عناصر الخطبة
1/ الحكمة من خلق البشر 2/ كيف تنال ولاية الله؟! 3/ حياة البشر لا تصلح إلا بالتعاون 4/ مواجهة الغزو التغريبي المنظم 5/ وجوه التعاون على البر والتقوى 6/ فضل يوم النحر وأيام التشريق 7/ حكم اجتماع صلاتي العيد والجمعةاقتباس
لَقَد خُلِقتُم لأَمرٍ عَظٍيمٍ وَخَطبٍ جَلِيلٍ، هُيِّئَ لَكُم مِن أَجلِهِ مَا في الأَرضِ جَمِيعًا (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزقًا لَكُم فَلَا تَجعَلُوا للهِ أَندَادًا وَأَنتُم تَعلَمُونَ).
الخطبة الأولى:
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
اللهُ أَكبرُ كَبِيرًا، وَالحَمدُ للهِ كَثِيرًا، وَسُبحَانَ اللهِ بُكرَةً وَأَصِيلاً، اللهُ أَكبرُ مَا ذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ، اللهُ أَكبرُ مَا حَمِدَهُ الشَّاكِرُونَ، اللهُ أَكبرُ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ، الحَمدُ للهِ الَّذِي أَعطَى الإِنعَامَ جَزِيلاً، وَقَبِلَ مِنَ الشُّكرِ قَلِيلاً، وَفَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِمَّن خَلَقَ تَفضِيلاً، نِعَمُهُ عَلَى أَولِيَائِهِ سَابِغَةٌ، وَنِقَمُهُ لأَعدَائِهِ دَامِغَةٌ، وَلَهُ تَعَالى الحُجَّةُ البَالِغَةٌ، أَعَزَّ الحَقَّ وَنَصَرَهُ، وَأَذَلَّ البَاطِلَ وَقَصَرَهُ، وَهُوَ اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الحَمدُ في الأُولى وَالآخِرَةِ.
أَمَّا بَعدُ:
فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُم وَنَفسِي بما أَوصَى اللهُ بِهِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، فَإِنَّ لَكُم في الأَرضِ مُستَقَرًّا وَمَتَاعًا إِلى حِينٍ، فِيهَا تَحيَونَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنهَا تُخرَجُونَ، وَاللهُ قَد أَنزَلَ عَلَيكُم لِبَاسًا يُوَارِي سَوءَاتِكُم وريشًا (وَلِبَاسُ التَّقوَى ذَلِكَ خَيرٌ)، (وَللهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا).
لَقَد خُلِقتُم لأَمرٍ عَظٍيمٍ وَخَطبٍ جَلِيلٍ، هُيِّئَ لَكُم مِن أَجلِهِ مَا في الأَرضِ جَمِيعًا (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزقًا لَكُم فَلَا تَجعَلُوا للهِ أَندَادًا وَأَنتُم تَعلَمُونَ).
بِتَوحِيدِ اللهِ تُنَالُ وِلايَةُ اللهِ وَعِنَايَتُهُ، وَبِالشِّركِ يَسقُطُ العَبدُ مِن عَينِ رَبِّهِ، وَيَهوِي في مَتَاهَاتِ الحَيرَةِ وَظُلُمَاتِ الشَّكِّ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (فَاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِنَ الأَوثَانِ وَاجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ حُنَفَاءَ للهِ غَيرَ مُشرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخطَفُهُ الطَّيرُ أَو تَهوِي بِهِ الرِّيحُ في مَكَانٍ سَحِيقٍ).
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَد جَاءَ الإِسلامُ وَالعَرَبُ أَعدَاءٌ مُتَفَرِّقُونَ، كُلُّ حِزبٍ بما لَدَيهِم فَرِحُونَ، فَأَلَّفَ اللهُ بَينَ قُلُوبِهِم فَأَصبَحُوا بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا، وَغَدَوا عَلَى الحَقِّ أَنصَارًا وَأَعوَانًا. وَقَد أَمَرَهُم رَبُّهُم بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ لِيَأتَلِفُوا، وَنَهَاهُم عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّنَازُعِ لِئَلاَّ تَذهَبَ رِيحُهُم وَيَفشَلُوا، وَقَد كَانَ في عُصُورِ الإِسلامِ الأُولى مِن تَحقِيقِ مُرَادِ اللهِ مَا كَانَ، فتَعَاوَنَ المُسلِمُونَ عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَتَنَاهُوا عَن كُلِّ إِثمٍ وَعُدوَانٍ، تَحقِيقًا لأَمرِهِ -تعالى- حَيثُ قَالَ: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ)، عَلَى هَذَا مَضَت أَزمِنَةٌ وَغَبَرَت قُرُونٌ، وَالخَيرُ في المُسلِمِينَ ظَاهِرٌ وَالبِرُّ بَينَهُم مُنتَشِرٌ، لا يَجِدُ بَاذِلُ المَعرُوفِ صُعُوبَةً في مُتَابَعَةِ إِحسَانِهِ، وَلا يُحِسُّ المُتَّقِي في طَرِيقِهِ إلى اللهِ بِغُربَةٍ وَلا يُوجِسُ خَوفًا، حَتى إِذَا ابتَعَدَتِ الأُمَّةُ عَن مَصدَرِ عِزِّهَا وَارتَبَطَت بِمَن لا يُعِزُّهَا، انحَسَرَ فِيهَا الخَيرُ قَلِيلاً، وَجَعَلَ الشَّرُّ يَنتَشِرُ حَثِيثًا، وَقَلَّ المُعِينُونَ عَلَى البِرِّ، وَظَهَرَ مَن يَتَآمَرُونَ بِالشَّرِّ، بَل وَصَلَ الأَمرُ إِلى أَن عُطِّلَت كَثِيرٌ مِن المَصَالِحِ، وَامتَلأَتِ النُّفُوسُ بِالشُّحِّ وَوَقَعَ التَّظَالُمُ، وَصَارَ المُتَمَسِّكُ في وَحشَةٍ، وَمُرِيدُ الخَيرِ وَالسَّاعِي بِالبِرِّ في عُزلَةٍ، فَحُرِمُوا بِذَلِكَ خَيرًا كَثِيرًا، وَمُنِعُوا فَضلاً وَفِيرًا.
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ لِلنَّاسِ مَصَالِحَ في دُنيَاهُم وَأُخرَاهُم، وَلَهُم مَطَالِبُ في مَعَاشِهِم وَمَعَادِهِم، وَالفَردُ مِنهُم وَحدَهُ عَاجِزٌ ضَعِيفٌ قَلِيلٌ، لا يَستَقِلُّ بِعِلمِ مَا يُصلِحُهَ، وَلا يَنفَرِدُ بِالقُدرَةِ عَلى مَا يَنفَعُهُ؛ وَمِن ثَمَّ فَقَدِ اقتَضَت الحِكمَةُ الرَّبَّانِيَّهُ أَن يَتَعَاوَنَ النَّاسُ وَيَعضُدَ بَعضُهُم بَعضًا، وَلَمَّا كَانُوا قَد يَتَعَاوَنُونَ عَلَى مَا يَضُرُّهُم وَلا يَنفَعُهُم، أُمِرُوا أَن يَكُونَ تَعَاوُنُهُم عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى؛ لأَنَّ في التَّقوَى رِضَا رَبِّهِم، وَفي البِرِّ رِضَا النَّاسِ عَنهُم، وَمَن حَازَ رِضَا اللهِ وَرِضَا النَّاسِ، فَقَد تَمَّت سَعَادَتُهُ وعَمَّت نِعمَتُهُ.
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
أُمَّةَ الإِسلامِ: حَيَاةُ الإِنسَانِ لا تَصلُحُ إِلاَّ بِالتَّعَاوُنِ، وَبَقَاؤُهُ في الأَرضِ لا يَحصُلُ إِلاَّ بِالتَّعَاوُنِ، وَسَعَادَتُهُ لا تَتِمُّ إِلاَّ بِالتَّعَاوُنِ.
وَالنَّاسُ لِلنَّاسِ مِن بَدوٍ وَحَاضِرَةٍ *** بَعضٌ لِبَعضِ وَإِن لم يَشعُرُوا خَدَمُ
وإِذَا كَانَ الأَمرُ كَذَلِكَ في دُنيَا النَّاسِ، فَإِنَّهُم إِلى التَّعَاوُنِ عَلَى مَا يُصلِحُ أُخرَاهُم أَحوَجُ، فَلَيسَ حِفظُهُم نُفُوسَهُم وَأَبدَانَهُم في دَارِ المَتَاعِ وَالغُرُورِ، بِأَولى مِن حِفظِ حَيَاتِهُمُ الحَقِيقِيَّةِ في دَارِ البَقَاءِ وَالخُلُودِ، وَإِنَّ الأُمَّةَ وَهِيَ في هَذِهِ الحَالِ الَّتي تَعِيشُهَا اليَومَ، مِن تَغَلُّبِ الأَعدَاءِ وَإِجلابِهِم عَلَيهَا بِخَيلِهِم وَرَجِلِهِم، وَاشتِرَاكِ مُلحِدِي الخَارِجِ وَمُنَافِقِي الدَّاخِلِ في الحَربِ عَلَيهَا، إِنَّهَا لَفِي أَمَسِّ الحَاجَةِ إِلى مُوَاجَهَةٍ لذَلِكَ الغَزوِ الجَمَاعِيِّ المُنَظَّمِ، وَهُوَ الوَاجِبُ الَّذِي لا يُمكِنُ تَحقِيقُهُ وَلا إِتقَانُهُ فَردِيًّا، بَل وَلا عَلَى مُستَوًى قَبَلِيٍّ ضَيِّقٍ، أَو مِن مُنطَلَقِ عَصَبِيَّةٍ أَو حِزبِيَّةٍ، أَو في حَيِّزِ بَلَدٍ بِعَينِهِ أَو مَنطِقَةٍ بِذَاتِهَا، وَلَكِنَّهُ يَستَوجِبُ نَبذَ الأَثَرَةِ الطَّاغِيَةِ عَلَى القُلُوبِ، وَالتَّخَلُّصَ من حُبِّ النَّفسِ المُبَالَغِ فِيهِ، وَمُجَانَبَةَ الانكِفَاءِ عَلَى الذَّاتِ وَالسَّعيِ في مَصَالِحِهَا الخَاصَّةِ، ثم التَّحَلِّيَ بِالرُّوحِ الجَمَاعِيَّةِ وَسَعَةِ الأُفُقِ، وَتَقدِيمَ المَصَالِحِ العَامَّةِ وَالاتِّجَاهَ إِلَيهَا بَقُوَّةٍ، وَمُرَاعَاتَهَا في كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، بِأَعمَالٍ جَمَاعِيَّةٍ كَامِلَةٍ، وَمَشرُوعَاتٍ إِصلاحِيَّةٍ شَامِلَةٍ، وَتَخطِيطٍ نَاضِجٍ لأَدوَارٍ تَكَامُلِيَّةٍ يُرَاعَى فِيهَا اَلتَّخَصُّصُ وَالإِتقَانُ، وَحَيَاةٍ عَمَلِيَّةٍ جَادَّةٍ حَازِمَةٍ، يُشَجَّعُ فِيهَا النَّاجِحُونَ، وَيُرفَعُ شَأنُ المُخلِصِينَ، وَيُردَعُ الظَّالِمُون المُعتَدُونَ، وَتُترَكُ نُصرَةُ المُتَجَاوُزِينَ مَهمَا كَانَت قَرَابَتُهُم أَو مَكَانَتُهُم، في فَهمٍ وَاسِعٍ وَتَطبِيقٍ جَادٍّ لِنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ، سَوَاءٌ الحَاثَّةُ عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى، أَوِ النَّاهِيَةُ عَنِ الإِثمِ وَالعُدوَانِ، إِذِ المُسلِمُونَ جَسَدٌ وَاحِدٌ يُؤلِمُهُ مَا يَصِيبُ بَعضَ أَعضَائِهِ، وَسَفِينَةُ المُجتَمَعِ لا تَحتَمِلُ خَرقًا وَاحِدًا فَكَيفَ بِخُرُوقٍ كَثِيرَةٍ.
قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "المُسلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ؛ إِنِ اشتَكَى عَينُهُ اشتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشتَكَى رَأسُهُ اشتَكَى كُلُّهُ". رَوَاهُ مُسلِمٌ، وَأَخرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ وَغَيرُهُمَا وَلَفظُهُ: "مَثَلُ المُؤمِنِينَ في تَوَادِّهِم وَتَرَاحُمِهِم وَتَعَاطُفِهِم مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشتَكَى مِنهُ عُضوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى"، وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "المُسلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُم، يَسعَى بِذِمَّتِهِم أَدنَاهُم، وَيُجِيرُ عَلَيهِم أَقصَاهُم، وَهُم يَدٌ عَلَى مَن سِوَاهُم". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابنُ مَاجَه وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ. وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "المُؤمِنُ مِرآةُ المُؤمِنِ، وَالمُؤمِنُ أَخُو المُؤمِنِ، يَكُفُّ عَلَيهِ ضَيعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِن وَرَائِهِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ.
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ للتَّعَاوُنِ عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وُجُوهًا كَثِيرَةً وَمَيَادِينَ يَصعُبُ حَصرُهَا، غَيرَ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يُرضِي اللهَ أَو تَقُومُ عَلَيهِ لِلمُسلِمِينَ مَصلَحَةٌ، أَو تَحصُلُ لِلمُجتَمَعِ بِهِ مَنفَعَةٌ، فَإِنَّ التَّعَاوُنَ عَلَيهِ وَالتَّعَاضُدَ وَالتَّنَاصُرَ، هُوَ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى، فَنَشرُ العِلمِ وَتَعلِيمُ الجَاهِلِ، وَإسدَاءُ النُّصحِ وَتَذكِيرُ الغَّافِلِ، وَإبدَاءُ الرَّأيِ السَّدِيدِ وَبذلُ المَشُورَةِ الصَّادِقَةِ، وَحُضُورُ الجُمَعِ وَشُهُودُ الجَمَاعَاتِ، وَإِنفَاقُ المَالِ في وُجُوهِ البِرِّ وَتَنوِيعُ الإِحسَانِ إِلى الخَلقِ، وَدَعمُ الأَنشِطَةِ الخَيرِيَّةِ وَالأَعمَالِ الدَّعوِيَّةِ، وَنَشرُ الفِكرِ السَّوِيِّ وَحِرَاسَةُ الفَضِيلَةِ، وَالذَّبُّ عَنِ الأَعرَاضِ وَمُقَاوَمَةُ مَوجَاتِ التَّغرِيبِ وَالإِفسَادِ، وَالأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ، وَإِصلاحُ كُلِّ فَردٍ لِمَا يَلِيهِ وَرِعَايَتُهُ أَمَانَتَهُ؛ إِنَّ كُلَّ هَذَا مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى البِرِّ والتَّقوَى المَأمُورِ بِهِ وَالمَأجُورِ عَلَيهِ.
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: يَكفِي الأُمَّةَ تَعَاوُنًا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ مَا عَاشَتهُ وَتَعِيشُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ من ضَيَاعِ حُقُوقِهَا وَتَعَطُّلِ مَصَالِحِهَا، وَإِنَّ مِن أَظهَرِ ذَلِكَ في عُصُورِنَا المُتَأَخِّرَةِ، تَضيِيعَ المَسؤُولِينَ لأَمَانَاتِهِم، وَغَفلَتَهُم عَن أَدَاءِ وَاجِبِهِم، وَتَقصِيرَ العَامِلِينَ في أَعمَالِهِم، وَتَهَاوُنَ المُوَظِّفِينَ في خِدمَةِ المُرَاجِعِينَ، وَتَأخِيرَ المُعَامَلاتِ وَالإِخلالَ بِالمَشرُوعَاتِ، وَاعتِبَارَ كُلِّ صَاحِبِ مَنصِبٍ مَنَصِبَهُ تَشرِيفًا وَغَفلَتَهُ عَن كَونِهِ تَكلِيفًا، كَيفَ إِذَا أُضِيفَ إِلى ذَلِكَ دَفعُ الرِّشوَةِ وَبَذلُ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَكَتمُ شَهَادَةِ الحَقِّ وَالتَّسَتُّرُ عَلَى المُخَالِفِينَ، وَإِسقَاطُ الحُدُودِ عَنِ المُجرِمِينَ بِشَفَاعَةِ المُدَاهِنِينَ أَو شَهَادَةِ الخَائِنِينَ، وَمُخَاصَمَةُ أَهلِ البَاطِلِ بِبَاطِلِهِم وَهُم يَعلَمُونَ؟! بَل كَيفَ إِذَا مَدَّ بَعضُ أَبنَاءِ المُسلِمِينَ أَيدِيَهُم لِلأَعدَاءِ لإِعَانَتِهِم عَلَى إِفسَادِ المُجتَمَعِ وَهَدَمِ قِيَمِ السَّامِيَةِ وَإِسقَاطِ مُثُلِهِ العُليَا، وَبَذلَ آخَرَونَ أَموَالَهُم وَأَوقَاتَهُم لإِحيَاءِ بِدَعٍ أَو إِقَامَةِ مُنتَدَيَاتٍ مَشبُوهَةٍ أَو أَسوَاقٍ مُختَلَطَةٍ، ثم لم يَكُنْ حَظُّ سَائِرِ الأُمَّةِ إِلاَّ تَقلِيبَ أَعيُنِهِم وَرُؤُوسِهِم، وَالمُدَاهَنَةَ وَالسُّكُوتَ وَالرِّضَا بِالمُنكَرِ وَالتَّسلِيمَ بِهِ؟!
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- فَإِنَّكُم لم تَكُونُوا في عَصرٍ أَحوَجَ إِلى التَّعَاوُنِ عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَالتَّنَاهِي عَنِ الإِثمِ وَالعُدوَانِ، كَمِثلِ هَذَا العَصرِ الَّذِي تَدَاعَت عَلَيكُم فِيهِ قُوَى الشَّرِّ مِن كُلِّ جَانِبٍ، وَتَكَالَبَت عَلَى عَامِّتِكُمُ المُلِمَّاتُ مِن فَقرٍ وَجَهلٍ وَظُلمٍ، وَصَارَ أَمرُ الأَكثَرِينَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَأُوثِرَتِ الدُّنيَا وَأُعجِبَ كُلُّ ذِي رَأيٍ بِرَأيٍهٍ، أَلا فَتَعَاوَنُوا عَلَى إِصلاحِ بُيُوتِكُم وَتَربِيَةِ أَولادِكُم وَحِفظِ نِسَائِكُم، وَتَنَاصَرُوا في قَمعِ أَهلِ الشَّرِّ وَدَفعِ الفَسَادِ عَن مُجتَمَعِكُم، فَإِنَّ المُؤمِنَ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا وَ"ثَلاثُ خِصَالٍ لا يُغِلُّ عَلَيهِنَّ قَلبُ مُسلِمٍ أَبَدًا: إِخلاصُ العَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الأُمرِ، وَلُزُومُ الجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعوَتَهُم تُحِيطُ مِن وَرَائِهِم". رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
وَخُذُوا عَلَى أَيدِي الظَّالِمِينَ بِرَدعِهِم وَمَنعِهِم مِن ظُلمِهِم، وَلا تَأخُذْكُم في ذَلِكَ لَومَةُ لائِمٍ، وَلا يَمنَعَنَّكُم مِنهُ مَدحُ مَادِحٍ أَو قَدحُ قَادِحٍ، قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "اُنصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَو مَظلُومًا"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَنصُرُهُ مَظلُومًا فَكَيفَ أَنصُرُهُ ظَالِمًا؟! قَالَ: "تَحجُزُهُ أَو تَمنَعُهُ مِنَ الظُّلمِ، فَإنَّ ذَلِكَ نَصرُهُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَهُوَ في مُسلِمٍ بِنَحوِهِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجيمِ: (وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللهُ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدنٍ وَرِضوَانٌ مِنَ اللهِ أَكبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ).
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
الخطبة الثانية:
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
الحَمدُ للهِ الَّذِي أَطعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، وَرَزَقَنَا وَأَغنَانَا، وَمِن كُلِّ مَا سَأَلنَاهُ أَعطَانَا، أَحمَدُهُ -تَعَالى- وَأَشكُرُهُ، وَأُثني عَلَيهِ الخَيرَ كُلَّهُ وَلا أَكفُرُهُ، هُوَ أَهلُ الثَّنَاءِ وَأَهلُ المَجدِ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى خَيرِ أَنبِيَائِهِ وَخِيرَتِهِ مِن خَلقِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَنَهجَهُ وَسَارَ بِدَربِهِ.
أَمَّا بَعدُ:
فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَحُرُمَاتِهِ وَشَعَائِرَهُ، واعلَمُوا أَنَّكُم في يَومٍ عَظِيمٍ وَعِيدٍ كَرِيمٍ، خَتَمَ اللهُ بِهِ أَيَّامًا مَعلُومَاتٍ وَلَيَاليَ عَشرًا مُبَارَكَاتٍ، تَتلُوهُ أَيَّامٌ ثَلاثَةٌ مَعدُودَاتٌ، وَكُلُّهَا مِن أَفضَلِ الأَيَّامِ وَأَعظَمِهَا عِندَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "أَعظَمُ الأَيَّامِ عِندَ اللهِ يَومُ النَّحرِ ثُمَّ يَومُ القَرِّ". رَوَاهُ أَحمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "أَيَّامُ التَّشرِيقِ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ وَذِكرٍ للهِ". رَوَاهُ مُسلِمٌ.
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَدِ اجتَمَعَ لَكُمُ اليَومَ عِيدَانِ: عَيدُ الأُسبُوعِ يَومُ الجُمُعَةِ، وَالعِيدُ الأَكبَرِ عَيدُ الأَضحى، وَقَد مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ مَتَى اجتَمَعَتِ الجُمُعَةُ وَالعِيدُ في يَومٍ وَاحِدٍ، سَقَطَ وُجُوبُ الجُمُعَةِ وَحُضُورُهُا عَمَّن صَلَّى العِيدَ، وَيُصَلِّي مَكَانَهَا صَلاةَ الظَّهرِ إِن شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى الجُمُعَةَ وَهُوَ الأَفضَلُ. فَعَن زَيدِ بنِ أَرقَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّ مُعَاوِيَةَ بنَ أَبي سُفيَانَ سَأَلَهُ: هَل شَهِدتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عِيدَينِ اجتَمَعَا في يَومٍ وَاحِدٍ؟! قَالَ: نَعَم، قَالَ: فَكَيفَ صَنَعَ؟! قَالَ: صَلَّى العِيدَ ثم رَخَّصَ في الجُمُعَةِ، فَقَالَ: "مَن شَاءَ أَن يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ"، وَعَن أَبي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- عَن رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "اجتَمَعَ في يَومِكُم هَذَا عِيدَانِ، فَمَن شَاءَ أَجزَأَهُ مِنَ الجُمُعَةِ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ".
عِبَادَ اللهِ: اُذكُرُوا اللهَ ذِكرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مُحمَّدٍ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم