عناصر الخطبة
1/ فرحة العيد ودلالتها على فسحة الإسلام 2/ لماذا حق لنا أن نفرح بالعيد؟ 3/ رسائل ترغيب للمرضى وللأسر المكلومة للابتهاج بالعيد 4/ توجيهات لراغبي النجاح وناشدي الاستقامة 5/ استغلال العيد في التصافي وصلة الأرحاماقتباس
في العيد فسحة كبيرة لنفرح ونُسَرّ مهما كانت ظروفنا المحيطة بنا، إنَّ سِرَّ فرحتِنا اليوم هو نجاحُ الإنسانِ في عبودية ربه تبارك وتعالى، وانطلاقه من أسْر الشهوة إلى عالم الانقياد الحقيقي لربه، لماذا لا نفرحُ وقد أتممنا شهر رمضان صياماً وقياماً بإيمان واحتساب؟ لماذا لا نفرح وليالي مساجدنا شاهدة لنا -إن شاء الله- بكمال الرغبة في طاعة الله تعالى، وابتغاء ما عنده؟ لماذا لا نفرح وقد اتسمت ليالينا بالمسرات ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالَاً كَثِيرَاً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً) [النساء:1]. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلَاً سَدِيدَاً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً) [الأحزاب:70-71].
أيها المسلمون: مِن هنا، من على ساحة العيد، كلمة تصل إلى آفاق الدنيا، نقول لكم فيها: عيدكم مبارك، وكل عام وأنتم بخير، وأدام الله أفراحكم ومسراتكم.
الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
لله ما أجمل أيام السعادة والحبور، والفرح والسرور!
يا ليلةَ العيدِ كَمْ في العيدِ مِنْ عِبَرٍ *** لِمَنْ أرادَ رشادَ العقلِ والبشرِ
إن هذه الفرحة تأتي ضمن سياق هذا الدين الذي أراد الله تعالى أن تكون فيه أيام يعبّر الإنسان فيها عن أفراحه وأشواقه، ويلتقي فيها المسلمون على ضفاف هذا الفرح، ويلغون من حساباتهم كل ما يمكن أن يحول بين أفراحهم في مثل هذه الأيام.
أيها المسلمون: ها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدِمَ المدينةَ ووجدهم يلعبون في يومين، فقال: "ما هذان اليومان؟" قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ أبدلكما الله خيراً منهما يوم الفطر ويوم الأضحى".
ودخل -صلى الله عليه وسلم- يوم عيدٍ على عائشة وعندها جاريتان تغنيان بغِنَاءِ بُعاث، فاضطجع على الفراش، وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فأقبل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "دعْهُمَا، فإنها أيامُ عيد".
وأنت ترى في هذه الصورة تلك المساحة التي تركها النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة والجاريتين للتعبير عن أفراحهما في مثل هذا اليوم من أيام الفرح والمسرات؛ حتى قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعةُ على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم به بسط النفس، وترويح البدن من كلف العبادة... وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين. ا.هـ.
وليس في الحديث -كما يبدو للبعض- إباحة للغناء، كلا! فإن الحافظ -رحمه الله- قد قال معلقاً: تغنيان أي تدففان، تضربان بالدف. وفي رواية مسلم: تغنيان بدُفٍّ. قلتُ: وهو جائز للنساء كما تعلم، قال الحافظ: يقال الدف، ويقال الكربال وهو الذي لا جلاجل فيه، وإنما قال أبو بكر مزمارة الشيطان، ومقصوده يعني الغناء أو الدف؛ لأن المزمارة أو المزمار مشتق من الزمير، وهو الصوت الذي له الصفير، ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء. ا.هـ.
وغير خاف عليك -لا حرمك الله التوفيق- أن الغناء نوع من العبث في يوم العيد، وتعبير مشوّه للعيد في أعظم معانيه؛ قالت عائشة -رضي الله عنها-: وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدّرَق والحراب، فإما سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإما قال: "تشتهين تنظرين؟". فقلت: نعم. فأقامني وراءه خدّي على خده وهو يقول: "دونَكُم يا بني أرفدةَ". حتى إذا مللت قال: "حسبك؟" قلت: نعم. قال "فاذهبي".
أيها المسلمون: هاهو دين الإسلام يفسح للإنسان اليوم بالذات مشاعر الفرح والسرور والألق، ليعانق الدنيا بأسرها أفراحاً ومسرات، فيا لله! أي دين أرعى للقلوب والمشاعر من هذا الدين؟!.
أيها المسلمون: اليوم فرحة تخالج قلب كل مؤمن بالله تعالى، اليوم روعة الحب، وأعظم معانيه، والمشاعر تكتظ في ساحات العيد، فتعيش أروع أيامها على الإطلاق.
في العيد فسحة كبيرة لنفرح ونُسَرّ مهما كانت ظروفنا المحيطة بنا، إنَّ سِرَّ فرحتِنا اليوم هو نجاحُ الإنسانِ في عبودية ربه تبارك وتعالى، وانطلاقه من أسْر الشهوة إلى عالم الانقياد الحقيقي لربه، لماذا لا نفرحُ وقد أتممنا شهر رمضان صياماً وقياماً بإيمان واحتساب؟ لماذا لا نفرح وليالي مساجدنا شاهدة لنا -إن شاء الله- بكمال الرغبة في طاعة الله تعالى، وابتغاء ما عنده؟ لماذا لا نفرح وقد اتسمت ليالينا بالمسرات في زيارة الأحباب والأصدقاء والأقارب والمحبين؟ لله در الطاعة! كيف تجول بالإنسان في عالم الأفراح والمسرات.
أيها المسلمون: هل من حقنا الفرح وإخواننا في بلاد المسلمين يمثلهم قول الشاعر:
أَنَّى اتَّجَهْتَ إلى الإسلامِ في بلدٍ *** تَجِدْهُ كالطَّيْرِ مقْصُوصاً جَناحاه
فأقول: نعم، من حقنا أن نفرح ونبتهج ونُسَر، فهذه أيام عيدنا، من حقنا أن نفرح؛ لأن قلة مؤمنة في أرض فلسطين استطاعت -بتوفيق الله تعالى- أن تصمد حِقَباً من التاريخ طويلة ضد أمم الأرض كلها، صمدت وليس في يدها سوى حجرٍ، لكن في قلبها إيمان يتدفق، وروح تتألّق، وقلوب تطلب الشهادة.
من حقنا أن نفرح، وأهل السنة العُزَّلِ في العراق أثبتوا لأمم الأرض أن القوة الحقيقية ليست في السلاح، ولا العتاد، كلا! لكنها في الإرادة الصّلبة، وفي العزيمة القوية، ووقف الشعب الأعزل أمام أعتى قوة في التاريخ الحاضر، ليقول لها: على رسْلك! فأمامك رجال يحجبون جبروت السلاح بأجسادهم، ويغسلون وهن الذل بدمائهم.
من حقنا أن نفرح؛ لأن الغرب كليه وقف اليوم ذليلاً حقيراً مع كل ما يملك، وأبانت له الشعوب المسلمة أن الأمة لا تموت بموت رجالها، وإنما تموت بموت قيمها ومبادئها. يكفينا هذا المعنى فرحاً، ويجعلنا نخرج مأتلقين بهذه الإنجازات التي يسجلها التاريخ بمداد من ذهب.
أيها المسلمون: في العيد فسحة اليوم ليعانق المريض عيده بصدق، ويخرج من كبوة المرض ليعيش في عالم السعداء، قم يا أيها المريض ممتطياً عقيدة لا توهنها الأمراض، ولا تعيقها الأحداث، قم واعلم أن الذي أمرضك هو ربك، والذي أقعدك هو مولاك، والذي حبسك في ظروفك هو خالقك، أتظن أنها نقمة، ومجرد بلاء، ومشقة، وعنَت؟ إن كنت كذلك فإنك رسبت في امتحان الإيمان، وسقطت في ضعف التوكل، كلا! إن ربك اليوم بهذا المرض نظر إليك فرآك عبداً ضعيفاً مؤمناً صادقاً، فأراد أن يرفع مقامك، ويعلي شأنك، فيرحل بك إلى عالم المؤمنين الأصفياء.
يا أيها المريض: ألم يبلغك قول ربك تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:2-3].
ألم يصل إلى مسمعك -أيها الحبيب- قول نبيك -صلى الله عليه وسلم-: "ما يُصِيبُ المسلمَ مِن وصَبٍ، ولا نصَبٍ، ولا هَمٍّ، حتى الشوكة يشاكُها، إلا كفّر الله بها من خطاياه".
ألم يبلغك بعدُ أن نبيك -صلى الله عليه وسلم- قال: "ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وما عليه خطيئة".
إذاً، فلماذا تسقط في وحل المرض، وتستسلم لوساوس الشيطان، وتذهب بك الأفكار إلى موارد الهلاك؟ قم أيها الممنوح بهذه النعم، فنِعَم الله تتوارد عليك اليوم لتسقيك رحيقاً سلسبيلاً في قادم الأيام. قم، فلو لم يكن في المرض إلا تنبيهك إلى أن هناك رب يُمرض ويشفي، ويُسقم ويصِح لكان كافياً. قم إلى ربك، وتلمّس مواطن الرحمة، وعفّر وجهك في التراب آمناً مطمئناً، وألح عليه في الدعاء، فذلك أوسع مداخل الفرج.
واحذر -يا رعاك الله- من الالتجاء إلى غيره، أو السكون إلى سواه، فأنت في اختبار عظيم، قد يبطئ العلاج ليرى الله صلب عقيدتك من ضحالتها.
الأمراض والبلواء درس عظيم، واختبار للقلوب العابدة الساجدة أهي تتعبّد لله تعالى أو تسكن لسواه؟ قم، فقد قرب الفرج.
يا أيتها الأسرة المكلومة بفقد مُعيلها أو قريبها: إياكم ثم إياكم أن يهيّج الشيطان لكم اليوم أيام النوح والبكاء أمام القَدَر! من حقكم اليوم أن تفرحوا، فالذين رحلوا من دياركم رحلوا إلى لقاء ربهم اللطيف بهم، وغداً -بإذن الله- على الحوض ستلقون أحبابكم، وفي عرصات الجنان اللقاء بأصحابكم، قوموا اركلوا كل هاجس يداهم قلوبكم.
مَن قال لكم: إن أيام الأفراح فيها تذكير بأمثال الأحزان؟ كلا! إنما هو الشيطان يضحك عليكم، فيقرّب لكم صُور من تحبون، ويذكركم بمواقفهم في أيام الأعياد ليُدخل على قلوبكم الأسى والأحزان، قوموا، فما يُدريكم أن أحبابكم في الجنان، يرفلون في نعيم الله تعالى، لَلَّهُ أرحَمُ بهم وبكم من الأمِّ المشفقة على وليدها.
قوموا فافرحوا، ورَدِّدوا قول القائل:
والعيدُ أقبلَ مَزْهُوَّاً بطَلْعَتِه *** كأنَّهُ فارسٌ في حُلَّةٍ رفَلا
والمسلمونَ أشاعُوا فيه فرحَتَهُم *** كَمَا أشَاعُوا التَّحايا فيه والقُبَلا
فلْيَهْنَأ الصائمُ الْمُنْهِي تعبُّدَهُ *** بمــَقْدَمِ العيدِ إنَّ الصومَ قد كمُلا
يا أيها المخفقون في تجارب الحياة! مَن قال لكم إن الحياة تجربة واحدة؟ مَن صوّت في آذانكم بأن الفرص لا تتكرر؟ مَن قال لكم إن التجربة لا تعود؟ أفٍّ لهؤلاء الضعفاء الجبناء الراسبون في معترك الحياة! أفٍّ لهم! يُقنّطون الناس عن أيام الربيع المنتظرة.
أتُريد أن تعرف مؤشِّرات النجاح الحقيقية في حياتك اليوم؟ أرْخِ لي سمعك، واسمع نصيحة ذلك الوالد لولده حين قال له: إذا وثقت بنفسك حين يشك فيك الجميع، وإذا استقبلت الهزيمة كما تستقبل النصر سواء بسواء، وإذا استطعت أن ترى المعول يهدّم كل ما كرّست حياتك من أجله وتنهض لتبني مجداً ما قد تهدّم، وإذا استطعت أن تملأ فراغ كل دقيقة من حياتك بالعمل المفيد؛ ساعَتَئِذٍ تُصبحُ رجلاً يا ولدي. اهـ.
وأنا اليوم أصوّت بها في أذنك، إذا فاتت فرصة فالفرص قادمة، وإذا لاحت منحة ففاتت فالمِنَحُ آتية، وإذا تهيأ شيءٌ فَرُدَّ أو لم يتحقق فالخير في غيره، والأمل قادم بأمثاله، أو بأفضل منه. المهم أنك تحاول، وتحاول، وتعيش وأنت تستقبل فوات كل فرصة آمناً مطمئناً، مع إدراكك أنها لو كانت خيراً لما فاتت عليك، فربك أرحم بك من نفسك، المهم: لا تكف عن المحاولة.
يا أيها الراغبون في الاستقامة، المقبلون عليها، الخائفون من آثارها، المترددون في اتخاذ قرارها، إلى متى ستحلمون بالآمال ولا تحققونها؟ إلى متى تظلون تراوحون في أماكنكم وقراراتكم؟
إلى متى تظلون منهزمين في ذواتكم تخافون مقابلة الغيب القادم في حياتكم؟.
ألم تسمعوا إلى محمد الغزالي وهو يصوّت في آذانكم بقوله: لا تعلّق بناء حياتك على أمنية يلدها الغيب، فإن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخير، الحاضر القريب الماثل بين يديك، ونفسك هذه التي بين جنبيك، والظروف الباسمة أو الكالحة التي تلتف حواليك هي وحدها الدعائم التي يتمخّض عنها مستقبلك، فلا مكان لإبطاء أو انتظار، ثم اعلم أن كل تأخير لإنفاذ منهاج تجدد به حياتك، وتصلح به أعمالك، لا يعني إلا إطالة الفترة الكابية في حياتك، وبقاءك مهزوماً أمام نوازع الهوى، وعواقب التفريط. اهـ.
وصدَق -رحمه الله-، ألم تسمع إلى قول رسولك -صلى الله عليه وسلم-: "لَلَّهُ أفرحُ بتوبة عبده من رجل معه دابة في فلاة، عليها طعامه وشرابه، فظلَّتْ، فجلس ينتظر الموت، فما انتبه إلا وهي واقفة عند رأسه، فقال مِن شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك".
إلى متى تظل تراوح جباناً خائفاً مِن لمز القوم أو سخرياتهم؟ قم -يا أيها القاعد- وأعلن بأعلى صوتك أنك مقتدٍ بنبيك -صلى الله عليه وسلم-، قم من الخوف الكاذب، والوهن المستميت في نفسك، قم فاركض في ساحات الدنيا كلها بمنهج نبيك، لا تخف لومة لائم، واللهِ ثم والله ثم والله أن حياة أخرى تنتظرك! لو لم يكن فيها إلا الطمأنينةُ والأمنُ والراحة والسعادة لكان كافياً!.
حدثني عن نفسك اليوم، كم هو الخوف الذي يخالج قلبك حين تسافر تخاف من حوادث الطريق؟ كم هي الأحداث التي تتردد عنها مخافة لقاء ربك؟ إذاً، فلماذا تعيش جباناً خائفاً وأحلام المستقبل كلها تنتظرك؟.
حين تعيش مؤمناً تعيش آمناً تركض الدنيا كلها حتى ساحات الموت، وأنت تعلم أنه لا مخلوق يستطيع أن يقدم لحظة واحدة من لحظات عمرك في كتاب ربك.
هيا اليوم من هذا الـمُصَلَّى تتخذ قرارك المنتظر، هيا اليوم لترى نعيم الجنة بصورة أخرى واضحة غير تلك الصورة المشوهة في ذهنك، هيا إلى الجنة التي يقول فيها ربك: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ) [محمد:15].
الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الجنة التي يقول فيها رسولك -صلى الله عليه وسلم-: "لَمَوْضِعُ سَوْطِ أحدِكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها".
الجنة التي فيها الشجرة الواحدة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، الجنة التي خمار الحورية فيها: خير من الدنيا وما فيها. الجنة التي آخِرُ مَن يدخلها يقول الله له في نعيمها: ادخل الجنة؛ فإن لك مثل الدنيا ومثلها، ومثلها، ومثلها عشر مرات.
الجنة التي تنتظرك، وتنتظرك، ولا زالت تنتظرك، ودمع رسولك خير شاهد على محبتك حين وقف على شفير القبور وقال: وددت أني رأيت إخواني، قالوا: أوَلسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: لا، أنتم أصحابي! إخواني قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني.
أيها المسلمون: هل يستوعب العيد اليوم منّا هاجراً؟ هل تتسع مساحة هذه الأرض بأفراحها ومسراتها قلوباً حاقدة جامدة، موغلة في الهجر والعداء؟ هل يجد التاريخ اليوم في بسمة العيد مكاناً للمعرضين الناكصين عن إخوانهم؟ قم -يا أيها الهاجر- اليوم وأَطْفِئْ وَقدة النار في قلبك، قم فحطّم آصار الشيطان، قم فاركض إلى حبيبك وصديقك ورحِمِك فعانِقْ، ولا تلوي عنقك للآخرين، أترى أن العفو ذل، والتنازل عن قيم الشيطان رذيلة؟ مَن قال لك هذا؟ مَن وعظك به؟ ما عرف التاريخ في صفحاته مكاناً لجبان، ولا لوّث صفحاته برقعٍ لمتردد خوّان، قم فعانق مَن أوصاك الله بهم فعصيته، وأزّك الشيطان على فراقهم وهجرانهم فأطعته.
ضرَبَكَ، شتمك، وقع في عرضك، أخذ مالك، أساء لك، دعك من هذا كله، ليست قيمة الرجال في تعداد ما حصل لهم، وإنما في الثبات على المبدأ، والركض على الباطل، وركل كل مداخل الشيطان، وإعلان الحب الدافق، مهما حدث أمام الإنسان هو التحدي الحقيقي للإنسان على وجه الأرض.
قم فالحق بركب التائبين الفرِحين اليوم، قُم، فاليوم مناسبة لا كُلَّ المناسبات، قم، فاليوم تاريخ وحده، قم وانهض وراغم نفسك، واكتب حياتك من جديد، فحياة الأمس فيها ظلمة الهجر، وضغينة القلب، وهمّ الحياة ليست من حياتك البتة، قم فاكتب جذوراً للقادم الجميل، قم قبل أن يلحق بك سخط الله تعالى، ألم تسمع لقوله: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد:22-23].
قم قبل أن تنالك آثار القطيعة في قول رسولك -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة قاطع"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "حين تعلقت به الرحم فقالت يا رب هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، واقطع من قطعك، قالت: بلى، قال: فذلك لك".
ألا وصلوا وسلموا ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم