[الشورى:15]، وأمَر به جميعَ خلقه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)[النحل:90].
والأمّةُ المسلِمَة تستحقّ التأييدَ من الله والتمكينَ في الأرض إذا أقامَت العدلَ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميةَ -رحمه الله-: "إنَّ الله يقيم الدولةَ العادلة وإن كانَت كافرة، ولا يقيمُ الدولة الظالمةَ وإن كانت مسلمة".
عبادَ الله: إنَّ مقامَ العدلِ في الإسلامِ عظيم، وثوابُه عند الله جزيل؛ فالعادِل مستجَابُ الدعوة، والله يحِبّ المقسطين، وصاحِبُ العدل في ظلِّ الرحمن يومَ القيامة، ففي مقدّمةِ السّبعة الذين يظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظله -كما في الصحيحين- "إمامٌ عادل".
وفي صحيح مسلمٍ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ المقسطين عند الله على منابرَ مِن نور عن يمين الرحمن، وكِلتا يديه يمين، الذين يعدِلون في حكمِهم وأهلِهم وما وَلوا". وروى الترمذي وحسنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "إنّ أحبَّ النّاس إلى اللهِ يومَ القيامة وأَدناهم منه مجلِسًا إمامٌ عادلٌ، وأبغَضُ النّاسِ إلى اللهِ وأبعَدُهم منه مجلِسًا إمامٌ جائرٌ".
إن الحاكم مأمور بالعدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ)[النساء:58]، وسواء أكان الحكمُ قضاءً أم قِسمةً أم حكمًا على أفرادٍ أو جماعَات أم تَصنيفًا أم جَرحًا وتعديلاً؛ كلُّ ذلك يجب أن يكونَ بالعدل.
كما يجِب على الوالد أن يعدِل بين أولاده في العطايا والمعامَلة؛ فلا يفاضِلُ بينهم بالهِبات، وقِصّة النعمانِ بن بشير -رضيَ الله عنه- مشهورة في هذا، وقد ردّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عطيّتَه حين لم تحصُلِ المساواةُ بين كلِّ الأولاد، وقال: "اتَّقوا الله واعدِلوا بين أولادكم".
كما يجب على الزوجِ أن يعدلَ بين أزواجه، وأن يساوِيَ بينهنّ في المبيت والنّفقَة والحقوق الزوجية، قال -تعالى-: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)[النساء:3]، و"مَن كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يومَ القيامة وشِقّه مائل". كما ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وكما أنَّ العدلَ مطلوب بين الأولاد والزوجات فكذلك هو مطلوب بين الخدَمِ والعمَّال والمرؤوسِين، والمسلِم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه.
والعدلُ مطلوبٌ في كلِّ شيء حتى في القول والكلام، قال -سبحانه-: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)[الأنعام:152]، والعدلُ في الكلام من أشَقّ الأمور على النفس، ومن ربَّى نفسَه عليه فاز وأفلَح، وإذا رُزِق العدل وحبَّ القسطِ علَّمه الله الحقَّ، وصارَ رحيمًا بالخلق متَّبعًا للرسول مجتَنِبًا مسالِكَ الزّيغ والأهواء.
إنَّ العدلَ يحتاج إلى صدقٍ مع النَّفس ومراقبةٍ لله -عزّ وجلّ- ومجانبةٍ للهوى (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)[ص:26].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)[النساء:135].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
عباد الله: وضِدّ العدل الظلم, وهو ظلماتٌ يومَ القيامة، وقد حرّمه الله على نفسه وجعله بين العبادِ محرَّمًا، فلا يفلِح ظالم، (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[القصص:73]، وفي سورة البقرة: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[البقرة:124]، وفي آل عمران: (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[آلعمران:57].
ولا شكَّ أنّ أظلمَ الظلم هو الشرك بالله؛ كما في سورة لقمان: (لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان:13].
أيّها المسلمون: والظلم عاقِبَته وخيمةٌ في الدنيا والآخرة؛ و"مَن ظلم قيدَ شبر طُوِّقهُ يومَ القيامة من سبعِ أرَضين"، ومن ظلم غيرَه فإنّ القصاص منه مُؤلم، والله -تعالى- يملِي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلِته، ولن تضيعَ المظالم حتى بين البهائِمِ. في صحيح مسلم أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتؤدُّنّ الحقوقَ إلى أهلها يومَ القيامة حتى يُقادَ للشاة الجلحاءِ من الشاة القَرناء".
وفي صحيح البخاريّ أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن كانت عنده مَظلمةٌ لأخيه مِن عِرضهِ أو شيءٍ منه فليتحلّله منه اليومَ من قبل أن لا يكونَ دينار ولا درهمٌ، إن كان له عملٌ صالح أخِذَ منه بقدرِ مظلمته، وإن لم يكن له حَسنات أخِذَ من سيّئات صاحبه فحمِلَ عليه".
ومهما يكنِ المظلوم ضعيفًا فإنَّ الله ناصره، وفي الحديثِ أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ودعوةُ المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتَح لها أبوابَ السماء، ويقول الربُّ: وعِزّتي وجلالي لأنصرَنَّك ولو بعد حين". (رواه الترمذي)، والله يقول: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)[إبراهيم:43]، وفي سورة هود: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود:102].
أفلا يخافُ الظالم ربَّ العالمين؟! أوَلا يخشى دعوةَ المظلومين؟! وقل للَّذين يرمون الناسَ بالتُّهَم ويرجمون بالظنونِ ويؤذون المؤمنين في أعراضِهِم: إنَّ دعوةَ المظلوم مُجابة، تذكَّروا يومَ العرض على الله: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)[الأحزاب:58].
قد يستبطئُ الظالمُ العقوبةَ فيتمادى في ظلمِهِ، وهو قد لا يدري أن سترَ الغيبِ عمَّا قليلٍ سينكشف عنْ خزيه؛ لأن اللهَ -سبحانَه- يمهل ولا يهمل, ويملي له حتى يأخذه ولنْ يفلته، وكيف يفلته وهناكَ دعواتٌ مظلومةٌ تنطلقُ بالأسحارِ، تخترقُ الحجبَ فتصلُ إلى باريِها وناصرِها، فإذا هو يقول لها: "وعزّتي وجلالي، لأنصرنَّك ولو بعدَ حينٍ".
لا تظلمنّ إذا ما كنتَ مقتدرًا *** فالظلمُ آخرُه يأتيك بالندمِ
نامتْ عيونُك والمظلومُ منتبهٌ *** يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنمِ
ذكرت كتب التاريخِ أن خالدَ البَرمكيَّ لما نُكبَ وسجنَ هو وابنهُ قالَ الابنُ لأبيه: يا أبتِ: بعدَ العزِ أصبحنا في القيدِ والحبسِ! قال الأبُ: "يا بنيَ: لعلها دعوةُ مظلومٍ سرتْ بالليلِ غفلنَا عنها، ولم يغفلْ اللهُ عنها".
فيا عباد الله: تداركوا الأمر قبل فوات الأوان، فما هي -والله- إلا ساعة ثم تبعثر القبور ويحصّل ما في الصدور وعند الله تجتمع الخصوم، فيقتص للمظلوم من الظالم، فتحللوا من المظالم قبل ألا يكون درهم ولا دينار.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟"، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. قَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيُقْعَدُ، فَيَقُصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم