خط النبي صلى الله عليه وسلم مربعا

صالح بن عبد الله الهذلول

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: الحياة الدنيا
عناصر الخطبة
1/ الحديثُ المبيِّن لعلاقة الإنسان بأجله وأمله والأعراض 2/ الأمل المحمود 3/ آثار طول الأمل في الدنيا 4/ المراد بأعراض الدنيا 5/ الأجل والاستعداد له

اقتباس

إن التشوف إلى رؤية المولى -جل جلاله-، وتوقانَ النفس إلى دخول الجنة، والتشوقَ إلى رؤية الأنبياء والصحابةِ والصالحين عامة، واستحضار هذه المعاني دائماً، سبب لكبح جماح النفس عن التمادي في اللهث وراء الدنيا، وسببٌ لمنع وقوع المرء في الشهوات واستجابتهِ لهواتفها، وأبلغُ وسيلة لدفع الإنسان ..

 

 

 

 

أما بعد: روى الإمام البخاري -رحمه الله- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قال: خَطَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- خَطَّاً مُرَبَّعَاً، وخط خطا في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، وهذا الذي خارجٌ أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا" رواه البخاري. 

أمل الإنسان -عباد الله- يتجاوز عمره المحدود، والأمل ما تحبه النفس من طول عمر وزيادة غنى، ومعناه قريب من التمني، إلا أن الأمل يتقدمه فعل سبب، والتمني ليس كذلك.

والأمل والتمني حضورهما في النفس كثير، لكنه أحيانا يزيد عن الحد الطبيعي عند البعض ليزاحم العمل، فيظل الإنسان يعيش آمالاً ومنىً وهمية تقعده ولا تنهض به، تضره ولا تنفعه.

نعم؛ إن الأمل والتمني يكون كل منهما محموداً و نافعاً إذا تم توظيفهما في الخير، ليتطلع الإنسان بأمله، ويتمنى الحياة الحقيقية السعيدة التي لا يعتريها انقطاع، ولا ينغصها نقص، ففيها كل ما يشتهيه؛ مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر أياً كان.

إن التشوف إلى رؤية المولى -جل جلاله-، وتوقانَ النفس إلى دخول الجنة، والتشوقَ إلى رؤية الأنبياء والصحابةِ والصالحين عامة، واستحضار هذه المعاني دائماً، سبب لكبح جماح النفس عن التمادي في اللهث وراء الدنيا، وسببٌ لمنع وقوع المرء في الشهوات واستجابتهِ لهواتفها، وأبلغُ وسيلة لدفع الإنسان أن ينافس في الخيرات عطاءً.

وهي سببٌ لتحصيل الطمأنينة التي يشكو من فقدها الكثيرون، خاصةً في عصرٍ طغت فيه المادة، واستثيرت فيه كل شهوة تصد عن الحق، وتبعد عن الرب.

كل تلكم المعاني، وأكثر، كانت حاضرة في نفس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وتفاعلت فيها أبلغ تفاعل، ليعبر عنها -رضي الله عنه- بقوله: ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحد منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.

ومن هذا الكلام أخذ بعض الحكماء قوله: الدنيا مدبرة، والآخرة مقبله، فعجب لمن يقبل على المدبرة، ويدبر على المقبلة.

فالأمل إذاً محمود ونافع حين يوظف لخدمة الآخرة، وحين يقود صاحبه إلى شجر الخلد وملكٍ لا يبلى.

أما حين يجذبه إلى التراب، ويمرغه في وحل وحمأة الطين، فهذا وبال وخسار مبين، ومصداق ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : "أول صلاح هذه الأمة اليقين والزهد، وأول فسادها البخل والأمل". رواه البيهقي وصححه الألباني.

وقال سفيان الثوري -رحمه الله- : ليس الزهد في الدنيا بلبس الغليظ والخشن، وأكل الجَشب(الطعام الغليظ)، إنما الزهد في الدنيا قِصرُ الأمل.

أيها المؤمنون: طول الأمل في الدنيا يتولد عنه الكسل في الطاعة، والتسويف في التوبة، والرغبة في الدنيا، والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب؛ لأن رقة القلب، وصفاءَه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة، فهذه تورث الاجتهاد في الطاعة، فيقل همه ونهمه في الدنيا، ويرضى بالقليل.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمدلله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليمُ الشكور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فإن الإنسان خلق ضعيفاً، وقد سمعتم في الخطبة الأولى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خط خططاً صغاراً بجوار الخط الذي يمثل أمل الإنسان، وداخل المربع المحيط به من كل جهة والذي يمثل أجله، ووصف تلك الخطوط الصغار بأنها الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا.

والمراد بالأعراض -عباد الله- هي الآفات العارضة لكل إنسان، فإن سلم من صداع الرأس نهشه مغص البطن، وإن سلم من هذا ابتلي بالضغط، وإن عوفي منه كان مرض السكر، أو لازمته آلام الظهر والركبتين، وهكذا.

فإن قدِّر وسلم منها جميعاً ابتلي بفقد مالٍ أو حبيب أو فقرٍ أو دَين، أو سلِّط عليه من يؤذيه، فإن نجا منها، فهناك الأرق، وهناك الأمراض والأمراض النفسية، عافانا الله منها جميعاً.

وإن خرج من كل ذلك فلن يفلت من أجَلٍ يبغته ليودع هذه الدنيا كلها.

إن الموت محيط بالإنسان من كل جانب كما وضحه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الرسم البياني في الحديث، ولا شك أنه سيدركه حتى لو كان الموت هو الذي يجري وراءه، فكيف وهو يلاقيه، والمتلاقيان سرعان ما يجتمعان! (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8].

وجاء التعبير في الحديث الشريف بالنهش؛ مبالغة في الإصابة والإهلاك، إذ النهش معناه: لدغ ذات السم، مما يؤكد أن الإنسان معرض أن يلاقي آلاماً في حياته، وعليه أن يستعد لها بالصبر الجميل والقول الحسن، وتقوية الإيمان بربه: عملاً للصالحات، وكفاً عن المحرمات.

فكل إنسان في خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.

 

 

 

المرفقات

النبي صلى الله عليه وسلم مربعا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات