اقتباس
يجِبُ في الخُطْبةِ أن تكونَ جُمَلُها شديدةَ الارتِباطِ قَريبةَ التَّآخي، بحَيثُ لا يَحسُنُ فيها تطويلُ الاستِطرادِ، ولا بُعْدُ مُعادِ الضَّمائِرِ والإشاراتِ ونَحْوِها؛ إذ ليس لذِهْنِ سامِعِها مِنَ التَّمَكُّنِ في التَّفَهُّمِ ما لذِهنِ قارِئِ الرِّسالةِ...
تمهيد:
لا تُعَدُّ الخُطْبةُ من أساليبِ الكِتابةِ وفُنونِها، إلَّا أنَّها فنٌّ نَثْريٌّ تَعبيريٌّ يتَّفِقُ مع الرِّسالةِ في أمورٍ كثيرةٍ، كما أنَّه أحَدُ أنواعِ النَّثْرِ الَّذي يُقابِلُ النَّظْمَ، فَضْلًا عن دَورِ الخَطابةِ وأهمِّيَّتِها في الأدَبِ العَربيِّ؛ لذا آثَرْنا أن نذكُرَها بشَيءٍ مِنَ التَّفصيلِ.
الفَصْلُ الأوَّلُ: تعريفُ الخُطْبةِ
هي كَلامٌ يُحاوَلُ به إقناعُ أصنافِ السَّامِعينَ بصِحَّةِ غَرَضٍ يَقصِدُه المُتكَلِّمُ، لفِعْلِه أو الانفِعالِ به.
فكَلِمةُ: "كَلامٌ" أخرَجَت الرَّسائِلَ والمُكاتَباتِ وغَيرَها، وكَلِمةُ "إقناع السَّامِعينَ" أخرَجَت محاضَراتِ التَّدريسِ؛ فإنَّ غَرَضَها التَّعليمُ لا الإقناعُ، كما يَخرُجُ به ما يكونُ فيه المستَمِعُ واحدًا؛ فإنَّ الخُطْبةَ تُوَجَّهُ إلى عُمومِ النَّاسِ.
وكَلِمةُ "لفِعْلِه أو الانفِعالِ به" أفادت الغَرَضَ المطلوبَ مِنَ الخُطْبةِ؛ فإنَّ الخطيبَ إنَّما يخطُبُ ليتأثَّرَ النَّاسُ بكَلامِه، فيَفعَلوا ما أُمِروا به أو ينتَهوا عمَّا نُهوا عنه، أو ليَبُثَّ في نفوسِهم الحماسةَ والشَّجاعةَ قَبْلَ الحَربِ ونَحْوِها، فلو كان الغَرَضُ مُجَرَّدَ الإعلانِ والإشهارِ لَمَا كانت خُطْبةً.
ولذلك فالخُطْبةُ فَنٌّ من فُنونِ الكَلامِ، غايتُه إقناعُ السَّامِعينَ واستِمالتُهم والتَّأثيرُ فيهم بصَوابِ قضيَّةٍ أو بخطَأِ أُخرى، وبلوغُ مَوضِعِ الاهتمامِ مِن عُقولِهم، ومَوضِعِ التَّأثيرِ في وِجْدانِهم
الفَصْلُ الثَّاني: مَكانةُ الخُطْبةِ في الأدَبِ العَرَبيِّ
حَظِيَت الخَطابةُ في الأدَبِ العَرَبيِّ القَديمِ بمكانةٍ كَبيرةٍ؛ فقد حتَّمَت عليهم اجتِماعاتُهم في حُروبهِم وسِلْمِهم، وعند السِّفاراتِ والوُفودِ، أن يكونَ لهم لِسانٌ يُبَلِّغُ مَقاصِدَهم ومَطالِبَهم، ويؤثِّرُ في المُستَمِعينَ ويَبعَثُهم على الاستِجابةِ لِقَولِه، وكُلَّما كان إفصاحُهم أقوى وأبلَغَ كان تأثيرُه أكبَرَ وأشَدَّ.
وقد سمِعَ عَمرُو بنُ العاصِ زيادَ بنَ أَبِيهِ يخطُبُ في النَّاسِ، فقال: "للهِ دَرُّ هذا الغُلامِ، أمَا واللهِ لو كان أبوه قُرَشيًّا لساق العَرَبُ النَّاسَ بعَصاه!"، وذلك في حَضرةِ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ وأبي سُفْيانَ بنِ حَربٍ.
وقد كان للخُطْبةِ مَواضِعُ عَديدةٌ؛ ففي كُلِّ مُناسَبةٍ مَوضِعٌ للخُطْبةِ؛ ففي الحُروبِ لِبَثِّ الشَّجاعةِ في المحارِبينَ وشَحْذِ هِمَمِهم، وكذلك في السِّلْمِ لحَقْنِ الدِّماءِ وعَقدِ الهُدنةِ والمُصالحةِ، كذلك في الصُّلحِ بَيْنَ القبائِلِ المتنافِرةِ، وأداءِ مَهامِّ السِّفاراتِ مِن جَلبِ المَنفَعةِ أو دَرءِ المضَرَّةِ أو التَّهْنِئةِ أو التَّعْزيةِ.
وكان الخُطَباءُ يَحفِلون بخُطَبِهم، ويتخيَّرون لها أشرَفَ المعاني، وأقوى الألفاظِ، وأشَدَّها وَقعًا على القُلوبِ؛ لِيَكونَ تأثيرُها أعظَمَ. ويقالُ: إنَّهم كانوا يَخطُبون وعليهم العَمائِمُ، وبأيديهم المخاصِرُ، ويعتَمِدون على الأرضِ بالقِسِيِّ، ويُشيرونَ بالعِصِيِّ والقَنا، راكِبينَ أو واقِفينَ على مرتَفَعٍ مِنَ الأرضِ.
وقد كانت الخُطبةُ والشِّعرُ في معارَضةٍ دائِمةٍ ومُنافَرةٍ مُستَمِرَّةٍ، وكَثيرًا ما حسَمَ الصِّدقُ والعاطِفةُ الصَّحيحةُ المنافَسةَ بَيْنَهما بتفضيلِ الخُطْبةِ على الشِّعْرِ؛ خاصَّةً لَمَّا تحوَّل الشِّعْرُ إلى المدْحِ والتَّكسُّبِ والاستِجداءِ به؛ قال ابنُ رشيقٍ: "كان الشَّاعِرُ في مُبتدَأِ الأمرِ أرفَعَ مَنزِلةً مِنَ الخَطيبِ؛ لحاجتِهم إلى الشِّعْرِ في تخليدِ المآثِرِ، وشِدَّةِ العارِضةِ، وحمايةِ العَشيرةِ، وتهيُّبِهم عِنْدَ شاعِرِ غَيرِهم مِنَ القبائِلِ؛ فلا يَقْدَمُ عليهم خوفًا من شاعِرِهم على نَفْسِه وقبيلتِه، فلمَّا تكَسَّبوا به وجَعَلوه طُعْمةً وتوَلَّوا به الأعراضَ وتناوَلوها، صارت الخَطابةُ فَوقَه".
ومع ذلك فلم يُحفَظْ من خُطَبِهم شيءٌ كثيرٌ؛ لأنَّ الشِّعْرَ كان أسرَعَ إلى الحِفْظِ وأعلَقَ بالذِّهْنِ.
ثمَّ لمعَ نَجْمُ الخُطْبةِ مع مَجيءِ الإسلامِ؛ إذْ علا شأْنها وارتقَت فوقَ مَنزلةِ الشِّعرِ الإسلاميِّ، وازدادت مكانتُها سُموقًا أنِ اختَصَّت بالدَّعوةِ إلى الدِّينِ وبَيانِ أركانِه وفضائِلِه ومبادِئِه، وظَلَّ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ثلاثَ عَشْرةَ سَنةً بمكَّةَ يخطُبُ في القوافِلِ والأسواقِ والوُفودِ، يحُثُّ النَّاسَ على الإيمانِ باللهِ، وتَرْكِ الشِّركِ وعِبادةِ الأصنامِ.
ثُمَّ لمَّا هاجر إلى المدينةِ واستقرَّ الإسلامُ قَوِيَت الخَطابةُ أكثَرَ وصارت شَطْرَ الصَّلاةِ في الصَّلواتِ ذاتِ العَدَدِ؛ مِثْلُ الجُمُعةِ، والعيدَينِ، وظُهْرِ يَومِ عَرفةَ، والكُسوفِ والخُسوفِ، والاستِسقاءِ، ونَحْوِ ذلك.
وبعدَ وَفاةِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- واتِّساعِ رُقعةِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ وكَثرةِ الفُتوحاتِ، ترَتَّب على ذلك كَثرةُ الخُطَباءِ في الجُيوشِ والسَّرايا، فَضْلًا عمَّا نجَم مِنَ الحوادِثِ والنَّوائِبِ، كحادثةِ السَّقيفةِ عَقِبَ وَفاةِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وخُطبةِ أبي بكرٍ في الأنصارِ، وما حدث مِنَ الفِتنةِ بَيْنَ الصَّحابةِ، واتخذَ كلُّ حِزبٍ خُطَباءَ وشُعَراءَ.
قال أبو هِلالٍ العَسْكريُّ: "وممَّا يُعرَفُ -أيضًا- مِنَ الخَطابةِ والكِتابةِ أنَّهما مُختصَّتانِ بأمرِ الدِّينِ والسُّلطانِ، وعليهما مَدارُ الدَّارِ، وليس للشِّعرِ بهما اختِصاصٌ. أمَّا الكِتابةُ فعليها مدارُ السُّلطانِ، والخَطابةُ لها الحَظُّ الأوفَرُ منِ أمرِ الدِّينِ؛ لأنَّ الخُطْبةَ شَطرُ الصَّلاةِ -الَّتي هي عِمادُ الدِّينِ- في الأعيادِ والجُمُعاتِ والجَماعاتِ، وتَشتَمِلُ على ذِكرِ المواعِظِ الَّتي يجِبُ أن يَتعهَّدَ بها الإمامُ رعيَّتَه؛ لئلَّا تَدرُسَ مِن قُلوبِهم آثارُ ما أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ مِن ذلك في كِتابِه، إلى غَيرِ ذلك من مَنافِعِ الخُطَبِ".
الفَصْلُ الثَّالِثُ: أُسلوبُ الخُطْبةِ
لمَّا كان غَرَضُ الخُطْبةِ هو التَّأثيرَ في السَّامِعينَ وإقناعَهم للانفِعالِ معه، كان أُسلوبُ الخُطْبةِ قائِمًا على البراهينِ العَقْليَّةِ والأدِلَّةِ الَّتي تحقِّقُ تلك الغايةَ؛ فأُسلوبُ الخَطابةِ يتمَيَّزُ بالجَمْعِ بَيْنَ تقريرِ الحقائِقِ وإثارةِ العواطِفِ، فيَستخدِمُ الفِكْرَ والوِجدانَ ويَنفُذُ منهما إلى الإرادةِ يَدفَعُ بها إلى عَمَلٍ مِنَ الأعمالِ.
ولهذا فالخَطابةُ تُسَمَّى بالفَنِّ العَمَليِّ، أو الفَنِّ الكامِلِ؛ لجَمْعِه بَيْنَ شَخصِيَّتَيِ الخَطيبِ الحِسِّيَّةِ والمَعْنويَّةِ، ولاسْتِخْدامِه جميعَ المواهِبِ الَّتي تؤثِّرُ في السَّامِعينَ، فيُشيرُ بيَدِه ويُحَرِّكُ جَسدَه، وتدُلُّ تعابيرُ وَجْهِه، فَضْلًا عن قُوَّةِ الصَّوتِ وحُسْنِ الإلقاءِ.
وهذا الأُسلوبُ يتَّسِمُ بعِدَّةِ خَصائِصَ، ومنها:
- الصِّفةُ العامَّةُ للأُسلوبِ الخَطابيِّ هي القُوَّةُ، ومَصْدَرُها الأوَّلُ انفِعالُ الخَطيبِ، وقُوَّةُ عَقيدتِه ويَقينِه بما يقولُ، ثُمَّ تظهَرُ في عباراتِه المسجوعةِ أو المُزدَوجةِ وكَلِماتِه المؤثِّرةِ الجَزْلةِ؛ لِتَكونَ مُوسيقا قَويَّةً على تفاوُتٍ في ذلك.
- التَّكرارُ المَعنويُّ جائِزٌ في الخَطابةِ لِتَثبيتِ الأفكارِ في الأذهانِ، وتمكينِ السَّامِعينَ مِنَ الفَهْمِ، والقُوَّةِ والتَّأثيرِ، ولكِنْ لا بُدَّ من تَغييرِ العِباراتِ.
- تنَوُّعُ طُرُقِ الأداءِ؛ حَيثُ يُستَخدَمُ الأُسلوبُ الخَبَريُّ حِينًا، والإنشائيُّ بأنواعِه مِنَ الأمْرِ والنَّهْيِ والاستِفهامِ وغَيرِها أحيانًا أُخرى؛ فذلك أدعى للتركيزِ ولَفْتِ الانتِباهِ.
- الاعتِمادُ على البراهينِ والأدِلَّةِ لتَعضيدِ الرَّأيِ وبَيانِ صِحَّتِه.
- الاعتِمادُ على القِصَصِ والأخبارِ الَّتي تُساعِدُ على الإقناعِ.
- سُهولةُ العِباراتِ والتَّراكيبِ، والبُعْدُ عن التَّصويراتِ والتَّراكيبِ الَّتي تحتاجُ إلى تفكيرٍ وإعادةِ نَظَرٍ؛ إذ طَبيعةُ الخُطْبةِ المسموعةِ تَقتَضي ذلك، بخِلافِ النَّثْرِ المكتوبِ الَّذي يُتيحُ للقارِئِ مُعاودةَ النَّظَرِ، والمُهلةَ في التَّفكيرِ.
- يَستخدِمُ الخَطيبُ بَدَلًا مِن علاماتِ التَّرقيمِ النَّبْرَ الصَّوتيَّ؛ للدَّلالةِ على النُّقَطِ الهامَّةِ، والانتِقالِ بعِنايةٍ مِن جُزئيَّةٍ لأُخرى، ومِن عُنصُرٍ لآخَرَ.
- يختَلِفُ مُستوى الأداءِ باختِلافِ السَّامِعينَ؛ فهم مِقياسُ مستوى اللُّغةِ ودَرَجتِها، فإذا كانوا مِنَ الخاصَّةِ ارتقى الخِطابُ بدَرَجتِهم، وإن كانوا مِنَ العامَّةِ كان الخِطابُ سَهْلًا بَسيطًا لا ينحَدِرُ إلى الرَّكاكةِ والسُّوقيَّةِ والابتِذالِ
الفَصْلُ الرَّابِعُ: عناصِرُ الخُطْبةِ
تَنْبني الخُطْبةُ على ثلاثةِ أركانٍ لا بُدَّ منها، وهي:
1- المُقَدِّمةُ: وهي افتِتاحُ الخُطْبةِ الَّتي بها يَستَهِلُّ الخَطيبُ كَلامَه، فتُنصِتُ له الآذانُ، وتتطَلَّعُ له العُيونُ، وتتَعَلَّقُ به القُلوبُ. ويُشتَرَطُ فيها أن تكونَ مُوجَزةً جَذَّابةً ترتَبِطُ بالموضوعِ.
ولا بُدَّ أن تتوافَرَ في المُقَدِّمةِ ثلاثةُ أشياءَ:
أ- الدِّيباجةُ: وهي فاتِحةُ الخُطْبةِ، تَشتَمِلُ على حَمدِ اللهِ تعالى والصَّلاةِ على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، ونَحْوِ ذلك. فإذا خَلَت خُطْبةٌ مِنَ الحمَدِ سُمِّيَت (بتراءَ)، وإن خَلَت مِنَ الصَّلاةِ على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كانت شَوْهاءَ.
ويُستحسَنُ في الدِّيباجةِ أن تكونَ مُوجَزةً لها ارتِباطٌ بمقصودِ الكَلامِ، وذلك براعةُ الاستِهْلالِ؛ فإذا كانت الخُطْبةُ في فَتْحِ بَلَدٍ مَثَلًا يقالُ: (الحَمْدُ للهِ الَّذي صدَقَ وَعْدَه، ونَصَر عَبْدَه، وأعَزَّ جُنْدَه، وهَزَم الأحزابَ وَحْدَه)، وإذا كانت في بَيعةِ خليفةٍ مَثَلًا، قال: (الحَمدُ للهِ مالِكِ المُلْكِ، يُؤتي المُلْكَ مَن يَشاءُ ويَنزِعُه ممَّن يَشاءُ، ويُعِزُّ من يَشاءُ ويُذِلُّ من يَشاءُ).
ب- التَّخَلُّصُ: وهو التَّخَلُّصُ مِنَ المُقَدِّمةِ إلى الموضوعِ، وهو فَصْلُ الخِطابِ، وقَولُ الخَطيبِ: (أمَّا بَعْدُ).
ج- المُقَدِّمةُ: وهي بدايةُ الخُطْبةِ في الحقيقةِ، وهو الكَلامُ الَّذي يُقصَدُ منه تهيئةُ النُّفوسِ لتلَقِّي ما سيُلقى إليهم باهتِمامٍ.
2- الغَرَضُ: وهو مَوضوعُ الخُطْبةِ ومَقصَدُها الَّذي قام له الخَطيبُ لِيَخطُبَ، ويتكوَّنُ الغَرَضُ من عُنصُرينِ رَئيسَينِ:
* البَيانُ: أيْ بَيانُ الغَرَضِ وذِكْرُ الأدِلَّةِ والبراهينِ، وتفنيدُ مَزاعِمِ الآخَرينَ، وسَوقُ القِصَصِ والأخبارِ والأحاديثِ.
* الغايةُ: وهي التَّحريضُ أو الإنذارُ أو الوعيدُ وغَيرُ ذلك، ويكونُ في آخِرِ الخُطْبةِ بَعْدَ انتِهاءِ بَيانِه، وقد تتقَدَّمُ في أوَّلِ الخُطْبةِ.
3- الخاتِمةُ: ويحسُنُ فيها أن تكونَ كَلامًا جامِعًا لِما تقَدَّمه، أو إشارةً إلى أنَّه قد أتى على المقصودِ وانتهى منه، أو أمرًا بالتَّثبيتِ، أو دُعاءً أو نَحْوَ ذلك، وإنَّما يكونُ ذلك عِنْدَ إتيانِ الكَلامِ المتقَدِّمِ على الغَرَضِ المقصودِ واستيفائِه.
الفَصْلُ الخامِسُ: ما يحتاجُ إليه الخَطيبُ في خُطْبتِه
لم تَزَلِ الخُطْبةُ مِن قديمٍ تعتَمِدُ على القُرآنِ والسُّنَّةِ، حتَّى إنَّهم سمَّوُا الخُطْبةَ الَّتي لم يتخَلَّلْها شَيءٌ مِنَ القُرآنِ الكريمِ (شَوْهاءَ)؛ قال عِمْرانُ بنُ حِطَّانَ: خطَبْتُ عِنْدَ زيادٍ خُطْبةً ظَنَنْتُ أنِّي لم أقصِّرْ فيها عن غايةٍ، ولم أدَعْ لطاعنٍ عِلَّةً، فمَرَرْتُ ببَعْضِ المجالِسِ فسَمِعْتُ شَيخًا يقولُ: هذا الفَتى أخْطَبُ العَرَبِ لو كان في خُطبتِه شَيءٌ مِنَ القُرآنِ!
الفَصْلُ السَّادِسُ: شُروطُ الخَطيبِ
اعتادت العربُ أن تَسمَعَ مِنَ الشُّعَراءِ أيًّا كانت طبيعتُهم، فيَسمَعونَ الحِكْمةَ مِنَ الماجِنينَ مِنَ الشُّعَراءِ، كامْرئِ القَيسِ والأعشى؛ وذلك لِما لطبيعةِ الشِّعْرِ مِن جاذبيَّةٍ وسِحرٍ يجلِبُ إليه أسماعَ النَّاسِ وعُقولَهم، أمَّا الخُطْبةُ فلم تكُنْ بنَفسِ دَرَجةِ القَبولِ لدَرَجةِ أن يُؤثِّرَ فيهم أيُّ خَطيبٍ؛ إذ كانت الخُطْبةُ تعتَمِدُ على التَّأثيرِ والإقناعِ، فكان لا بُدَّ أن تتوافَرَ في الخَطيبِ صِفاتٌ تجعَلُه قُدوةً وأهلًا لأن يُسمَعَ منه، فَضْلًا عمَّا يَتوافَرُ في الخُطْبةِ نَفْسِها مِنَ الشُّروطِ الَّتي تحُثُّ على الانفِعالِ والتَّركيزِ.
فيُشتَرَطُ في الخَطيبِ:
- صِحَّةُ الطَّبعِ وجَوْدةُ القَريحةِ؛ إذ كُلُّ تلك الأُمورِ لا قيمةَ لها إلَّا إذا كان الخَطيبُ مَطبوعًا على البَيانِ، قادِرًا على إخضاعِ زِمامِ الكَلِماتِ له.
- العِفَّةُ والنَّزاهةُ.
- الوَقارُ والصَّونُ عن الابتِذالِ في مُعاشَرةِ القَومِ، وعَدَمُ الإكثارِ مِنَ الهَزْلِ والسُّخْفِ والفُحْشِ، والخِفَّةِ والطَّيْشِ.
- النَّزاهةُ عن الطَّمَعِ في جَرِّ نَفعٍ مِن كَلامِه؛ فإنَّ في ذلك نُفْرةً عن اتِّعاظِ النَّاسِ بقَولِه، وظِنَّةً في صِدقِ دَعوتِه.
- سَلاسةُ المَنطِقِ والقُدرةُ على التَّعبيرِ والأداءِ؛ فكم من بليغِ القَلَمِ عَيِيِّ اللِّسانِ، يجودُ بَنانُه بما يَبخَلُ به لِسانُه.
- رَباطةُ الجَأشِ: فقد يَذهَلُ العَقلُ أمامَ جُموعِ النَّاسِ ويُرْتَجُ على الخَطيبِ فلا يَنطِقُ ببِنتِ شَفَةٍ.
- أن يكونَ مَرموقًا مِنَ السَّامِعينَ، له مَكانةٌ فيهم لكي يمتَثِلوا أمْرَه ونَهْيَه؛ وذلك بأن يكونَ شَريفًا نَسيبًا، طاهِرَ الذَّيلِ، نَقِيَّ السِّيرةِ والسَّريرةِ، مَحفوظَ العِرْضِ.
الفَصْلُ السَّابِعُ: كيفيَّةُ إتقانِ الخُطْبةِ
إذا وَجَد الإنسانُ مِن نَفْسِه قُدرةً على التَّعبيرِ، وأحسَّ بمَوهِبةٍ في الخَطابةِ وإقناعِ الجَماهيرِ وجَذْبِ انتِباهِهم إلى حَديثِه، وأراد أن يُنمِّيَ تلك المَوهِبةَ فيه؛ فإنَّ عليه أن يَحرِصَ على ثَلاثةِ أُمورٍ:
1- الإلمامُ بالأُصولِ والقواعِدِ الَّتي تقومُ عليها الخُطْبةُ مِنَ العناصِرِ والشُّروطِ والأُسلوبِ، وغيرِ ذلك مِمَّا ذكَرْناه.
2- الاطِّلاعُ على نماذِجَ بليغةٍ مِنْ خُطَبِ البُلَغاءِ الفُصَحاءِ في الجاهِليَّةِ والإسلامِ والعَصْرِ الحَديثِ.
3- كَثرةُ التَّدَرُّبِ على الخَطابةِ، وتنويعُ الأُسلوبِ، ومُراعاةُ أفهامِ النَّاسِ وأذواقِهم ومُستوى لُغَتِهم؛ فإنَّ اللِّسانَ عُضوٌ إنْ مَرَّنْتَه مَرُنَ؛ كاليَدِ تُخَشِّنُها الممارَسةُ، والبَدَنِ يُقَوِّيه رَفْعُ الحَجَرِ.
وهذا التَّدَرُّبُ يَحصُلُ بأشياءَ:
- المذاكَرةُ وضَبطُ الغَرَضِ المرادِ التَّكَلُّمِ فيه، وتصَوُّرُ الغايةِ منه، وحُسْنُ فَهْمِه، والإحاطةُ بما ينبغي أن يُقالَ فيه مِنَ المعاني، وترتيبُها على وَجهٍ يَحسُنُ فيه التَّخَلُّصُ مِن فِكرةٍ لأُخرى.
- التَّكريرُ؛ لِتَرسيخِ الأفكارِ والألفاظِ، ومُراجَعةِ ما فات، والتَّنَبُّهِ لِما أخطَأَ فيه أو سها عنه.
- اختيارُ ساعةِ نَشاطِ البالِ؛ فإنَّ العَقْلَ وَقْتَها أنشَطُ وأكثَرُ حُضورًا وتركيزًا، وأقدَرُ على تطويعِ الألفاظِ للمَعاني، وأبعَدُ عن السَّآمةِ والمَلَلِ.
- تقويةُ الذَّاكرةِ، وذلك بتقليلِ الاعتِمادِ على الكِتابةِ، وكَثرةِ الاعتِمادِ على الحافِظةِ، وتَسهيلِ أمْرِ الحِفْظِ بجَعلِ الموضوعِ في عناصِرَ قَليلةٍ يَحسُنُ حِفْظُها والتَّسَلْسُلُ فيها.
- المواظَبةُ: فلا بُدَّ أن يَستَمِرَّ المتدَرِّبُ على ذلك، ولا يَمَلَّ مِن كَثرةِ التَّدَرُّبِ، ولا يهابَ الموقِفَ فيَمتَنِعَ، ولا يكتَرِثَ مِن عَدَمِ الإجادةِ في أوَّلِ الأمرِ.
الفَصْلُ الثَّامِنُ: بَيْنَ الرِّسالةِ والخُطْبةِ
تتَّفِقُ الرِّسالةُ مع الخُطْبةِ في أنَّهما فَنٌّ نَثْريٌّ بليغٌ، وكُلٌّ منهما لا يَلحَقُه وَزنٌ ولا تَقْفيةٌ، وقد يتشاكَلانِ أيضًا مِن جِهةِ الألفاظِ والفواصِلِ؛ فألفاظُ الخُطَباءِ تُشبِهُ ألفاظَ الكُتَّابِ في السُّهولةِ والعُذوبةِ، وكذلك فواصِلُ الخُطَبِ مِثلُ فواصِلِ الرَّسائِلِ، إلَّا أنَّ ثمَّةَ فُروقًا تَفصِلُ بَيْنَ الرِّسالةِ والخُطْبةِ؛ منها:
- طبيعةُ كُلٍّ منهما؛ فإنَّ الرِّسالةَ بطَبيعتِها المقروءةِ تختَلِفُ في نَظْمِها وترقيمِها عن الخُطْبةِ المسموعةِ الَّتي لا بُدَّ فيها مِنِ استرسالِ الكَلامِ وعَدَمِ صُعوبتِه بما يُلجِئُ السَّامِعَ إلى التَّفَكُّرِ في معنى اللَّفْظِ بما يُفَوِّتُ عليه إدراكَ ما بَعْدَه.
- أنَّ الخَطابةَ يُشافَهُ بها جَمعٌ مِنَ النَّاسِ؛ فهي من هذا الوَجهِ أَولى باستِعمالِ الألفاظِ السَّهْلةِ التَّناوُلِ للجُمهورِ، مع بَساطةِ المعاني وقِلَّةِ تَركيبِها والإغرابِ فيها.
- يجِبُ في الخُطْبةِ أن تكونَ جُمَلُها شديدةَ الارتِباطِ قَريبةَ التَّآخي، بحَيثُ لا يَحسُنُ فيها تطويلُ الاستِطرادِ، ولا بُعْدُ مُعادِ الضَّمائِرِ والإشاراتِ ونَحْوِها؛ إذ ليس لذِهْنِ سامِعِها مِنَ التَّمَكُّنِ في التَّفَهُّمِ ما لذِهنِ قارِئِ الرِّسالةِ.
- أنَّ السَّجْعَ الَّذي هو فَنٌّ مِن فُنونِ الإنشاءِ لا يَحسُنُ كُلَّ الحُسْنِ في الخَطابةِ، خُصوصًا الخَطابةَ الَّتي تُقالُ لجَماهيرِ النَّاسِ وعامَّتِهم؛ لأنَّ السَّجْعَ لا يخلو عن تكَلُّفِ ألفاظٍ تَحجُبُ ذِهْنَ السَّامِعينَ عن كَمالِ فَهْمِ المعاني، فإنِ اغتُفِرَ فيها السَّجْعُ فإنَّما هو ما يَقَعُ عَفْوًا بلا تكَلُّفٍ، أي السَّجْعُ الَّذي يَطلُبُ المُتكَلِّمَ لا الَّذي يَطلُبُه المُتكَلِّمُ.
الفَصْلُ التَّاسِعُ: نماذِجُ مِن عُيونِ الخُطَبِ العَرَبيَّةِ
خُطْبةُ أبي طالِبٍ في زَواجِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مِن خَديجةَ بِنتِ خُوَيلِدٍ -رَضِيَ اللهُ عنها-:
لمَّا أراد النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أن يخطُبَ خَديجةَ -رَضِيَ اللهُ عنها-، أخذ معه عَمَّه أبا طالِبٍ، وهو الَّذي خَطَب خُطْبةَ النِّكاحِ، فقام وقال: "الحَمْدُ للهِ الَّذي جعَلَنا مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ، وزَرْعِ إسماعيلَ، وضِئْضِئِ مَعَدٍّ، وعُنصُرِ مُضَرَ، وجعَلَنا حَضَنةَ بَيتِه، وسُوَّاسَ حِزْبِه، وجعل لنا بَيتًا محجوجًا وحَرَمًا آمِنًا، وجعَلَنا الحُكَّامَ على النَّاسِ.
ثمَّ إنَّ ابنَ أخي هذا محمَّدَ بنَ عَبدِ اللهِ لا يُوزَنُ به رجلٌ إلَّا رَجَح به؛ فإن كان في الكَمالِ قُلٌّ، فإنَّ المالَ ظِلٌّ زائِل، وأمرٌ حائِل، ومحمَّدٌ مَن قد عرَفْتُم قَرابَتَه، وقد خَطَب خَديجةَ بِنتَ خُوَيلِدٍ، وبَذَل لها مِنَ الصَّداقِ ما آجِلُه وعاجِلُه مِن مالي، وهو واللهِ بَعْدَ هذا له نَبَأٌ عَظيمٌ، وخَطَرٌ جَليلٌ".
خُطْبةُ قُسِّ بنِ ساعِدةَ:
يُعَدُّ قُسُّ بنُ ساعِدةَ مِن أشهَرِ الخُطَباءِ في الجاهِليَّةِ، وقد كان يخطُبُ في النَّاسِ في سُوقِ عُكاظٍ، وكان أسقُفَ نَجرانَ، وقد أدركَه النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ورآه في سُوقِ عُكاظٍ قَبْلَ بَعْثَتِه.
ومِن أشهَرِ خُطَبِه: "يا أيُّها النَّاسُ، اجتَمِعوا واسْمَعوا وعُوا، مَن عاشَ مات، ومَن ماتَ فات، وكُلُّ ما هو آتٍ آت.
ثُمَّ قال: أَمَّا بَعْدُ، فإنَّ في السَّماءِ لخَبَرًا، وإنَّ في الأرضِ لعِبَرًا، نجومٌ تَغور، وبِحارٌ تَمور ولا تَغور، وسَقْفٌ مَرْفوع، ومِهادٌ مَوضوع، أقسَمَ قُسٌّ قَسَمًا باللهِ وما أَثِم، لتَطلُبُنَّ مِنَ الأمْرِ شَحَطًا، ولَئِنْ كان بَعْضُ الأمرِ رِضًا إنَّ للهِ في بَعْضِه سَخَطًا، وما بهذا لَعِبًا، وإنَّ مِن وَراءِ هذا عَجَبًا.
يا مَعْشَرَ إياد، أينَ ثَمودُ وعاد؟ وأين الآباءُ والأجداد؟ أينَ المَعروفُ الَّذي لم يُشْكَرْ، والظُّلْمُ الَّذي لم يُنكَرْ؟ أقسمَ قُسٌّ قَسَمًا باللهِ وما أَثِم، إنَّ للهِ دِينًا هو أَرضى مِن دِينٍ نحن عليه، ما بالُ النَّاسِ يَذهَبونَ فلا يَرجِعون، أَنَعِمُوا فأقاموا، أو تُرِكوا فناموا؟
في الذَّاهِبينَ الأوَّليـ *** ـنَ مِنَ القُرونِ لنا بَصائِرْ
لَمَّا رَأيتُ مَواردًا *** للمَوتِ ليس لها مَصادِرْ
ورَأيتُ قَومي نَحْوَها *** يَمضي الأصاغِرُ والأكابِرْ
لا يَرجِعُ الماضي ولا *** يَنْجو مِنَ الباقينَ غابِرْ
أيقَنْتُ أنِّي لا محا *** لةَ حَيثُ صار القَومُ صائِرْ"
أوَّلُ خُطْبةٍ للنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-:
ذكَرَت كُتُبُ السِّيرةِ أنَّ أوَّلَ خُطْبةِ جُمُعةٍ خَطَبها النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في المدينةِ كانت في بني سالِمِ بنِ عَمْرِو بنِ عَوفٍ، وكان نصُّها: "الحَمْدُ للهِ، أحمَدُه وأستعينُه، وأستَغْفِرُه وأستَهْديه، وأؤمِنُ به ولا أكفُرُه، وأعادي من يَكفُرُه، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمَّدًا عَبْدُه ورَسولُه، أرسَلَه بالهُدى ودينِ الحَقِّ والنُّورِ والموعِظةِ، على فَترةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وقِلَّةٍ مِنَ العِلْمِ، وضَلالةٍ مِنَ النَّاسِ، وانقِطاعٍ مِنَ الزَّمانِ، ودُنُوٍّ مِنَ السَّاعةِ، وقُربٍ مِنَ الأجَلِ.
مَن يُطِعِ اللهَ ورَسولَه فقد رَشَد، ومن يَعْصِهما فقد غَوى وفَرَّط وضَلَّ ضَلالًا بَعيدًا.
وأُوصيكم بتقوى اللهِ؛ فإنَّه خَيرُ ما أوصى به المُسلِمُ المُسلِمَ أن يَحُضَّه على الآخِرةِ، وأن يأمُرَه بتقوى اللهِ؛ فاحْذَروا ما حَذَّركم اللهُ مِن نَفْسِه، ولا أفضَلَ مِن ذلك نصيحةً ولا أفضَلَ مِن ذلك ذِكْرى، وإنَّه تقوى لِمَن عَمِلَ به على وَجَلٍ ومخافةٍ، وعَونِ صِدقٍ على ما تَبْتَغون مِن أمرِ الآخِرةِ.
ومَن يُصلِحِ الَّذي بَيْنَه وبَيْنَ اللهِ مِن أمْرِ السِّرِّ والعَلانيَةِ لا ينوي بذلك إلَّا وَجْهَ اللهِ، يَكُنْ له ذِكْرًا في عاجِلِ أمْرِه، وذُخرًا فيما بَعْدَ الموتِ؛ حينَ يفتَقِرُ المرءُ إلى ما قَدَّم، وما كان مِن سِوى ذلك يَوَدُّ لو أنَّ بَيْنَه وبَيْنَه أمَدًا بعيدًا، ويُحَذِّرُكم اللهُ نَفْسَه، واللهُ رَؤوفٌ بالعِبادِ.
والَّذي صَدَق قَولُه وأنجَزَ وَعْدَه لا خُلْفَ لذلك؛ فإنَّه يقولُ تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29].
واتَّقوا اللهَ في عاجِلِ أَمْرِكم وآجِلِه في السِّرِّ والعَلانِيَةِ؛ فإنَّه مَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عنه سيِّئاتِه ويُعْظِمْ له أجْرًا، ومَن يَتَّقِ اللهِ فقد فاز فَوزًا عظيمًا، وإنَّ تَقْوى اللهَ تُوقِي مَقْتَه، وتُوقي عُقوبتَه، وتُوقي سَخَطَه، وإنَّ تَقْوى اللهِ تُبَيِّضُ الوَجْهَ، وتُرضي الرَّبَّ، وتَرفَعُ الدَّرَجةَ.
خُذوا بحَظِّكم ولا تُفَرِّطوا في جَنْبِ اللهِ، قد علَّمَكم اللهُ كِتابَه، ونَهَج لكم سَبيلَه؛ لِيَعلَمَ الَّذين صَدَقوا وليَعلَمَ الكاذِبينَ، فأحْسِنوا كما أحسَنَ اللهُ إليكم، وعادُوا أعداءَه، وجاهِدوا في اللهِ حَقَّ جِهادِه، هو اجتباكم وسمَّاكم المُسلِمينَ؛ لِيَهلِكَ مَن هَلَك عن بَيِّنةٍ، ويَحيا مَن حَيَّ عن بيِّنةٍ، ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ، فأكثِروا ذِكْرَ اللهِ، واعمَلوا لِما بَعْدَ الموتِ؛ فإنَّه مَن أصلَحَ ما بَيْنَه وبَيْنَ اللهِ، يَكْفِه ما بَيْنَه وبَيْنَ النَّاسِ؛ ذلك بأنَّ اللهَ يَقْضي على النَّاسِ ولا يَقْضون عليه، ويَملِكُ مِنَ النَّاسِ ولا يَملِكون منه. اللهُ أكبَرُ، ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ العَليِّ العَظيمِ!".
خُطْبةُ الوداعِ:
وَقَف النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على عَرَفاتٍ في حَجَّةِ الوداعِ في السَّنةِ العاشِرةِ مِنَ الهِجْرةِ، فخَطَب في النَّاسِ وهو راكِبٌ على القَصْواءِ، فقال بَعْدَ أنْ حَمِدَ اللهَ وأثْنَى عليه: "إنَّ دِماءَكم وأمْوالَكم حَرامٌ عليكم، كحُرْمةِ يَومِكم هذا، في شَهْرِكم هذا، في بَلَدِكم هذا، ألَا كُلُّ شَيءٍ مِن أمْرِ الجَاهلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوضوعٌ، ودِماءُ الجاهلِيَّةِ مَوضوعةٌ، وإنَّ أوَّلَ دَمٍ أضَعُ مِن دِمائِنا دَمُ ابنِ رَبِيعةَ بنِ الحارِثِ؛ كان مُسْتَرْضَعًا في بَني سَعدٍ فقَتَلَتْه هُذَيلٌ، ورِبَا الجاهلِيَّةِ مَوضوعٌ، وأوَّلُ رِبًا أضَعُ رِبَانا؛ رِبَا عبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ؛ فإنَّهُ مَوضوعٌ كُلُّه. فاتَّقوا اللهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكم أخَذْتُمُوهنَّ بأمانِ اللهِ، واسْتَحْلَلْتُم فُروجَهنَّ بكَلِمةِ اللهِ، ولكم عَليهنَّ ألَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحَدًا تَكْرَهونَه، فإِنْ فَعَلْنَ ذلكَ فاضْرِبوهنَّ ضَرْبًا غيْرَ مُبَرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رِزْقُهنَّ وكِسْوتُهنَّ بالمَعروفِ، وقَدْ ترَكْتُ فيكم ما لنْ تَضِلُّوا بَعْدَه إنِ اعتَصَمْتُم به: كِتابَ اللهِ. وأنْتُمْ تُسأَلونَ عنِّي؛ فما أنتم قائِلونَ؟ قالوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قدْ بلَّغْتَ، وأدَّيْتَ، ونصَحْتَ، فقال بإصْبَعِه السَّبَّابةِ يَرْفَعُها إلى السَّماءِ ويَنْكُتُها إلى النَّاسِ: اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ- ثَلاثَ مرَّاتٍ".
خُطْبةُ الحَجَّاجِ بنِ يُوسُفَ الثَّقَفيِّ حينَ تولَّى حُكْمَ العِراقِ:
لَمَّا بَعَث عَبدُ المَلِكِ بنُ مَروانَ الحَجَّاجَ بنَ يُوسُفَ على الكوفةِ والبَصْرةِ، دخل الحَجَّاجُ المَسجِدَ وهو مُتلَثِّمٌ، وأَمَر أن يُجمَعَ له النَّاسُ، فاجتَمَعوا وقام خطيبًا في النَّاسِ، فنَزَع اللِّثامَ عن وَجْهِه، وأنشَدَ:
أنا ابنُ جَلَا وطلَّاعُ الثَّنايا *** متى أضَعِ العِمامةَ تَعْرِفوني
ثمَّ قال: "يا أهْلَ الكُوفةِ، أمَا واللهِ إنِّي لأحمِلُ الشَّرَّ بِحمْلِه، وأحْذُوه بنَعْلِه، وأجْزيه بمِثْلِه، وإنِّي لأرى رُؤوسًا قد أينَعَت وحان قِطافُها، وإنِّي لَصاحِبُها، وكأنِّي أنظُرُ إلى الدِّماءِ بَيْنَ العَمائِمِ واللِّحَى، ثُمَّ قال:
هذا أوانُ الشَّدِّ فاشتَدِّي زِيَمْ *** قد لَفَّها اللَّيلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ
ليس براعي إبِلٍ ولا غَنَمْ *** ولا بجَزَّارٍ على ظَهْرِ وَضَمْ
إنِّي -واللهِ- يا أهْلَ العِراق، ومَعْدِنَ الشِّقاقِ والنِّفاق، ومَساوِئِ الأخلاق، ما يُقعْقَعُ لي بالشِّنانِ، ولا يُغمَزُ جانبي كتَغْمازِ التِّينِ، ولقد فُرِزْتُ عن ذَكاءٍ، وفُتِّشْتُ عن تَجْربةٍ، وإنَّ أميرَ المؤمِنينَ -أطال اللهُ بقاءَه- نَثَر كِنانَتَه بَيْنَ يَدَيه، فعَجَم عِيدانَها، فوَجَدني أمرَّها عُودًا، وأصلَبَها مَكْسِرًا، فرماكم بي؛ لأنَّكم طالَما أوضَعْتُم في الفِتنةِ، واضطجَعْتُم في مراقِدِ الضَّلالِ، واللهِ لأحزِمَنَّكم حَزْمَ السَّلَمةِ، ولأضرِبَنَّكم ضَرْبَ غرائِبِ الإبِلِ؛ فإنَّكم لكَأَهلِ قريةٍ كانت آمِنةً مُطمَئِنَّةً يأتيها رِزْقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ، فكفَرَت بأنعُمِ اللهِ فأذاقها اللهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوفِ بما كانوا يَصْنَعون، وإنِّي واللهِ ما أقولُ إلَّا وَفَيتُ، ولا أَهُمُّ إلَّا أمضَيْتُ، ولا أخلُقُ إلَّا فَرَيتُ، فإيَّاي وهذه الشُّفَعاءَ، والزَّرافاتِ والجَماعاتِ، وقالًا وقِيلًا. وما يقولون؟ وفيمَ أنتم وذاك؟ واللهِ لتَستقيمُنَّ على طريقِ الحَقِّ، أو لأدَعَنَّ لكلِّ رَجُلٍ منكم شُغلًا في جَسَدِه.
وإنَّ أميرَ المؤمِنينَ أمَرَني بإعطائِكم أُعْطِياتِكم، وأن أوَجِّهَكم لمحارَبةِ عَدُوِّكم مع المهَلَّبِ بنِ أبي صُفْرةَ، وإنِّي أقسِمُ باللهِ لا أجِدُ رَجُلًا تخلَّفَ بَعْدَ أخْذِ عَطائِه بثلاثةِ أيَّامٍ إلَّا ضرَبْتُ عُنُقَه.
يا غُلامُ، اقرَأْ عليهم كِتابَ أميرِ المُؤمِنينَ. فقرأ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ. مِن عَبدِ اللهِ عَبدِ المَلِكِ أميرِ المؤمِنينَ إلى مَن بالكوفةِ مِنَ المُسلِمينَ، سلامٌ عليكم" فلم يَقُلْ أحَدٌ منهم شَيئًا، فقال الحَجَّاجُ: اكفُفْ يا غُلامُ، ثُمَّ أقبَل على النَّاسِ، فقال: أسَلَّمَ عليكم أميرَ المؤمِنينَ، فلم ترُدُّوا عليه شيئًا؟! هذا أدَبُ ابنِ نِهْيةَ! أمَا واللهِ لأؤدِّبَنَّكم غَيرَ هذا الأدَبِ أو لتَستقيمُنَّ. اقرَأْ يا غُلامُ كِتابَ أميرِ المُؤمِنينَ، فلمَّا بلغ إلى قَولِه: "سلامٌ عليكم" لم يَبْقَ في المسجِدِ أحَدٌ إلَّا قال: وعلى أميرِ المؤمِنينَ السَّلامُ".
المصدر/ الدرر السنية
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم