خطبة عيد الأضحى لعام 1424هـ

الشيخ د عبدالرحمن السديس

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: الأضحى
عناصر الخطبة
1/من أحكام وسنن الأضحية 2/ التوحيد أساس الدعوة 3/ وسطية الإسلام 4/ خطر التكفير 5/ نكبات أمة الإسلام 6/ المخرج لأزمات الأمة 7/ أهمية مناهج التعليم 8/ لوثات العولمة والتغريب 9/ خطر وسائل الإعلام 10/ مكانة المرأة في الإسلام 11/ الحث على مكارم الأخلاق والتحذير من مساوئها .
اهداف الخطبة
بيان شيء من أحكام الأضحية / التذكير بقضايا تهم المسلمين .
عنوان فرعي أول
حتى نضحي على السنة
عنوان فرعي ثاني
هذه قضايانا

اقتباس

من المهمّات التي يجب أن يتوارَد عليها المسلمون في موسِم حجّهم المبارك ما تميّزت به الشريعة الغرّاء من منهج الوسطيّة والاعتدال في كلّ أبوابها ومقاصدها، فهي وسطٌ في العقيدة، وسَط في العبادات، وَسطٌ في المعاملات، وسطٌ في كلّ شيء.

 

 

 

أمّا بعد: فيا إخوةَ الإيمان في كلّ مكان، أيّها المسلمون في أمّ القرى بلدِ الله الحرام، حجّاجَ بيت الله الحرام، خيرُ ما يوصَى به الأنام تقوَى الله الملكِ القدوس السلام، فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ في السِّرِّ والإعلان، وزكّوا بواطنَكم من الأوضار والأدران. اتَّقوا الله في الغيبِ والشهادةِ تحوزوا والحسنى وزيادة، وتحقِّقوا السعادةَ والسيادة والقيادة والريادة، (يِـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال:29].

معاشرَ المسلمين، أيّها الحجّاجُ الميامين، ها قد أنعم الله عليكم ببلوغ هذا اليومِ المبارَك الأزهر، وشهدتُم بفضله ومنِّه يومَ الحجّ الأكبر والمنسكِ الأشهَر، منسكٍ لا تُحصى فضائله ولا تُستَقصى نوائلُه، يوم عيد الأضحى المبارك، يجود فيه الباري جلّ وعلا بمغفرةِ الزلاّت وسَتر العيوب والسيّئات وإقالةِ العثرات وإغاثةِ اللّهفات ورفع الدرجات وإجابة الدعوات وقَبول التوبات. طوبى لكم ـ أيها الحجاج ـ ثم طوبى على ما تنعمون به من غامِرِ الرَّوحانياتِ وسابغ الإيمانيات، دموعُكم لرضوان الله مطَّردة، والضُّلوع منكم بالأشواق متَّقِدة، كيف وقد عانيتُم في عرفةَ من الإجلال والمهابةِ والخشوع والخضوع والدّموع والإنابة ما يكاد يذهب بالمُهَج ويأخذ بالألباب.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا.

عبادَ الله، من الشعائر العظمَى التي يتقرّب بها المسلمون إلى ربِّهم في هذا اليوم الأغرّ ـ يستوي فيها الحجّاج والمقيمون ـ شعيرة ذبح الأضاحي، اقتداءً بخليل الله إبراهيم ونبيِّ الله وحبيبه محمّد عليهما الصلاة والسلام، يقول تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـادَيْنَـاهُ أَن ياإِبْرهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَـاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات:103-107].

وخُلِّدت بذلك سنّةُ النّحر في عيد الأضحى لتبقى شامةً غرّاءَ على عظيم الاستسلام والإيمان، وآيةً كبرى في الإذعان لأوامِر الواحِد الديّان، ولتبقى حادثةَ الفداء أيضًا عبرةً وعنوانًا لتربية الأبناءِ في طاعةِ وبرِّ الآباء، (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) [الحج:37]، أي: ينالُه طاعتُكم وما وقر في قلوبكم من خشيته وتعظيم أمره.

أيّها المسلمون، أيّها المضحّون، ويحسُن التذكيرُ في هذا المقام بجُملةٍ من أحكام وسُنَن الأضحية، فقد أجمع أهلُ العلم على أنّ الأضحيةَ لا يجوز ذبحُها قبلَ وقتِ صلاةِ عيد يوم النّحر لما ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أوّلَ ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلِّي، ثم نرجع فننحَر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنّتنا، ومن نحر قبلَ الصلاة فإنما هو لحم قدّمه لأهله، ليس من النسُكِ في شيء)) أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له، وعن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: صلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم يومَ النحر ثم خطب ثم ذبح وقال: ((من ذبح قبل أن يصلّي فليذبح أخرى مكانَها، ومن لم يذبح فليذبَح بسم الله)) أخرجه الشيخان.
وينتهي وقتُ ذبح الأضحية بغروب شمسِ اليوم الثالث من أيّام التشريق لقوله عليه الصلاة والسلام: ((وكلّ أيام التشريق ذبحٌ)) أخرجه الإمام أحمد وغيره.
ولا يجوز التضحيةُ بالمعِيبة عيوبًا بيّنة، لما ورد عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّنُ عوَرها، والمريضة البيّن مرضُها، والعرجاء البيِّن ظلعُها، والكبيرة التي لا تُنقي)) أخرجه أحمد وأهل السنن.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

ويُعتبَر في سِنّ الهدي والأضحية السنُّ المعتبَر شرعًا، وهو في الإبل خمسُ سنين، وفي البقر سنتان، وفي المعز سنة، وفي الغنم نصفُ سنة.

وتُجزئ الشاة الواحدة عن الرجُل وأهلِ بيته، كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
ومن سُنَن الأضحية أن يتولّى المضحِّي الذبحَ بنفسه لمن كان يُحسنُه؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثًا وستين بدنةً بيده الشريفة، ثم أعطى عليًّا رضي الله عنه فنحَر ما غبر، كما جاء ذلك في صحيح الخبر.. وقد ضحّى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحَين أقرنين، ذبحهما بيده وسمّى وكبّر.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

ومِن السنّة ـ يا عبادَ الله ـ أن لا يُعطَى جازرها أجرَتَه منها.

ومن السنّة أن يأكلَ منها ثُلثًا، ويهدي ثلثًا، ويتصدّق بثلث، لقول الله عز وجل: (فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَـانِعَ وَلْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَـاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الحج:36] .
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا.

أمّةَ الإسلام، حجَّاجَ بيت الله الحرام، اشكُروا الله على ما هداكم للإسلام، فلقد كان الناسُ قبل انبلاج فجرِ الإسلام ببعثةِ خير الأنام عليه الصلاة والسلام في جهالةٍ حالِكة وضلالات هالكة، يئدون البنات، ويعبدون الحجارةَ كاللاّت والعزى ومناة، يتطيّرون ويتكهّنون، ويتعلّقون بالأوهامِ والخرافات، ويأتون الفواحشَ والمحرّمات، كانوا في ظلامٍ بهيم دامسٍ وكُفرٍ لحقيقةِ الحياة طامِس، إلى أن أضاءَ الكون بشمس الرسالة المحمّدية على صاحبها أزكى صلاة وأفضل سلام وتحيّة، فأخرجَتِ الناسَ من الظلمات إلى النور، وانتشلتهم من جَور الأديان إلى عدل ورحمةِ الإسلام، (كِتَابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم:1].

 
وكان أساسُ الأسُس وأصلُ الأصول في دعوتِه عليه الصلاة والسلام وركيزة مرتكزاتها ورُكن أركانها الدعوة إلى توحيد الله عزّ وجلّ وإفراده بالعبادة ونبذ كلّ ما سواه، تحقيقًا لقوله سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].

 
ولهذا المقصد الأجلّ ـ يا عبادَ الله ـ أرسِلت الرسل وأُنزلت الكتب، يقول سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ أَنَاْ فَعْبُدُونِ) [الأنبياء:25]، ويحذّر سبحانه خاتمَ أنبيائه من معرّة الشرك بقوله: (وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ) [الزمر:65].

 ويدلّ ذلك أجلى دلالة على خطورة الشرك على الملّة والأمّة ووجوب الحذر من شَوب التوحيد بما ينقضه أو ينقصُه، يقول الحقّ تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَـالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ) [الأنعام:162، 163]، وفي التنديدِ والتشنيع على من حادّ الله بالإشراك به يقول تعالى: (قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً) [الإسراء:56].

 
إنّ التوحيدَ الخالصَ لله هو الذي أطلَق العقولَ من أغلال الخرافة، وحرّرها من قيود الذلّ إلا لله والاستعانة إلا بالله، وإنّ العقيدة الصحيحةَ الخالصة من كلّ شوبٍ وكدر هي التي خرّجت أجيالاً من الأمّة غيّرت مجرى التأريخ، ولألأت وجهَ العالم، وتألّقت بها أبهى وأزهى حضارةٍ عرفتها البشريّة، وبها قُهِرت الشدائد العاتية والجيوشُ الغاشمة ضدّ الملّة والإنسانية، وهي بلا مِراء أساس القوّة والعِزّة التي يجب أن يستعصمَ بها كلّ مسلم صادقِ الإيمان في كلّ زمان ومكان.

فلِواحدٍ كن واحدًا في واحدي أعني سـبيلَ الحقّ والإيمـان

إخوةَ العقيدة، وما يبدئ الموحّد الغيورُ ويعيد في قضيّة العقيدة والتوحيد إلا لأنّه حقّ الله على العبيد، وما كان حقًّا لله جل وعلا طاب ذكرُه في الأفواه وحلا، (حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج:31].

 
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

إخوةَ الإسلام، ومن المهمّات التي يجب أن يتوارَد عليها المسلمون في موسِم حجّهم المبارك ما تميّزت به الشريعة الغرّاء من منهج الوسطيّة والاعتدال في كلّ أبوابها ومقاصدها، فهي وسطٌ في العقيدة، وسَط في العبادات، وَسطٌ في المعاملات، وسطٌ في كلّ شيء، (وَكَذلِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة:143] ، فلا إعناتَ ولا غلوّ، ولا مشقّة ولا حرَج، ولا تنطُّعَ ولا شطَط، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]. ومن قواعدِنا الفقهية المشهورة: اليُسر ورفعُ الحرج، والمشقّة تجلب التيسير.

ولما انحرف فئامٌ من المسلمين عن منهاج الوسطيّة والاعتدال ظهرت فتنةٌ فاقِرة يقاسي المسلمون جرّاءها الكروب والمحن، فتنة زلّت فيها أقدامٌ وضلّت فيها أفهام، ألا وهي فتنة التكفير ـ أجارنا الله وإياكم ـ الدّاعية إلى الخروجِ على ولاة أمر المسلمين وإثارةِ القلاقل وزعزعة أمنِ الأمّة وشَرخِ صفّ جماعتها، وأسبابُ ضلال هذه النابتة فهمٌ منحرِف آحاديّ لنصوص الكتاب والسنة، ولله درّ الإمام العلاّمة ابن القيم حيث يقول:
ولهم نصوصٌ قصّروا في فهمها فأُتوا من التّقصير في العِرْفان.

ضاربين صَفحًا عن فهم الصحابة الأبرارِ الذين شاهدوا التنزيلَ وأدركوا التأويل، مطَّرحين أقوالَ السلف الأخيار وأئمّة التفسير والفقه واللّغة، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـاكِن لاَّ يَعْلَمُونَ) [البقرة:13].

 
إنّ الذين يؤلّبون المسلمين على وُلاة أمرهم ابتغاءَ الفتنةِ والفوضَى ويسعَون في الأرض فسادًا وتدميرًا وإرهابًا وإرعابًا وتفجيرًا واستحلالاً للدّماء المعصومة من المسلمين والمعاهَدين والمستأمَنين باسم الإسلام ودعوى الإصلاح بإفكِهم لَمَا هم عليه من أبطَل الباطل، وأشدِّه تنكُّبًا عن دين الإسلام الأبلج، وأعمقِه مخالفةً لدعوة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وسواءِ المنهج، يقول تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة:32] . الله أكبر، أيّ وعيد وتهديدٍ أبلغُ وأزجر من هذا؟! ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من قتل معاهَدًا لم يَرح رائحةَ الجنة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا)) أخرجه البخاري. وهل يعني الولاءُ والبراء ـ يا عبادَ الله ـ اتخاذَ المستأمَنين والمعاهَدين والذمّيين غرضًا للقتل والترويع وسفكِ الدماء وتناثُر الأشلاء؟! يقول جلّ شأنه: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَلتَّقْوَى) [المائدة:2]، ويقول سبحانه: (لاَّ يَنْهَـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8]. والآية دليلٌ على سماحةِ الإسلام ويُسره واعتداله وموقفِه المنصفِ من المخالفين.

أمةَ الإسلام، إنّ قضيّة التكفيرِ الخطيرة ناجمةٌ عن انحرافٍ وغلوّ، وقد نُهينا عن الغلوّ في الدين لأنّه سبب هلاكِ الأوّلين: (يَـاأَهْلَ الْكِتَـابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ) [المائدة:77] .

 والغلوّ مذموم في جانب الوجود والعدم والفِعل والترك، كما أنّ الإرهابَ مذموم في الأسباب والبواعث والمقدّمات والنتائج والأفعال وردود الأفعال، إضافةً إلى أنّ امتطاءَ صَهوةِ التكفير يبعثُ عليها جهلٌ مركَّب في فهم مسائلَ من الدين كالولاء والبراءِ والجهاد والحدودِ والدماء، وقد بلغت حدًّا يوجِب التصدّي له من قِبَل أهل العِلم بالحجّة والبيان والدليل والبرهان، حراسةً لشبابِ الأمّة الغضّ من الهُويّ في عينِها الحَمِئة والتمرُّغِ في أوحَالها النّتِنة، يقول صلى الله عليه وسلم: ((من رمى أخاه بالكفر أو قال: عدوّ الله وليس كذلك إلا حار عليه))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من قال لأخيه: يا كافر فقد باءَ بها أحدُهما)) عياذًا بالله، خرّجه مسلم في صحيحه.

إنَّ على وسائل الإعلام المرئيّة والمسمُوعة والمقروءَة، وعلماءِ الشريعَة الموقِّعين عن ربّ العالمين المؤتمَنين على ميراث النبوّة، والدعاةِ ورجالِ الحِسبة، أن يربطوا المسلمين وفِتيانهم بمنهاج الوسطيّة السلفيَة المعتدِلة التي جاءت بها شريعَة الإسلام، ودلّت عليها نصوصُ الكتابِ والسنّة بفهمِ سلَف الأمّة، وتمثّلتها مهبِط الوحي ومنبع الرسالة، فكان أن سَطع بأساطينِ قيادتها نورُ الإيمان، وعمّ الأمنُ والأمان، وغدَت ثغرًا باسمًا في وجهِ الزمان، فضلاً من الله ومَنًّا، لا باكتسابٍ مِنّا، (وَلْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ) [الأعراف:58].

 
إنَّ أمنَ بلاد الحرمين الشريفين قضيةٌ لا تقبَل المساومات ولا تخضع للمزايدات، ولا تهزّها الزوبعات والمهاترات، وقد بسط الله فيها أمنَه وأمانَه إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليها وهو خير الوارثين، لا مكانَ فيها للعُنف والتخريبِ والإفساد والتأليب، وإن رغِمَت أنوفٌ من أناس فقل: يا ربّ، لا تُرغم سِواها.

أمّةَ الدعوة والإصلاح، ومن القضايا التي يجب أن تتواصى بها الأمّةُ وتحدِّدَ أصولَها وضَوابطها وتتَّخذها عنوانَ حِرصٍ للترابُط وتجاوز العقَبات والتحدّيات الدعوةُ للإصلاح الذي هو وجهٌ من وجوه حكمةِ بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يقول تعالى على لسان شعيب عليه السلام: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَـاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88].

والذين يتوجَّهون شطرَ الإصلاح المعتَبر ويحملون لواءَه لهم رجالٌ بَررَةٌ بالأمّة، يُسلِمونها إلى ساحاتِ الخير والقوّة، ولا يقودُ هذه الركابَ إلاّ كبيرُ الهمّة مَضّاء العزيمة، وسيكون الإصلاحُ مربحًا ومغنَمًا إذا انطلقنا فيه من إصلاحِ الذات والنظر في عيوبها وتهذيبها وأطرِها على سُنَن الهُدى، وأتبعنا ذلك بإصلاحِ الأسرةِ ولبناتها لأنها نواة المجتمع، وسيكون الإصلاحُ للعَلياء مرقاةً إذا بسطنا ظلالَه على المجتمَع والأمّة بما تقتضيه الحكمة والمصلحةُ من التدرّج والرفق ولأناة ومراعاة فقه المهمّات والأولويات.

ولمّا كانت الأهواءُ تجمح والمدارِك تختلِف وتتفاوَت كان لِزامًا اعتبارُ صلاح المصلِح وصفاءِ منهجه واستقامة آرائه؛ إذ لا يشفَع في هذه الأمانة الجُلَّى سلامةُ النيّة وحبُّ الخير ـ على أنهما محمدتان ـ مع ضحالةِ العلم وقصورِ النظر وضَعف الترجيح بين المفاسد والمصالح والخلطِ بين الثوابت والمتغيّرات. وبهذا تتفتّق أكمامُ الإصلاح على قول الحق سبحانه: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117].

 
ويؤكَّد هنا ـ يا رعاكم الله ـ على التحذير من الجانب المزعوم للإصلاح الذي يركَب مطيتَه بُعض المزايدين على الشريعة وذوي المغامرات الطائشَة والأطروحات المثيرة المتَّسِمة بالمخالفات الشهيرة واللاهثين وراءَ ركوب موجةِ حُبّ الشُهرة والظهور، وقد أوضحَ لنا القرآن الكريم ذلك غايةَ الإيضاح في جانب قومٍ لا خلاقَ لهم من المنافقين بقوله سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) [البقرة:11، 12].

أمّة الإسلام الخيِّرة، أيّتها الوفودُ المباركة، تعيشون هذه الأيامَ وعلى ثرى البلد الأمين الأفيَح سرورَ العيد وأُنسَ التعارُف والتآلف، وتنعَمون بنسائِمِ الرحمة والأخوّة الإسلامية الحانية، في هذه المواكبِ المهيبة الفريدة، ولكنّنا نذكّر في غمرَة الأسى بأنّ أمّتنا الإسلاميّة لا تزال تتجرّع المآسيَ والحسرات وتتلقّى الويلات والنكبات، القوارعُ تنوشُها من كلّ حدَبٍ وصَوب، والخطوب تؤمُّها من كلّ مضيق وطريق، تبدّدَت قواها، وانقصمت عُراها، وحيثما أجلتَ النظرَ أدمَت عينيك وقرّحت فؤادَك توازعُ الأشلاء ونزيف الدماء واغتصابُ الأرض والعِرض، والعدوّ المتربِّصُ يجدّ في خنق أنفاسِها وتجاهُل قضاياها، ولا مخلِّصَ لها من هذا الذلِّ والهوان إلا الاعتصامُ بالوحيين وأن تتنادَى وتتواصى بالوحدة الإسلامية المسيكة على مَرِّ الفُرصِ والمناسبات، تحقيقًا لقولِه سبحانه: (إِنَّ هَـاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَعْبُدُونِ) الأنبياء:92، وأن لا تربطَ ولاءاتِها وتوجُّهاتها إلا لعقيدتها ودينها وثوابتها، (وَعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران:103]،  (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:139].

وفي هذا الموسمِ الكريم ملتقَى العالم الإسلاميّ من أطراف البقاع والأسقاع يجب على الأمّة أن يمتدَّ بصرُها لتعيَ جيِّدًا موقعَها من ركاب العلياء والقيادة، ولتعلم أنَّ مسؤوليّاتٍ جسامًا تنتظرها، كفاؤها الصبرُ والعِزّة، في ابتدارٍ لأسباب النصرةِ ووسائل الظَّفر مهما كانت قوّةُ العدوّ قاهرة، (لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [النور:57]، (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ) [التوبة:32].

أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، إنّه لا سبيلَ للغاية المنشودةِ من القوّة والعزّةِ والوحدَة وحماية الديار والذّمار ودَحر المعتدين على كلّ أرضٍ مسلِمة إلاّ بالأوبةِ العمليّة الصادقة إلى الوحيين واتخاذهما شِرعةً ومنهاجًا. وإنّنا في حاجة ملحّة إلى أن نتمثَّل ذلك كلٌّ بحسَب ثغرِه من الأمانة والمسؤوليّة على كلّ صعيد؛ سياسيًّا وثقافيًّا، فكريًّا واقتصاديًّا، اجتماعيًّا وإعلاميًّا وتربويًّا، (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11].

 
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

إخوةَ الإسلام، وكُبرى القضايا المعاصِرة التي أشخصتِ الأبصار وفرتِ الأكبادَ وأذاقت الغيورَ اللوعةَ والسُّهاد قضيةُ فلسطين المحتلَّة السليبةِ والمسجد الأقصى الجريح المعَنَّى، فلسطينُ المسلمة تُسام العذاب والدون، والأقصى الملَوَّع يقاسي مرائرَ العدوانِ والهون، فليت شِعري كيف تطيب الحياةُ وأرضُنا المقدّسة مسرى إمام الأنبياء عليه الصلاة والسلام في قبضةِ شِرذمةٍ من الصهاينة الغاشمين، يُلطِّخونها بأرجاسِهم وأنجاسِهم، ويثبِّتون فيها أقدامَهم، ويحشُدون قواهم، ويضاعفون خُططَهم ومآربهم عبرَ توسُّعاتٍ جغرافيّة ومستوطنات عدوانية وجدرانٍ فاصلةٍ عنصريّة، ومضاعفةٍ لترسانة الأسلحة النووية التي تمثِّل خطورةً بالغة على الأمن والسلام في المنطقة على سمع العالم ومرآه، بل إنهم يسومون إخوانَنا هناك القصفَ والخسف والمذابِح والمجازرَ والتدمير والتشريد والإرهاب بكلّ ما يحمله هذا المصطلحُ من معاني الظّلم والغِلظة والقسوَة والعنجهيّة، وأليّة بفاطِر الأرض والسماء لا حنثَ يعروها، لو أنَّ الظلمَ والإرهابَ والصَّلَف والقِحة والإرعاب صُوِّرت مخلوقًا لما تخطّى تلك الطُّغمةَ الباغية من الصهاينة المعتدين الغاشمين.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

وتستحكِم بنا حلقاتُ المحن، ويبسط الأعداءُ أيديَهم بالسوء، وتُرزَأ الأمّة في جزء آخرَ من أجزاء جسدها المثخَن بالجراح، يتمثَّل ذلك في بلادِ الرافدَين مهدِ العلماء وموئِل الخلافة الإسلاميّة حِقبةً من الزمان، وتعيش تلك الرّقعة الهضيمةُ حياةَ النّهب والسّلب والفوضى، حتى أمسَى العَمارُ فيها دمارًا وتبارا، وأسرع الغاصِب إلى خيراتها وتبارَى، وغدا الاستقرار فوضىً وبوارًا، وإلى الله وحدَه نجأر بالبثِّ والشَّكوى، والدعوةُ موجَّهة إلى العالم بأسرِه للإسهام في إعمارِ العراقِ العريق ودَعم شعبِه المسلِم والحِفاظ على وَحدتِه، والدعاءُ مبذولٌ أن يهيِّئ الله لإخوانِنا في بلادِ الرافدَين ولايةً تحكمُهم بالكتابِ والسنّة، وتؤمِّن بإذنِ الله سُبُلهم، وتحقِّق أمنَهم، وتوحِّد صفوفَهم، وترعى مقدَّراتهم، وتحافظ على خيراتهم.

فيا مَن تشهدون هذه العبادةَ العظيمة، يا مَن تتصعَّد مِن أحنائكم الزَّفرات وتلجؤون إلى الرحمن بأحرِّ الدعوات وتسكبون العَبَرات الذارفات، اذكُروا إخوانًا لكم مفزَّعين ملتاعِين في فلسطين وفي بلادِ الرافدَين وفي كلّ مكان، ادعوا الله أن يكشفَ عنهم الهمومَ والغموم، وأن ينصرَهم على كلّ باغٍ ظلوم ومعتدٍ غشوم، (عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) [النساء:84].

 
بهذه المكائدِ الزُّيوف برح الخفاء، وبانتِ الدعاوى الجوفاء، وأيقن الغيورون على أوضاعِ أمّتهم أنَّ الهيئات العالميةَ التي تتعلَّل فيما يَمسّ قضايا المسلمين بالعُلالاتِ الواهية لن تجمعَ متفرِّقًا، ولن تكُفَّ معتدِيًا غاشمًا، وأنَّ المنظّمات الدولية التي تماطل قضايانا لن تؤمِّن خائفًا، ولن تنصُر مظلومًا، مما يؤكِّد الحاجةَ لمتابعةِ الدعوة إلى إنشاءِ محكمة عدلٍ إسلاميّة عالميّة، حتى لا تختلّ الموازين التي ينبغِي أن تحكمَ التعامُل بين الشعوب والأمَم.

إنّه لن يصلحَ حالُنا إلاّ باتحادِنا وتآلفنا وتوجُّهنا شطرَ الكتاب والسنة، وإن دهاقنةَ السياسة العالمية ووسائل الإسلام الغربية مطالبة أن تفهمَ الإسلامَ على حقيقته، وأن تحذرَ من ربطِ الإرهاب بالإسلام دينِ الحقّ والخير والعدل والسلام، وأن تحذرَ من إلصاقِ تهمة الإرهاب بالمسلمين.

لقد آن الأوانُ لكي تخرجَ الأمّةُ من نفَق التحدّيات وبُؤَر العقبات والأزمات، أن تضطلعَ بمشروعٍ إسلاميّ حضاريٍّ يضع الخطَطَ والبرامِج والاستراتيجيات المهمّة والآلياتِ العمليّة والخطُوات التنفيذيّة الجادّة لكافّة قضايا أمّتنا والمستجدّات والتحدّيات السياسية والاقتصادية والثقافيّة والفكرية والأمنية والتربويّة والإعلامية، ووضعِ برامجَ توعويّة بشتَّى اللغات تعالجُ الجهلَ بقواعدِ الاعتدالِ والوسطيّة والتخلُّص من الآراء الآحادية والاجتهاداتِ الفرديّة والفتاوَى التحريضيّة التي تنطلِق مِن كهوفٍ ومَغارات، ويبثُّها مجاهيلُ نكِرات، لا سيّما في القضايا المصيريّة، وذلك بوضعِ ميثاقٍ علميّ عالمي عالٍ للإفتاء، يحقِّق المرجعيّة المعتبَرة للفتوَى في النوازل والمستجدّات المعاصِرة، تحقيقًا للمصالح وتكمِيلها، ودرءًا للمفاسد وتقليلها، وإنَّ من فضل الله وكريم ألطافه أن ضمنَ المستقبلَ المشرِقَ لهذه الأمّة، فلا مكانَ لليأس والقنوط، ولا مجالَ للتخاذل والإحباط، بل جدٌّ وعمل وتفاؤل وانطلاق واستشرافٌ لآفاق مستقبلٍ أفضل، صلاحًا وإصلاحًا، ولن يصلُح أمرُ آخر هذه الأمّة إلا بما صلح به أوّلها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ) [النور:55].

 
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

نسأل الله أن يُصلحَ أحوالَ المسلمين في كلّ مكان، وأن يهيّئ لهم من أمرهم رشَدًا بمنّه وكرمه، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.
 

 

الخطبة الثانية:

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

الحمد لله الملكِ القدّوس السلام، أكملَ لنا الدينَ وأتمَّ علينا الإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، شرع الشرائع وأحكمَ الأحكام، وأصلّي وأسلِّم على نبينا محمّد بن عبد الله سيّد الثقلين وأزكى الأنام، انجابت بنور رسالته حنادِس الظلام، وعلى آله البرَرة الكرام، وصحبه الهُداة الأعلام، فُرسان الوغى وليوث الآجام، ومن تبع آثارهم بالحقّ واستقام، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، اتقوا الله يا حجّاجَ بيت الله، فمن اتَّقى الله فهو المرحوم، ومن حُرِمها فهو المحروم، واعلموا أنّ التقوى سببُ القَبول وخير مطيّة لتحقيق الخير المأمول، (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27].

أيها المسلمون، إنَّ من مقاصد الإسلام الساميَة تهذيبَ النفوس من الشحِّ والأثرةِ، والإحسانَ للفقراء والمحتاجين والملهوفين والمنكوبين، يقول جل وعلا: (وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195]،  ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)).

وهذه السَّجيّة المنبثِقةُ من سماحةِ الإسلام وجوهره تأسو الجراح وتداوي الكُلومَ وتخفِّف البأساء وتدفع البلاء والضرَّاء، ولا غِنى عنها لأيّ مجتمعٍ ينشُد المحبَّة والوِئام، ولن يتنكَّر لذوي الحاجات والعاهات والفاقات والزمنَى والمعوِزين إلاّ غلاظُ الأكباد وقساةُ القلوبِ عياذًا بالله، وشريعتُنا الرحيمة حذّرت من ذلك أيّما تحذير.

 

إنّ الأعمالَ الخيريّة والإغاثية بصنوفها المتعدّدة جزءٌ لا يتجزّأ من منظومةِ شريعتِنا الغرّاء وحضارتنا المشرِقة اللألاء، هي الكفُّ الندِيّ والبلسَم الشفيّ وطوقُ النجاة للمجتمعات والملتقَى الإنسانيّ للحضارات، ومَن ينتسبُ إليها يسمو سماءَ المجدّ شرفًا، قد تخلَّى عن الذات، وتجاوز المصالحَ والأنانيّات، عاش شمعةً مضيئة، يبذل الخيرَ للغير، وإذا طُوي بساطُها وأفَلت نجومُها وعُطِّلت قوافِلها حلّت في المجتمعاتِ الكوارثُ والنكبات، وانتشر الفقرُ والعَوَز، واستشرت البَطالة، ولا غروَ أن تجدَ نماذجَ مضيئةً مشرقَة تنطلقَ من ثوابتِ بلادِ الحرمين الشريفين حرسها الله ونسيجِها المتميِّز، فلها القِدح المعلَّى والدورُ الرائدُ المجلَّى في ذلك كلِّه، وما هي إلاّ شكرٌ للمنعِم على إنعامه، وآيةٌ ساطِعة على كَرَم أبنائها وزكاءِ أَرُومتهم ونُبل معدنهم ومحبَّتهم للخير وتفانيهم فيه بحمد الله، ولن يقبضَ أياديَها البيضاءَ في إسداءِ البرِّ والإحسان وبذلِ النَّدى والمعروف وإغاثة الملهوف ولو في أقاصي المعمورة ـ كما هو واقعُ الحالِ بحمد الله ـ تخذيلُ الشانئين وحملاتُ المغرضين ومحترفي الإساءة للبرآء الخيّرين، ممّا يؤكِّد وجوبَ التصدِّي الحاسم والوقوف الحازم، وذو الفَضلِ لا يسلَم من قَدح وإن غدا أقومَ مِن قِدح، والله المستعان.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

أمةَ التعليم والتربية، مناهجُنا مبَاهِجُنا، هي التي تمثِّل مِحورَ الثمرةِ التعليميّة والتربويّة، وفي ضوئها تتكوّن مداركُ الأجيال واتجاهاتُهم، وبها تُعلَّق الآمال في الإصلاح العقديّ والفكريّ والاجتماعي، وهي ولا ريب من الأهميّة بمكانٍ في الدلالة على رقيِّ الأمّة أو انحدارها. ولئن حدّقنا في مضامينِ تلك المناهج ومعانيها وحلَّقنا فوقَ مفرداتها ومبانيها ألفيناها بحمد الله ومنّه قائمةً على الكتاب والسنّة، مستوحاةً من هدي سلفنا الصالح، مواكبةً لتمدُّن العصرِ وتطوُّرِه، في غيرِ تبعيّة أو ذَيليّة، تقتبِس مِن علوم الحضارةِ المعاصرة ما تؤيّدُه شريعتُنا، وتنبذُ ما سواه. وأمّا الافتراءاتُ التي ألحِقَت بها وحامت حولها فهي أوهى من أن تُتَعقَّب أو تُنقَض، وتحويرُ المناهج وتنقيحُها مما يقتضيه توثُّب العصر ورُقيُّه، وقد درَجت على ذلك الأمَم قديمًا وحديثًا، ولسنا بِدعًا في هذا المرتَقى، فلتقرَّ أعينُ الذين يدوكون ويخوضون فيها بعِلم أو بغير علم أنها بأيدٍ أمينةٍ بإذن الله، مخلِصةٍ لديها وأمَّتها، ولكنَّ المهمَّ في ذلك الإيصاءُ بالحرص على عدَم التعرُّضِ لجوهر العقيدة، والحذَر من المساس بالثوابتِ والأصول، والعناية بتأهيل المعلِّمين والمعلِّمات الذين يتحمَّلون أمانةَ التربية والتعليم، ليكونوا قدوةً لطلاّبهم قولاً وعملاً، داخلَ حصونِ التعليم وخارجَها، وأن يُتحرَّى منهم مَن كان على حظٍّ وافر من الدين والنُّضج العقليّ والجانب الخُلقيّ والسّلوكي.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

إخوةَ الإيمان، ومِن المنافع التي يجب أن نشهدَها في هذا المؤتمر الإسلاميّ ضرورةُ العناية بفئةٍ عزيزة على نفوسنا جميعًا، فئةٍ تُعدُّ بحقٍّ مناطَ آمَال الأمّة ومعقِدَ رجائها، تلكُم هي فئة الشباب، (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَـاهُمْ هُدًى) [الكهف:13]؛  لأنّ إغفالَ قضايا هذه الشريحة المهمّةِ في الأمّة والتجافيَ عن محاورتهم وتوجيههم وإرجاءَ الحلولِ لمشكلاتهم قد يؤدّي بهم إلى فسادٍ عريض في كلّ مزلَقٍ خلقيّ وجنوح سلوكيّ وانحرافٍ فكري.

يجب تحصينُ الشباب من لوثاتِ العولمة والتغريب والحفاظُ عليهم من تيّارات التطرُّف والغلوّ، وما فواجعُنا التي كابدناها منّا ببعيد، لذا فإنّ الحاجةَ ملِحَّةٌ لأخذهم بحكمةِ العاقل الأحوذي، واحتضانهم وفتح الصدور لهم بقدرة العاقل الألمعيّ، واستخدامِ أمثل الأساليب التي تُلامس أفئدتهم وتوافق فِطرَتهم لنثوبَ بهم إلى رحابِ الجيل الإسلامي المأمول بإذن الله، ولعلّ ذلك يكون من أولويّات حوارنا الإصلاحيّ الذي نفَحَنا عَبَق أريجة وقام داعيًا إلى منهج الوسطية والاعتدال والمطارحاتِ الشفيفة في الآراء دونَ مواربة أو إعضاء، وإنّ منهجَ الحوار ليُحسَبُ للأمّة الإسلاميّة وثبةً فكريّة وحضاريّة تُحكِم نسيجَ الجماعةِ المسلمَة وتعضدُ من وَحدتها وتآلفها، ومنقبَةً شمّاء تستطلِع في شموخٍ آليّاتِ التحدّي داخليًا وخارجيًا في هذا العصر المتفتِّق على متغيّراتٍ خطيرة، لكن ثم لكن لا بدَّ من مراعاة آداب الحوار وضوابِطه ومنهجِه وأخلاقياته، حتى لا يتحوّل الحوارُ إلى فوضى فكريةٍ تلحِقُ الآثارَ السلبية على البلاد والعباد، وأن لا يتّخَذ الحوار من ذوي المآرب المشبوهة مطيّةً للنيل من المسلَّمات والمساس بالثوابت، سدّد الله الخُطى ومَنى التوفيق.

أمّةَ الإسلام، لوسائل الإعلام النزيهةِ المنصفة من قنوات وشبكاتٍ وصُحفٍ ومجلاّت عبءٌ في بيان وبثِّ قضايا الأمة والسعيِ للدفاع عنها، مع كشف هجماتِ الأعداء المسمومة والوقوف بحزمٍ أمام حملاتهم المحمومة وتصحيحِ المفاهيم المغلوطةِ عن ديننا وعقيدتنا وشريعتنا.

أما بعضُ وسائلِ الإعلام والقنوات الفضائيّة المتهتِّكة التي تثير غاراتٍ شعواء من الشهوات والملذّات التي تضرِم نيرانَ الفساد والإفساد وتزلزل معاقِلَ الطُّهر والفضيلة من القواعدِ فإننا نناشدهم اللهَ عز وجل أن يتَّقوا الله في قِيَم الأمّة ومُثُلِها وفضائلها، وأن يُبقوا على لُعاعةٍ من حياء لبني الإسلام ودياره.

إنَّ استحواذَ الرذيلة على جوانبَ من حياة الأمة عبرَ تلك القنوات يُعرِّضها لأخطرِ المهالك، ويفضي بها إلى مهاوٍ سحيقة من الظلْم والظّلَم، خصوصًا وأنَّ كثيرًا من القلوب خاوية من اليقين والخشية، وهما خير عاصمٍ من قواصم تلك القيعان الوبيئة. وايم الله، إنّك لتُقضَى أسًى وحسرةً على الأحوال المزرية المسِفَّة التي آل إليها أمرُ كثير من الفضائيات وشبكات المعلوماتِ من الدعوة الصارخة إلى الفُحشِ والفضائح وسردِ المخازي والقبائح، في تحطيمٍ أرعن للشرَف والعِفّة والفضيلةِ والأخلاق.

إنّ هذا الواقعَ المأساويّ المرير لمن أمضى الأسلحةِ التي انتضاها أعداؤنا وبعضُ أفراخهم من بني جِلدتنا للقضاء على ما تبقّى من شأفتنا، وحسبُك من شرٍّ سماعُه. فماذا دَهانا؟! وأيّ أمرٍ أمَرٍّ عَرانا؟! أين ضياءُ العفاف والطُّهر؟! أينَ عزّةُ الغيرة والفضيلةِ والحياء؟! بل أين صلابة العقيدة وقوّة الإيمان؟! (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَلآخِرَةِ وَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النور:19].

 
فيا إخوةَ الإسلام، يا حجّاجَ بيتِ الله الحرام، صونوا أبصارَكم وأنفسَكم وأبناءكم وأُسَركم عن تلك المباءات، واحسِمُوا هذا الداءَ قبل استطارة شرّه، فمعظمُ النار من مستصغَر الشَّرَر، وما شرَرُها إلا كبير وخطير، ممّا يدعو إلى ضرورةِ الالتزام بميثاق شرَف إسلاميّ إعلاميّ، يتقيّد به جميعُ مُلاّك هذه القنوات في إعلاءِ صرح الفضيلة. وإنّ لكم في الإعلام الإسلاميّ الهادف الرصين المرتقِي في أدائه المبدِع في عرضه النيِّرِ في فكره المتميِّز في طرحه خيرُ بديلٍ في تمثيل الإسلام أحسنَ تمثيل لمواجهةِ التحدِّيات الإعلامية المناوئةِ للإسلام في وسائل الإسلام العالمية، والنماذجُ الواقعيّة المتميّزة تبعثُ بحمد الله على التفاؤل والاستبشار.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

معاشرَ المسلمين، شريعتُنا الغرّاء كانت ولا تزال الحفيّةَ بالمرأة، الحارسةَ لكرامَتها وعِرضها، الراعيةَ لحقوقها ومكانتها، أمًّا كانت أو بنتًا، زوجةً أو أختًا. والإسلام هو الذي شرَع السُّبُل الكفيلةَ لتحصين شخصيتها ضدَّ كلِّ ما يهدِّد مقوّماتِها من الامتهان والابتذال، خصوصًا في هذا العصر حيثُ سعيرُ المغريات والشهوات واشتدادُ الهجمة على أخواتنا المحصَنات المؤمنات، وقد بات من البدَهيّات أنَّ الذين ينتقصون الإسلامَ من خِلال ما يتظاهرون
 

 

وهذه السَّجيّة المنبثِقةُ من سماحةِ الإسلام وجوهره تأسو الجراح وتداوي الكُلومَ وتخفِّف البأساء وتدفع البلاء والضرَّاء، ولا غِنى عنها لأيّ مجتمعٍ ينشُد المحبَّة والوِئام، ولن يتنكَّر لذوي الحاجات والعاهات والفاقات والزمنَى والمعوِزين إلاّ غلاظُ الأكباد وقساةُ القلوبِ عياذًا بالله، وشريعتُنا الرحيمة حذّرت من ذلك أيّما تحذير.

وهذه السَّجيّة المنبثِقةُ من سماحةِ الإسلام وجوهره تأسو الجراح وتداوي الكُلومَ وتخفِّف البأساء وتدفع البلاء والضرَّاء، ولا غِنى عنها لأيّ مجتمعٍ ينشُد المحبَّة والوِئام، ولن يتنكَّر لذوي الحاجات والعاهات والفاقات والزمنَى والمعوِزين إلاّ غلاظُ الأكباد وقساةُ القلوبِ عياذًا بالله، وشريعتُنا الرحيمة حذّرت من ذلك أيّما تحذير.

المرفقات

438

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات