خصائص وفضائل الأمة المحمدية

خالد بن علي الغامدي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ وجوب التصدي لموجات اليأس والإحباط 2/ مفاسد الهزيمة النفسيَّة التي دبَّت في قلوبِ كثيرٍ من المُسلمين 3/ العاقبة للمُتَّقين 4/ النصر والتمكين لهذه الأمة لا محالة 5/ ذكر بعض الخصائص والفضائل لهذه الأمة في الدنيا والآخرة

اقتباس

نحن أمَّةُ محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - من شرقِها إلى غربِها لا يجوزُ لها أن تيأَسَ ولا أن تبتَئِس، ولا ينبغي لها أن تقعَ فريسةَ الإحباطِ واليأسِ المُهلِك الذي يشُلُّ تفكيرَها ويُعطِّل طاقاتِها وقُدراتِها، ويُفقِدُها الأملَ والرجاءَ بسببِ ما يفعلُه الكائِدُون والطُّغاةُ المُجرِمون، وبسبب ما تُشاهِدُه وتسمَعُه كلَّ يومٍ من مشاهِد الأسَى والألَمِ والقتلِ، التي تُساهِمُ وسائلُ الإعلام المُختلفة والتواصُل الاجتماعيُّ مُساهمةً فاعلةً في نشرِها، لتزيدَ من مُعاناةِ المُسلمين إرجافًا وإرهابًا وإضعافًا.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا وسيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يًضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله -، واعلَموا أن المُتَّقين هم أكرمُ الخلقِ على الله وأحبُّهم إليه، وأولاهُم بالنصر والتأييد الإلهيِّ والعطاءِ الربَّانيِّ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3].

 

أيها المسلمون:

تمرُّ أمةُ الإسلام اليوم بمرحلةٍ تاريخيَّةٍ غير مسبُوقة؛ حيث تتوالَى الأحداثُ الضِّخام والمُتغيِّراتُ السريعة التي تدَعُ الحليمَ حيران. ويزدادُ كيدُ الأعداء وتربُّصُهم، مما جعلَ اليأسَ والوهَنَ يسرِي في قلوبِ كثيرٍ من أبناءِ الأمة، ودبَّ إلى بعضِهم الحُزنُ والشعورُ بالإحباطِ والعجزِ، وهم يرَون مكرَ الحاقِدين وقوَّتهم وجلَدَهم، ويُشاهِدون صُورَ القتل والدمار والتشريد، مع تلبُّسِ نفَرٍ من أبناءِ الأمة بأفكارِ الخوارِج والتفجير والتكفير.

 

حتى تكوَّنَت عند فِئامٍ من الناسِ صُورةٌ قاتِمةٌ كئيبةٌ لحالِ الأمة الإسلامية ومُستقبلِها، وأحاطَت بهم خيالاتُ الوهمُ المُحبِط والهزيمة النفسيَّة.

 

ولقد حذَّرَنا الله - سبحانه وتعالى - في آياتٍ كثيرةٍ من الوقوع في حالةِ الوهَن هذه، والشعورِ باليأسِ والحُزن؛ حيث قال - سبحانه -: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139]، وقال - سبحانه -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا) [آل عمران: 146]، وقال - سبحانه -: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) [آل عمران: 196، 197]، وقال - سبحانه -: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87].

 

وأخبرَنا - سبحانه وتعالى - أن سُنَّته التي لا تتبدَّلُ، وعادتَه التي لا تتغيَّر أنه يُديلُ على عبادِه المُؤمنين بالابتِلاء والضَّعفِ، ثم تكونُ لهم العاقِبةُ والنصرُ والتمكينُ، ويُهلِكُ أعداءَهم ببأسِه الشديد وعذابِه المُهِين.

 

فأين هي عادٌ الأولى، وثمودُ، وقومُ إبراهيم، وقومُ لُوط، وفرعونُ، وأصحابُ الأيْكَة، وصنادِيدُ الكفر في قريش؟! أبادَهم العزيزُ الجبَّار، ونصرَ عبادَه المُؤمنين وأنبياءَه ورُسُلَه.

 

أيها المسلمون:

نحن أمَّةُ محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - من شرقِها إلى غربِها لا يجوزُ لها أن تيأَسَ ولا أن تبتَئِس، ولا ينبغي لها أن تقعَ فريسةَ الإحباطِ واليأسِ المُهلِك الذي يشُلُّ تفكيرَها ويُعطِّل طاقاتِها وقُدراتِها، ويُفقِدُها الأملَ والرجاءَ بسببِ ما يفعلُه الكائِدُون والطُّغاةُ المُجرِمون، وبسبب ما تُشاهِدُه وتسمَعُه كلَّ يومٍ من مشاهِد الأسَى والألَمِ والقتلِ، التي تُساهِمُ وسائلُ الإعلام المُختلفة والتواصُل الاجتماعيُّ مُساهمةً فاعلةً في نشرِها، لتزيدَ من مُعاناةِ المُسلمين إرجافًا وإرهابًا وإضعافًا.

 

نعم، لا يجوزُ أن تشعُر الأمةُ باليأسِ وقد بشَّرَها الله تعالى بالعزَّة والنصرِ والتمكين، وخصَّها بخصائِصَ كُبرى وفضائِلَ عُظمَى ليست لأحدٍ من الأُمَم، مما يجعلُها تفتخِرُ بتكريمِ الله لها، وتُباهِي الأُممَ، وترفعُ الرأسَ عاليًا، وهي التي اختارَها الله واصطفاهَا، فتبوَّأَت عنده - سبحانه - شرفًا عظيمًا، ومكانةً وفضلاً.

 

هذا، وإنه لمن المُفيد جدًّا نشرُ هذه الفضائلِ الربَّانيَّة، والخصائِصِ الشريفةِ العليَّة، وإظهارِها لكلِّ من يشُكُّ في نصرِ الله لهذه الأمة، أو يُصابُ بالإحباطِ وفقدِ الأمل.

 

ولكي يعلَمَ الناسُ كلُّهم أن هذه الأمة المُحمديَّة هي التي يُحبُّها الله ويُعلِي قدرَها، وهي الأمةُ المنصُورةُ شرعًا وقدرًا، عاجلاً أم آجِلاً، وأن ما أصابَها من بلاءٍ ومِحنةٍ، وتسليطِ الأعداءِ، ونقصٍ في الأموال والأرزاقِ، إنما هو تمحيصٌ ورِفعةٌ وتربيةٌ لها، لتقومَ بما وكلَها الله - سبحانه وتعالى - به، (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) [آل عمران: 140].

 

وثبتَ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - في "مسند الإمام أحمد" أنه قال: «بشِّر هذه الأمةَ بالسَّناءِ والدِّينِ والرِّفعةِ والنصرِ والتمكينِ في الأرضِ».

 

أمة الإسلام:

هذه الخصائصُ الشريفةُ للأمة المُحمديَّة ثابتةٌ بنُصوص القرآنِ والسنَّة، وهي كثيرةٌ ومُتنوِّعة، وإن أعظمَها قدرًا وأثرًا: أن جعلَ الله مُحمَّدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو نبيَّها ورسولَها، فهو أعظمُ الرُّسُل وأجلُّهم، وأمَّتُه أعظمُ الأُمم قدرًا ومنزلةً ومكانةً، وهي وإن كانت آخرَ الأُمم عددًا، إلا أنها تأتي أولَ الأُمم يوم القيامة، وهي خيرُها وأكرمُها على الله - سبحانه -.

 

كما ثبتَ عند أحمد والطبرانيِّ: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّكم تُتِمُّون سبعين أمَّة، أتم خيرُها وأكرمُها على الله».

 

هذه الأمةُ المُحمديَّةُ المُبارَكة هي أمةُ الوسَط والعدل، جعلَها الله شاهِدةً وحاكمةً على الأُمم، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143].

 

فمن أثنَت عليه خيرًا وجبَت له الجنة، ومن أثنَت عليه شرًّا وجبَت له النارُ، وهم شُهداءُ الله في أرضِه، كما الملائكةُ شُهداءُ الله في سمائِه.

 

وكلُّ نبيٍّ يوم القيامة يستشهِدُ بأمةِ مُحمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - لتشهَدَ له أنه بلَّغ الرسالةَ، كما في حديث أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه -، عند البخاري.

 

وهذه الأمةُ المُباركةُ اختارَ الله لها دينَ الإسلام ورضِيَه لها، وهو أعظمُ الأديان يُسرًا وسماحةً ومحاسِنًا، ورفعَ عنها - سبحانه وتعالى - الحرجَ في العبادات والمُعاملات، (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) [الحج: 78].

ووضعَ الله - سبحانه - عن هذه الأمةِ الأغلالَ والآصارَ والرهبانيَّةَ الشديدةَ التي كانت على الأُمم قبلَنا.

 

ومن كرامةِ هذه الأمةِ على الله - سبحانه وتعالى -: أنه عصمَها من أن تجتمِع على ضلالةٍ، وحفِظَ عليها دينَها وقُرآنَها وسُنَّةَ نبيِّها - صلى الله عليه وآله وسلم -، فصمَدَت صمودًا عجيبًا في مُجملِها أمام كلِّ مُحاولات الغَزوِ الفكريِّ والثقافيِّ والأخلاقيِّ، ولم يستطِع أحدٌ أبدًا على مرِّ العُصور والدُّهور أن يتمكَّنَ من تحريفِ القُرآن والسنَّة لا لفظًا ولا معنًى، ومن حاولَ ذلك فضَحَه الله وردَّه يائِسًا بائِسًا.

 

ومن عنايةِ الله بهذه الأمةِ ورعايتِه لها: أنه يبعَثُ لها على كلِّ رأسِ مائةِ سنةٍ من الحُكَّام، والعلماءِ، والمُصلِحين من يُجدِّدُ لها دينَها، ويُذكِّرُها بما اندرَسَ من أُصول الملَّة والشريعةِ. أما غيرُنا من الأُمم فلا يأبَهُ الله بهم، فلذلك وقعُوا في التحريف والتبديلِ والضلال.

 

أمة الإسلام:

قدرُ الله تعالى على هذه الأمةِ أن تكون أقلَّ الأُمم عُمرًا في هذه الدنيا وبقاءً فيها، لكنَّها الأعظمُ بركةً في عُقولِها وفُهومِها وتجاربِها، والله - سبحانه وتعالى - يرزقُها من حقائِق الإيمان والعلومِ والمعارِفِ في فترةٍ وجيزةٍ ما تُدرِكُه الأُممُ الأخرى في أزمانٍ ودُهورٍ.

 

ومن أجلِ ذلك صارَت حضارةُ الإسلام أعظمَ الحضاراتِ بركةً وخيراتٍ وعِمارةً للأرضِ، وأزكاها وأنفعَها للبشريَّةِ من حضارَة المادَّة والشهوات والخواءِ الرُّوحيِّ.

 

وبسببِ قِصَر أعمارِ أفرادِ هذه الأمة - فهي ما بين الستِّين إلى السبعين في الغالِب - قبِلَ الله منها القليلَ من العمل، وأثابَها عليه الثوابَ الكثيرَ المُضاعَفَ الذي تفوقُ به الأُممَ قبلَنا الأطولَ أعمارًا؛ كالأُجور المُضاعفَةِ المُرتَّبة على الصلاةِ والحجِّ، وقراءة القرآن، وليلة القدر، وصيام النوافِل، والصلاة في الحرمين الشريفين وفي المسجِد الأقصَى، وغير ذلك.

 

ومن تمامِ حفظِ الله لهذه الأمةِ والعنايةِ الإلهيَّةِ بها: أنه - سبحانه - حماها من الهلاكِ العام بالغرق أو بالسنين والقَحط، ولن يُسلِّطَ الله على هذه الأمة عدوًّا من غيرها فيتمكَّن منها ويستبيحَ أصلَها وجماعتَها، ولو اجتمعَ عليها من بأقطارِها.

 

وحفِظَ - سبحانه وتعالى - هذه الأمةَ من عذابِ الاستِئصال، وليس عليها عذابٌ في الآخرة، إنما عذابُها في الدنيا بالفتن والزلازِل والمصائِب.

 

وقضَى الله - سبحانه وتعالى - أن تكون الكعبةُ البيتُ الحرام قيامًا للناسِ، وأمانًا لهم، وهُدًى للعالمين، وجعلَ مسجِد نبيِّها - صلى الله عليه وآله وسلم - منارةً للعلمِ والنور، وتكفَّل الله بالشام وأهلِها، وأورثَ - سبحانه - هذه الأمة المسجِد الأقصَى وبيتَ المقدِس، وجعلَه حقًّا مشروعًا لها، وفتحَ - سبحانه وتعالى - للأمة كنوزَ الأرضِ وخيراتِها، وجعلَها تَفيضُ بالنِّعَم الظاهرة والباطِنة، فهي أمَّةٌ مُبارَكةٌ كثيرةُ الخيرات، كالغَيثِ لا يُدرَى أولُه خيرٌ أم آخرُه.

 

أيها المسلمون:

ثبتَ في "مسند أحمد": عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «إنَّكم أمَّةٌ أُريدَ بكم اليُسرَ».

وعند البخاريِّ: «إن هذا الدِّينَ يُسرٌ».

وثبتَ عند الطبرانيِّ: «إن الله تعالى رضِيَ لهذه الأمة باليُسر وكرِهَ لها العُسرَ».

 

ومن آثارِ هذا التيسير والسماحَة: أن الله - سبحانه وتعالى - تجاوزَ عن هذه الأمة ما حدَّثَت بها أنفُسُها، ووسوسَت به صُدورُها، ما لم تكلَّم أو تعمَل، وعفا عنها - سبحانه - الخطأَ والنسيانَ وما استُكرِهُوا عليه، ويسَّر لها أمرَ طهارتها وعباداتها، وفضَّلها بالتيمُّم، وجعلَ لها الأرضَ مسجدًا وطهورًا، وخفَّف عنها الصلاةَ؛ فهي خمسٌ في الفعلِ وخمسُون في الأجر، وجعلَ صُفوفَها في الصلاةِ كصُفوفِ الملائِكةِ، وفضَّلَها وخصَّها بالتأمين خلفَ الإمام، والسلام، وصلاةِ العِشاء فلم يُصلِّها أحدٌ من الأُمم قبلَنا.

 

وهدانا - سبحانه - إلى يوم الجُمعة، وأضلَّ عنه الأُمم الأُخرى، وأكرمَنا بالغداءِ المُبارَك "السَّحُور" الذي هو فصلُ ما بيننا وبين صيامِ أهل الكتاب، وأحلَّ للأمَّةِ الغنائِم التي حرَّمها على الأُمم قبلَنا، ونصرَها ونصرَ نبيَّها - صلى الله عليه وآله وسلم - بالرُّعب، فما تزالُ الأُمم تهابُ أمَّةَ محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتُجلُّها، لما وضعَ الله لها من المكانة والهَيبَة في قلوبِ الخلقِ.

فما أعظمَ هذه الأمة! ما أعظمَ فضل هذه الأمة المُبارَكة! وما أكرمَها على الله.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقولُ قولِي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله يختصُّ برحمتِه من يشاء، ويتفضَّلُ عليهم بالنِّعَم والآلاء، وهو الحكيمُ الخبيرُ الذي يختارُ ما يشاءُ ويُكرِمُهم بالاصطِفاء، والصلاةُ والسلامُ على خيرَ الأنبياء وإمام الأتقِياء، وعلى آله الأطهارِ الأصفِياء، والصحابةِ السَّادَة النُّجَبَاء، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الحِسابِ والجزاء.

 

أما بعد، فيا أيها المسلمون:

إن العبدَ ليدهَشُ من كثرةِ الفضائِل والخصائِصِ التي تفضَّلَ الله بها على هذه الأمة المُبارَكة، ويعجَبُ من تنوُّعها وشُمولِها للعبادات والمُعاملات وشُؤون الحياةِ العامَّة والخاصَّة، حتى إن من ماتَ يوم الجُمعة أو ليلتَها وقاه الله عذابَ القبر، ومن ماتَ وهو مُرابِطٌ في سبيل الله أجرَى الله عليه أجرَه إلى يوم القيامة، وحمَاه من فتنةِ الفتَّان في القبرِ. وهذا فيه تسلِيةٌ وبِشارةٌ لإخواننا المُجاهِدين المُرابِطين على الحُدود والثُّغور، فهم في جهادٍ عظيمٍ وثوابٍ جَزيلٍ.

 

وجعلَ - سبحانه وتعالى - مرضَ الطَّاعون إذا أصابَ أحدًا من هذه الأمة رحمةً وشهادةً، بينما كان هذا المرضُ عذابًا ورِجزًا على من كان قبلَنا، كما ثبتَ في "مسند الإمام أحمد": قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الطاعونُ كان عذابًا يبعثُه الله على من يشاءُ، وإن اللهَ جعلَه رحمةً للمُؤمنين».

 

وعند الحاكمِ بسندٍ صحيحٍ: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الطاعونُ وخزُ أعدائِكم من الجنِّ، وهو لكم شهادةٌ».

 

ولم يجعل الله - سبحانه وتعالى - أجرَ الشهادة في هذه الأمة لمن يُقتلُ في سبيلِ الله في أرضِ المعركة فحسب؛ بل شُهداءُ أمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - كثيرٌ؛ فمن ماتَ بالغرق فهو شهيد، أو مات في الحريق، أو تحت الهَدم، أو أكلَه السُّبُع فهو شهيد، ومن ماتَ بداء البطن، أو بذاتِ الجَنب، أو بالسِّلِّ فهو شهيد، والتي تموتُ في نِفاسِها شهيدة، ومن قُتِل وهو يُدافِعُ عن نفسِه أو عِرضِه أو مالِه، أو سألَ اللهَ أجرَ الشهادةِ بصِدقٍ بلَّغه الله منازِلَ الشهداء ولو ماتَ على فِراشِه.

وكلُّ ذلك صحَّ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهي كرامةٌ عظيمةٌ لهذه الأمة.

 

أمة الإسلام:

ليست هذه الخصائِصُ والفضائِلُ للأمةِ في الدنيا فقط؛ بل كذلك لهم خصائِصُ في الآخرة؛ فهي أولُ الأُمم التي يُبدأُ بها في الحسابِ أمام الله - سبحانه وتعالى -، وحوضُ نبيِّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - أعظمُ أحواضِ الأنبياء وأكثرُها وُرودًا.

 

وتتميَّزُ هذه الأمةُ يوم القيامة بأنَّهم غُرٌّ مُحجَّلُون من آثار الوُضوء، سِيماهم في وُجوهِهم من أثر السُّجود، وهذه الأمةُ المُبارَكة أولُ الأُمم مُرورًا على الصِّراط، وأسبَقُ الناسِ دخولاً إلى الجنة هم فُقراءُ المُهاجِرين، يسبِقون الأغنياءَ بخمسمائةِ سنة.

 

ونبيُّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الذي يشفعُ الشفاعةَ الكُبرى للناسِ في الموقِفِ الأكبر، بعد أن يعتذِرَ عنها الأنبياءُ - عليهم صلواتُ الله وسلامُه -.

 

ونبيُّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الذي يستفتِحُ بابَ الجنة، ولا تُفتحُ الجنةُ إلا له - عليه الصلاة والسلام -، ويدخلُ الجنةَ من هذه الأمة سبعُون ألفًا بلا حسابٍ ولا عذابٍ، مع كلِّ ألفٍ سبعُون ألفًا. وفي روايةٍ صحيحةٍ: مع كلِّ واحدٍ سبعُون ألفًا.

 

وأهلُ الجنة مائةٌ وعشرون صفًّا، ثمانُون صفًّا من هذه الأمة المُبارَكة، وأربعون من سائِر الأُمم.

وسيِّدا كُهول أهل الجنة: أبو بكرٍ وعُمر - رضي الله عنهما -، وسيِّدا شبابِ أهل الجنة: الحسنُ والحُسين - رضي الله عنهما -، وسيِّدةُ نساءِ الجنة: فاطمةُ بنتُ مُحمَّدٍ - رضي الله عنها -، وصلَّى الله على أبيها وسلَّم، وسيِّدُ الشُّهداء: حمزة - رضي الله عنه -، وكلُّهم من هذه الأمةِ المُبارَكة.

 

والمُسلمُ من هذه الأمة يغفِرُ الله له ذنوبَه بالتوبة والاستِغفار بلا واسِطةٍ ولا قرابينَ للبشر، وإذا ماتَ المُسلمُ على شهادةِ التوحيدِ دخلَ الجنةَ، وإذا لقِيَ اللهَ بقُرابِ الأرضِ خطايا وهو لا يُشرِكُ به شيئًا لقِيَه - سبحانه - بقُرابها مغفرة.

 

أيها المُسلمون:

إن خصائِصَ هذه الأمة وكراماتها أكثرُ من أن تُحصَى، والحديثُ عنها حديثٌ نافعٌ ومُفيدٌ، لكي نشكُرَ الله - سبحانه وتعالى - شكرًا عظيمًا، ونُثنِي عليه الثناءَ الكبيرَ أن أكرمَنا فجعلَنا من هذه الأمة المُبارَكة أمةِ مُحمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهي والله من أجلِّ نِعَم ربِّنا علينا، التي تستوجِبُ الشُّكرَ الدائِمَ له - سبحانه -، والتفاؤُلَ والاستِبشارَ.

 

وهي نعمةٌ لها تبِعاتٌ ومسؤوليَّاتٌ عظيمة، كما قال - سبحانه -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].

 

فخيريَّةُ هذه الأمة حقٌّ ثابتٌ، والمسؤوليَّةُ مُلقاةٌ على أبناءِ هذه الأمة ليُرُوا اللهَ من أنفُسِهم خيرًا، ويظهَروا بالمُستوى اللائِقِ بهذه الخيريَّة وهذا التكريمِ الربَّانيِّ، فيقُوموا بالدِّين وينشُروه في العالمين بالوسطيَّة والاعتِدال والسَّماحة، ويأمُروا بالمعرُوف وينهَوا عن المُنكَر، ولا يكونوا كالذين اصطفاهم الله ثم أعرَضُوا وجحَدوا نعمةَ الله عليهم، وسعَوا في الأرضِ فسادًا، فغضِبَ الله عليهم، وجعلَ منهم القِرَدةَ والخنازيرَ وعبدَ الطّاغُوت.

 

ولا يجوزُ أن يتَّخِذَ البعضُ مما ذُكِر من الفضائلِ مُتَّكأً لمزيدٍ من الخُمول والضَّعفِ والتخاذُل، فإن للنصر أسبابًا وللتمكين أسبابًا، كما أن لنزول العذاب والعقاب أسبابًا، وتلك سُنَّةُ الله الجارِيةُ التي لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّرُ.

 

ألَم ترَ أن الله قالَ لمريَمٍ *** وهُزِّي إليكِ بالجِذعِ يسَّاقَطِ الرُّطَب

ولو شاءَ أن تَجنِيهِ من غير علَّةٍ *** جنَتْه، ولكن كلُّ شيءٍ له سبَب

 

ثم صلُّوا وسلِّموا على سيِّد البشرية وهادِيها وسِراجها المُنير، فإن الله - عز وجل - قد أمرَنا بالصلاة والسلام عليه؛ حيث قال في مُحكَم تنزيله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

 

وثبتَ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».

 

فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على عبدِك ورسولِك نبيِّنا وحبيبِنا وسيِّدنا محمدٍ، وعلى آله وأزواجه وذريَّاته وصحابتِه الكرام، وخُصَّ منهم: أبا بكر الصدِّيق، وعُمر الفاروق، وعُثمان ذا النُّورَين، وعليًّا أبا الحسَنَين، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين.

اللهم اجعَل بلدَنا هذا بلدًا آمًنا مُطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلاد المُسلمين.

اللهم انصُر دينَك، وكتابَك، وسُنَّةَ نبيِّك، وعبادَك الصالِحين.

 

اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالهم في الشام، وفي فلسطين، وفي العراق، وفي اليمن، يا رب العالمين.

اللهم وفِّق وُلاةَ أمور المُسلمين للعمل بكتابِك، وسُنَّة نبيِّك يا رب العالمين.

 

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضاه، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضاه، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه صلاحُ العباد والبلاد، واجعَلهم مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشرِّ برحمتِك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم انصُر إخواننا المُجاهدين المُرابِطين على الحدود، اللهم انصُر إخواننا المُجاهدين المُرابِطين على الحدود، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا رب العالمين.

 

اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافِنا واعفُ عنَّا، وارزُقنا واجبُرنا، وارفَعنا ولا تضَعنا برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنا نسألُك فعلَ الخيرات، وتركَ المُنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفرَ لنا وترحمَنا، وإذا أردتَّ بخلقِك فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتُونين.

 

اللهم إنا نسألُك حبَّك، وحبَّ من يُحبُّك، وحبَّ كلِّ عملٍ يُقرِّبُنا إلى حبِّك، برحمتِك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُروه على نعمه وآلائِه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.

 

 

المرفقات

وفضائل الأمة المحمدية

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات