خلق الإيثار

رشيد بن إبراهيم بو عافية

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ معنى خلق الإيثار وقيمته 2/ العلامات الدالة على الإيثار مع الله تعالى 3/ أعمال دالة على الإيثار مع الله تعالى 4/ إقدام إبراهيم على ذبح إسماعيل عليهما السلام كتطبيق له 5/ أمثلة الإيثار مع الناس في مجتمع الصحابة والتابعين

اقتباس

حديثنا اليوم عن خُلُقٍ جليلٍ في العبدِ هو من أعلى درجات المعاملة مع النّاس، لا يتّصفُ به إلاَّ أصحابُ النفوسِ الكبيرة، والقلوبِ الواسِعَة، والهِمِمِ العالية؛ إنَّهُ الإيثار؛ وما أدراكَ ما الإيثار؟! غايةُ الجودِ، ومنتهى البذل والعطاء... أيها الإخوةُ في الله: النهوضُ إلى الصلاةِ مع قوَّةِ داعي النُّعاسِ إيثار، وإجابةُ النّداءِ مع الانشغالِ إيثار، وإخراجُ الزكاةِ مع قوَّةِ داعِي الإمساكِ إيثار، والصومُ في شدّةِ الحرّ مع شدّةِ العطشِ إيثار، وتركُ...

 

 

 

 

ثم أما بعد: أيها الإخوةُ في الله: حديثنا اليوم عن خُلُقٍ جليلٍ في العبدِ هو من أعلى درجات المعاملة مع النّاس، لا يتّصفُ به إلاَّ أصحابُ النفوسِ الكبيرة، والقلوبِ الواسِعَة، والهِمِمِ العالية؛ إنَّهُ الإيثار؛ وما أدراكَ ما الإيثار؟! غايةُ الجودِ، ومنتهى البذل والعطاء.

 

ومعناهُ: تقديمُ المؤمنِ حوائجَ غيرِهِ على حوائجِ نفسِهِ عند وجودِ الاحتياجِ والتعلُّق، ولا يحملُ على ذلك إلاَّ ابتغاءُ ثوابِ اللهِ والدّارِ الآخرة، ولا يقْوَى على هذا السلوكِ إلاَّ الذينَ تبوَّؤُوا الإيمانَ الحقيقيَّ الحَي حقَّ التبوُّء.

 

فكما قال ربنا سبحانه في وصفِ المؤثرين: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون) [الحشر:9].

 

معشر المؤمنين: أجمل أنواعِ الإيثار على الإطلاق هو الإيثارُ مع الله عز وجل، وهل يمكنُ أن يكونَ إيثارٌ مع اللهِ تعالى الغنيِّ الحميد؟! أَجَلْ يكونُ ذلكَ، بل هو أرفعُ الأنواعِ منزِلَةً، وأعلاَهَا قدرًا.

 

يقول الإمامُ ابن القيم رحمه الله تعالى: "والإيثار المتعلِّقُ بالخالِقِ أَجَلُّ من هذا وأفضَل -أي من الإيثار المتعلق بالخلق-، وهو إيثار رِضَاهُ على رِضَا غيره، وإيثارُ حُبِّهِ على حُبِّ غيرِه، وإيثارُ خَوْفِهِ ورجائِهِ على خوفِ غيره ورجائِه، وإيثارُ الذُلِّ لَهُ والخضوعِ والاستكانَةِ والضَّرَاعَةِ والتملُّقِ على بذل ذلك لغيره، وكذلكَ إيثَارُ الطَّلَبِ منه والسؤالِ وإنزَالِ الفاقاتِ به على تعلُّقِ ذلك بغيره".

 

ولهذا النوع من الإيثار علامات دالة عليه، لا بد أن تظهر على مُدَّعِيه؛ وإلاَّ كانَ كاذِبًا في دعوى الإيثار.

 

وهي علامتان:

 

الأولى: أن يفعل المرء كلَّ ما يحبُّهُ اللهُ تعالى ويأمُرُ به، ويقدِّمُ ذلكَ على هوى نفسِه، وإن كان ما يحبُّهُ الله مكروهاً إلى نفسِ العبدِ، ثقيلاً عليه.

 

الثانية: أن يتركَ العبدُ ما يكرَهُهُ اللهُ تعالى وينهى عنه، وإن كان محبباً إلى النفسِ تشتهيه وترغَبُ فيه.

 

يقول ابن القيم -رحمه الله-: " فبهذين الأمرين يصح مقام الإيثار".

 

هذا النوعُ -معشر المؤمنين- عنوانُ سعادةِ العبد، ولا يتمُّ فلاحُهُ ونجاحُهُ إلاَّ به، نهايته فوزٌ محقَّقٌ، وفلاَح محتُوم، ومُلْكٌ لا يُضاهِيهِ مُلك.

 

وللأسفِ! أكثرُ النفوسِ عنهُ ضعيفة، لشِدَّةِ غَلبَةِ الشهوات، وقوَّةِ داعي العادة والطبع، وإنه ليسِيرٌ على من يسَّرَهُ اللهُ عليه.

 

أيها الإخوةُ في الله: النهوضُ إلى الصلاةِ مع قوَّةِ داعي النُّعاسِ إيثار، وإجابةُ النّداءِ مع الانشغالِ إيثار، وإخراجُ الزكاةِ مع قوَّةِ داعِي الإمساكِ إيثار، والصومُ في شدّةِ الحرّ مع شدّةِ العطشِ إيثار، وتركُ الفاحِشةِ وصرفُ النظّرِ عن الحرامِ مع قوَّةِ الدّاعي في النفسِ إيثار، وإمساكُ اليدِ عن مالِ الحرامِ مع شدَّةِ الفاقةِ إيثار، وقولُ الحقّ وفعلُهُ وإن أغضبَ الخَلْقَ وأرضَى الخالِقَ إيثار.

 

وهكذا؛ في كلّ شيءٍ تؤثِرُ فيه رضَا اللهِ على رضَا نفسِكَ، وحُبَّهُ على حُبِّ نفسِكَ وشهواتِكَ فأنتَ في أعلى مقامات الإيثار.

 

هذا النوعُ - معشر المؤمنين- أخصُّ النَّاسِ بهِ الأنبياءُ والرُّسُلُ عليهم السلام، وأعلاهم أولوا العزم منهم، فهذا إبراهيم -عليه السلام-؛ سأل ربه الولد الصالح، فوهب له إسماعيل -عليه السلام-، فامتحنه الله بذبحه، فما كان من إبراهيم -عليه السلام- إلا أن آثرَ رضَا ربِّهِ على رضَا نفسِهِ، فاستسلم لأمر ربه وأقدم على ذبح ولده، الذي رزق به على كِبَرٍ، وهو وحيده حينذاك؛ إيثارا لمحبة الله على محبة الولد؛ فكافأه الله بأن فداه بذِبْحٍ عظيم.

 

قال تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِين) [الصافات:103-111].

 

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "لم يكن المقصود ذبح الولد، ولكن المقصود ذبحه من قلبه ليخلص القلب للرب، فلما بادر الخليل إلى الامتثال، وقدم محبة الله على محبة ولده، حصل المقصود، فرفع الذبح، وفدي الولد بذبح عظيم".

 

نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة في الله: أمَّا النوعُ الثاني -معشر المؤمنين- فهو الإيثارُ مع النّاس، خُلُقٌ عظيم لأجله يتعب الواحد ليستريح إخوانه، ويحتاجُ ليستَغْنوا هُم، وربّما يشقى ويتألّمُ ليسعَدُوا ويفْرَحُوا هم، لذا كان أجره عند الله عظيما، وثوابه جزيلا.

 

 ولَقَدْ سَجَّلَ التَّارِيخُ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ، وأَصْدَقَ الشَّوَاهِدِ والأَدَلَّةِ، مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ -رضي الله عنهم- الذِينَ زَيَّنُوا صَفَحَاتِ حَيَاتِهِمْ بِأَوسِمَةِ الإِيثَارِ، وَقَلَّدُوا أَعْنَاقَهُمْ بِقَلاَئِدِ العِزِّ والفَخَارِ، فَصَاغُوا صَفَحَاتٍ مِلْؤُهَا الأُخُوَّةُ الصَّادِقَةُ، وَالمَحَبَّةُ الفَائِقَةُ.

 

فَعِنْدَ قُدُومِ المُهَاجِرينَ إِلَى المَدِينَةِ، استَقْبَلَهُمُ الأَنْصَارُ بِلَهْـفَةٍ عَارِمَةٍ، وَمَحَبَّةٍ صَادِقَةٍ، بَلَغَتْ حَدَّ التَّنَافُسِ بَيْنَهُمْ فِي نَيْلِ تَضْيِيفِهِمْ، فَقَامَ الحُبُّ والإِيثَارُ فِيهِمْ مَقَامَ العَصَبِيَّةِ القَبَلِيَّةِ، والحَمِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ، فَذَابَتْ تِلْكَ العَصَبِيَّاتُ والحَمِيَّاتُ، وَسَقَطَتْ فَوارِقُ اللَّوْنِ والدَّمِ، فَبَلَغَ بَيْنَهُمُ الإِيثَارُ أَنْ يَعْرِضَ أَحَدُهُمْ لأَخِيهِ المُسلِمِ نِصْفَ مَالِهِ وَدَارِهِ.

 

وَقَدْ نَزَلَ فِيهِمْ قَولُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].

 

ومن الأمثلة الرائعة للإيثار في مجتمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قصة الأنصاري وامرأته مع الضيف، حيث آثراه بقوت صبيانهما الصغار، وباتوا طَاوِين من أجل إشباع الضيف.

 

روى الإمام البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء! ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك.

 

فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن يُضيف هذا الليلة رحمه الله؟"، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلِّلِيهم بشيءٍ، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه.

 

قال: فقعدوا، وأكل الضيف، فلما أصبح غدا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة".

 

بل قد يرتقي خلُقُ الإيثار في العبد حتى يؤثرَ أخاهُ بنفسِهِ التي لا يملكُ غيرَها: روى الإمام الذهبي في السِّير قال: "طلب الحجَّاجُ إبراهيم النخعي، فجاء الرسول فقال: أريد إبراهيم، فقال إبراهيم التيمي: أنا إبراهيم، ولم يستحل أن يدله على إبراهيم النخعي.

 

فأمر بحبسه في الدّيْمَاسْ، ولم يكن لهم ظل من الشمس، ولا كِنٌّ من البرد، وكان كل اثنين في سِلْسِلَة، فتغير إبراهيم، فعادته أمه فلم تعرفه حتى كلمها، فمات.

 

فرأى الحجاج في نومه قائلا يقول: مات في البلد الليلة رجل من أهل الجنة، فسأل: فقالوا مات في السجن إبراهيم التيمي".

 

نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى؛ اللهم حبِّبْ إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

 

وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

المرفقات

الإيثار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات