خُلُق الستر: فضائله وعواقبه الحسنة

الشيخ محمد سرندح

2022-11-11 - 1444/04/17 2022-11-13 - 1444/04/19
عناصر الخطبة
1/التقرب إلى الله تعالى بامتثال أسمائه وصفاته 2/الله حيي ستير 3/فضل الله تعالى بستره على عباده المذنبين 4/على المذنب الحذر من كشف ستره 5/تحذيرات للجمعيات المشبوهة 6/النصيحة بالتوبة والإنابة

اقتباس

لَلَّهُ أفرحُ بتوبة العبد من العقيم الوالد، والظمآن الوارد، انْشَرِحْ صدرًا -أيها العبد المؤمن-؛ فرصيدُ السترِ عليكَ ممدودٌ، صَحِّحْ مسارَكَ فالباب مفتوح، وإن أردتَ استمرارَ سترِ اللهِ عليكَ اسْتُرْ إخوانَكَ المؤمنينَ، ولا تكن قنَّاص العيوب، لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة...

الخطبة الأولى:

 

(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بها)[الْأَعْرَافِ: 180]، الحمد لله، (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[الْحَشْرِ: 24]، الحمد لله؛ "إن الله حييٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الحياءَ والسترَ"، الحمد لله؛ (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[الْإِسْرَاءِ: 110]، الله يا رحمنُ يا رحيمُ، الله يا حيُّ يا قيومُ، اللهُ يا قويُّ يا قديرُ، اللهُ يا عليُّ يا عظيمُ، لا ينبغي للظُّلْم أن يَعْلُونَا، هَبْ لنا العُلَا، واجعل عِدَانَا الدُّونَ، الله يا ملكُ يا منيرُ، الله يا مالكُ يا قديرُ، الله يا مولى يا نصيرُ، أنتَ الملكُ الكبيرُ، ليس عِدَانَا لكَ مُعجِزِينَ، ارحم عبيدًا لكَ مرابطينَ، كُفَّ العدى عن الأقصى فقد أُوذِينَا.

 

وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الحيي الستير، يظهر الحسن، ويستر القبيح.

يَا مَنْ إذا وقَف المسيءُ ببابِه *** ستَر القبيحَ وجادَ بالإحسانِ

تَعفُو الملوكُ حينَ النزولِ بساحتهم *** فكيفَ النزولُ بساحةِ الرحمنِ

أنَا المسيءُ وقد عصيتُكَ سيِّدي *** تَسْتُر وتَصفَح للعُبَيْدِ الجانِي

أَعصِيكَ تَستُرُني، أَنسَاكَ تَذكُرُني *** فكيف أنساك يا مَن لستَ تَنسَانِي

 

وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بلَغ العلا لكماله، كشف الدُّجى بجَماله، حَسُنَتْ جميعُ خصاله، صلُّوا عليه وآله.

 

وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والصحابة والتابعين، والشهداء والصالحين، وارض اللهم عن المرابطينَ الراكعينَ الساجدينَ، ومَنْ أَمَّ المسجدَ الأقصى إلى يوم الدين.

 

(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بها)[الْأَعْرَافِ: 180]، تقرَّبُوا إلى الله تخلُّقًا بالكمالات الإلهية، فتقرَّب إلى الله الرحيم؛ بأن تكون رحيمًا، وتقرَّب إلى الله الكريم؛ بأن تكون كريمًا، وتقرَّبْ إلى اللهِ الستيرِ؛ بأن تكون ستِّيرًا؛ "إن الله سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ"، يستر العوراتِ والذنوبَ، يَبغَض الفضائحَ، يسترها في الدنيا ويسترك أمام الخلائق في الآخرة، -سبحانه- بكرمه ستَر عن المؤمنين المعاصي وأبعَدَهم عنها، فلم يقعوا بها، ولم يسقطوا من عين الرحمن، فكانوا في رفعة ونقاء، ومَنْ أذلَّه الشيطانُ بمعصية أو سَرَقَ مِنْ وقفٍ ستَرَه اللهُ برهةً من الزمن؛ خشيةَ أن يسقط من أعين الخلق، لعله يتوب ويرجع، فإن ستر الله معاصيك باستغلال منصبك، ثم توجه الناس إليك بالتمجيد والتكريم فذلك إكرام من الله لكَ وإمهال؛ (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)[النُّورِ: 21].

فلولا ستره عليكَ لكنتَ من المبغوضين، فالستر من الله هو رصيد، نعم، فالستر من الله عليكَ مثل رصيدكَ الماليّ، كلما أخطأتَ خطأً أو سرَقَت مالًا أو حرَمَت ميراثًا نقَص رصيدُكَ من الستر، بل وكلما أهنتَ زوجتكَ وآذيتَ جيرانكَ نقص رصيدك من الستر، إذا استرسلت بإهمال والدين، وقصرت بأحكام دينك، نقص رصيدك من الستر، وإذا أثرت الفتن وغلب على حديثك الكذب نقص رصيدك من الستر إلى أن يقال لك: لقد نفَد رصيدُكَ من الستر فتهيَّأ أن تُفضَح بين الخلائق وتسقط من أعين الخلق.

 

ولكن الله -برحمته- يبعث لكَ رسالةً تلوَ الرسالة؛ لترجع للصواب، إمَّا مرضًا، أو بلاء، أو كدرًا، أو همًّا، أو خوفًا، أو نقصًا من الأموال والأنفس والثمرات، لعلك تتوب وترجع، ولا يفضح أمرك؛ (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)[الرُّومِ: 41]؛ فإذا رأيتَ الله يعطي العبد ما يحب وهو قائم على معاصيه فاعلم أن ذلك استدراج؛ (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)[الْقَلَمِ: 44].

 

إِنْ أقمتَ التدابيرَ اللازمةَ والاحتياطات الماديَّة وعقدت صفقةً تسريب لعقار، وجندت له كاتبًا قانونيًّا حذقا، وأصررت على فعلك الخسيس فاعلم بأن رصيد الستر عليك كاد أن يَنفَد، وحان الوقتُ لتسقط من أعين الخَلْق، وكاد كاتبك القانونيّ أن يكون منبوذا مفضوحا بخيانته؛ لأن الذي سترك قادر على أن يفضحك، فكثير من المكاتب القانونيَّة، المختصَّة بالعقارات نفدت رصيد الستر عليها من الله، وسقطت من أعين الحق والخلق، بَادِرْ بالتوبة والندم، قبل أن تُكشَف ألاعيبكَ على خَلْق الله؛ (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ)[يُوسُفَ: 20]، وغلَّقت الأبواب وأخذت الاحتياطات، ولكن لم تتنبَّه بأنَّ رصيدَها من الستر قد نفَد، فكشَف اللهُ أمرَها؛ (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ)[يُوسُفَ: 30]؛ فكلُّ نميمةٍ إفسادٌ للأسرة، وهتكٌ للأعراض بالهواتف وغيرها، إن الله سيكشفه، تَراجَعْ وتُبْ إلى الله، إنكَ مُراقَب، لقد نفَد رصيدُ الستر عن كثير من الجمعيات التي نصبت مصائدها للبسطاء في بيت المقدس، لقد أوهنت تلك الجمعيات كثيرًا من الناس، لقد زيَّفَتِ الحقائقَ على أهل الرباط، وهي تُكِنُّ فسادًا بالمؤمنين وبأسرهم، فكم أسرة هُدمت من إرشادكم، وكم حالة طلاق جرَتْ بِغَيِّكُمُ المزعومِ.

 

يا أيتها الجمعياتُ: تنبَّهِي لنفاد رصيدكم من الستر؛ فإن بيت المقدس لن يتركها الله فريسة للطامعين، واحذروا غضب الله وعقابه، بل إن رصيد الستر قد نفد عن مراكز الخدمة التي تسوق الحقوق للمواطنين؛ استدراجا ماليًّا، بعنوان: "الخدمة الاجتماعيَّة"؛ فإن الله قد فضَح أمرَهم، موجِّهين جهدَهم لفتياتنا في أحياء مدينتنا.

 

ألَا وإن كل مؤسَّسة تخوض في مال القدس توشك أن تُنهي رصيدَها من الستر؛ فإن الله يُرسِل لها الرسالةَ تلوَ الأخرى لتُصَوِّبَ مسارَها، ولا تتخبَّط بالمال العامّ، الموجَّه للقدس وأهلها، فقد قارَب رصيدُها من الستر على النفاد، فكلُّ مَنْ يُتاجِر بفلسطين وأهلها وأرضها ومقدساتها لقد كشَف اللهُ أمرَه، "إن رجالًا يتخوَّضون في مال الله بغير حقِّ فلَهُم النارُ يومَ القيامةِ"، لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

 

وإلى هؤلاء الذين يتمتعون بستر الله عليهم، وكأن رصيدهم شارف على النفاد: اعلموا يا هؤلاء أنكم ستُسألون عن كل دم أُهرق بخيانتكم، وستُسألون عن كل عرض انتُهك بوشايتكم، ستُسألون عن كل بيت هُدِمَ بإخباركم، يا هؤلاء: إن وراءكم يومًا طويلًا وحسابًا عسيرًا، سوف تُسألون عن كل طفل يُتِّمَ بجشعكم، وستُسألون عن كل مَنْ أُسِرَ بملاحقتكم، فهل أعددتم ليوم الفضيحة جوابًا؟ هذا ستر الله مسبول عليكَ، ولا زال بالعمر سعة وبقية، لمن أراد أن يتوب وأمره إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ عبدٍ مؤمنٍ إلا وله ذنبٌ يعتاده، الفَيْنَةَ بعدَ الفَيْنَةِ، أو ذنب هو مقيم عليه، لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، وإن المؤمن خُلِقَ مُفتَّنًا توَّابًا نسَّاءً، إذا ذُكِّرَ ذَكَرَ".

 

اللهم استرنا فوقَ الأرضِ وتحتَ الأرضِ ويومَ العرضِ عليكَ يا ربَّ العالمينَ، وادعوا الله منيبين إليه، إنَّه غفور شكور.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الفعَّال لِمَا يُرِيدُ، المنتقِم ممَّن عصاه، المكرِم لمن خافَه واتَّقَاه، فسبحان مَنْ قسَّم خَلقَه قسمينِ، وجعَلَهم فريقينِ، فمنهم شقيٌّ وسعيدٌ، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)[فُصِّلَتْ: 46]، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ الحليم الكريم، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله، بالمؤمنين رؤوف رحيم.

 

لَلهُ أفرحُ بتوبة العبد من العقيم الوالد، والظمآن الوارد، انْشَرِحْ صدرًا -أيها العبد المؤمن-؛ فرصيدُ السترِ عليكَ ممدودٌ، صَحِّحْ مسارَكَ فالباب مفتوح، وإن أردتَ استمرارَ سترِ اللهِ عليكَ اسْتُرْ إخوانَكَ المؤمنينَ، ولا تكن قنَّاص العيوب، لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة، قال الصادق المصدوق: "يا معشرَ مَنْ آمَن بلسانه ولم يَدخُلِ الإيمانُ قلبَه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عورتَهم، فإنَّه من اتَّبَع عورةَ أخيه المسلم تتبَّع اللهُ عورتَه، ومَنْ تتبَّع اللهُ عورتَه يَفضَحْه ولو في جوف بيته".

 

جاء في الأثر: "استسقى الكريمُ -عليه الصلاة والسلام- لقومه، فمنعوا المطر بذنب أحدهم، فأوحى الله إلى موسى -عليه السلام- أن بينهم عاصيًا مذنبا، لابدَّ له من التوبة، فأخبرهم بذلك، فأعاد موسى -عليه السلام- الاستسقاء فأُمطِرُوا، فقال موسى -عليه السلام-: يا رب، مَنْ هذا العبدُ الذي تُبتَ عليه؟ فقال الله: يا موسى، لم أفضحه وهو يعصيني، أأفضحه وهو يطيعني؟!".

 

إلهي سترتَ عيوبي عن عيونهم، وألبستني ثوبًا جميلًا من الستر، فلا تفضحني في القيامة بينهم، وكن لي يا مولاي في موقف الحشر.

 

ومن ابتُلي بشيء فليستتر، ولا تُخبر أحدًا بذنبكَ، فمن تاب ستر الله ذنبه، فلا يكشف ستر الله عليه، قال عليه الصلاة والسلام: "اجتنِبُوا هذه القاذوراتِ التي نهى اللهُ عنها، فمَنْ ألمَّ بشيءٍ منها فليَستَتِر بستر الله"، فازدد ثقةً وحبًّا بالله، ستَرَكَ لأنَّه يُحِبُّكَ؛ (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)[الْبَقَرَةِ: 165].

 

وإذا أردتَ سعادة في الدارين استر طاعتك، واجعلها سرًّا بينك وبين الله؛ لتفوز بالإخلاص، فمن لم يكتف بسمع الله، وبصر الله، وعلم الله، دخل عليه الرياء لا محالة، ونعوذ بالله من الرياء والسمعة، وأمَّا مَنْ جاهَر بالمعصية وعطَّل حكمَ الله، فلا سترَ له، فبأي ستر يستترون؟ مَنْ شرَّد الشعوبَ بالبرد القارص بلا مأوى ولا دفء، وبأي ستر يَستتِر مَنْ تواطأ على بيت المقدس؟ مَنْ تجاهَل اقتحاماتِ الأقصى والاعتداءاتِ عليه، وبأي ستر يستتر مَنْ خرَق السِّلمَ الأهليَّ بالسلاح المشبوه.

 

اللهم استرنا بسترك الجميل، الذي سترت به نفسك ولا تفضحنا بين خلقك، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

 

اللهم إنا نتبرأ من حولنا وقوتنا، ونلتجئ إلى حولك وقوتك، اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصَّر علينا، واهدنا ويسر الْهُدَى لنا، اللهم ارحم شهداءنا، وشاف جرحانا، وأطلق سراح أسرانا، اللهم ارفع الحصار عن إخواننا المحاصرين، اللهم استر عيوبنا، اللهم استر عيوبنا، وتول أمرنا، واغفر لنا وارحمنا، اللهم اجز عَنَّا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير الجزاء، واجز اللهم عَنَّا علماءنا ومشايخنا خير الجزاء، اللهم يا مَنْ جعلتَ الصلاةَ على النبي من القُرُبات، نتقرب إليك بكل صلاة صليت عليه، من أول النشأة إلى ما لا نهاية للكمالات؛ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182]، وأَقِمِ الصلاةَ.

 

المرفقات

خُلُق الستر فضائله وعواقبه الحسنة.pdf

خُلُق الستر فضائله وعواقبه الحسنة.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات